وُجدَ شرح "المعمودية" مقسمًا إلى جزءين تحت اسم القديس باسيليوس رئيس أساقفة قيصرية الكبادوك، وذلك في المجلد رقم 31 من مجموعة "الآباء اليونانيين" Patrologia Graeca الذي ألّفه ميني Migne. وقد استقر رأي العلماء لعدة أجيال على الاعتراف بأصالة نص هذا الموضوع ومعه أيضًا كتابات القديس النسكية التي رجع إليها كثيرًا أثناء (كتابة) هذا النص.
ويتضح للقارئ أن القديس يتكلم هنا عن معمودية البالغين، ولكنه لا يركز تعليمه عن طقوس سر المعمودية كما فعل القديسان كيرلس الأورشليمي ويوحنا ذهبي الفم، إنما ركز على استعدادات الشخص (الموعوظ) المقبل على نوال هذا السر المقدس وما يعنيه السر لحياة المؤمنين والواجبات التي تترتب على نواله.
![]() |
وهو يسهب في شرح وجهة نظره في جزءين مترابطين:
الأول: يحوي ثلاث فصول أولها عن ضرورة تبعية الرب قبل نوال السر، والثاني عن المعمودية ذاتها والثالث عن الإفخارستيا، أي صلاة القداس الملازم للمعمودية. والفصل الثاني هو في الحقيقة جوهر موضوع الجزء الأول حيث يعتبر أن الإفخارستيا هي غذاء المعمّد ولا تنفصل عن سر المعمودية، وحيث تقابل القارئ نقاط قيّمة تلّخص له الأفكار الرئيسية وتبلورها.
أما الجزء الثاني: فيعرض فيه القديس باسيليوس الموضوع السابق في صورة أسئلة وأجوبة، ولكنه يُعتبر امتدادًا للجزء الأول، وفيه يرد على سؤال عن معنى التعميد باسم الآب والابن والروح القدس. ورغم التكرار في الكلام إلا أن هدف الكاتب يظل واضحًا.
والكاتب القديس يتكلم بطلاقة وسلاسة كمن ملك ناصية الموضوع مجيبًا فيه على أسئلة السامعين، وحتى النقاط الجوهرية التي لم يستفسروا عنها مستخدمًا التشبيه والاستعارة من أمور الحياة الشائعة. ويستعمل القديس كلمة "تقواكم" التي تدل على أن كتابه هذا موجهًا إلى أًناس من الكنيسة كما كانت العادة في القرن الرابع. ومن المرجح أنه كان يخاطب رهبانًا وكهنة ويجيب على أسئلتهم، وواضح أن أسئلتهم تطرقت إلى النفوس الموكلة إليهم. كما أن هناك تشابه بين النذور الرهبانية وتعهّد المعمّد بترك الخطية والالتصاق بالمسيح، فالنذور الرهبانية هي تجديد لنذور المعمودية، وهذا يجعلنا نفهم لماذا وجّه الرهبان تلك الأسئلة، كما تُشعرنا أسئلتهم بجدّية حياتهم الروحية.
ويرى بعض العلماء أن كتاب "المعمودية" هذا كتبه القديس باسيليوس في الفترة بين سنتي (371، 379م.)، ولكن البعض الآخر يرجح أنها كُتبت نحو عام 366م. وينبغي أن ننظر إلى هذا المؤلَّف في إطار تمسك القديس باسيليوس بالاتجاه التصوفي الذي به أحيا القديس أوستاثيوس تقليد الكنيسة الأصلي والتزامه الصارم بالإنجيل، حيث أنه معروف عن القديس باسيليوس أنه كان راهبًا وأسس جماعة رهبانية تأثر في تنظيمها بما رآه في الأديرة الشرقية في مصر وفلسطين وسوريا ولاسيما الأديرة الباخومية في صعيد مصر.
وقد اهتم الكاتب بالتأكيد على صحة عقيدة أن عقاب الأشرار سيدوم في الأبدية، وعلى فاعلية سر الإفخارستيا وقوة سر المعمودية، وكل هذا ردًا على بعض المبادئ الهدّامة التي ظهرت في أيامه، وذلك دون أن يستخدم أي أسلوب جدلي أو يذكر أي شخص باسمه من أصحاب تلك المبادئ الخاطئة. وهو يستقي مبادئه اللاهوتية من الكتاب المقدس بطريقة تلقائية ولاسيما من رسائل القديس بولس. أما الآيات التي استشهد بها من العهد القديم فقد كانت دائمًا من الترجمة السبعينية لأنه يحترمها جدًا ولاسيما سفر المزامير. كما أنه جمع بعض الصلوات من هذه الترجمة ليساعد المؤمنين على استعمالها في الكنيسة أو في الحياة الشخصية اليومية. كما أنه يبرز أمثلة من شخصيات العهد القديم للتشّبه بها. كذلك فهو يورد بعض أحداث نبوية من العهد القديم يشير بها إلى العهد الجديد الذي يرى أنه استمرار للعهد القديم الذي يتألق كلامه خلال شخص المسيح. وهو يورد آيات العهد الجديد من ترجمة اللغة اليونانية الحديثة "Koiné Bysantine". وهو يعتمد على الآية "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (مت 28: 19) كأساس لكتابه كله.
كذلك فإن القديس يهتم بمعنى كلمة "تلمذوا"، وبالولادة من الماء والروح التي ذكرها الرب في (يو3)، بالإضافة إلى تعاليم بولس الرسول مثلما جاء في (رو6). كما أنه يقارن بين معمودية المسيح ومعمودية يوحنا المعمدان الذي قال "أنا أعمدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي... سيعمدكم بالروح القدس ونار" (مت 3: 11؛ لو 3: 16).
ويوضح القديس باسيليوس في كتابه أهمية الصلاة على الماء قبل التعميد، حيث أن الروح القدس كما كان يرف على وجه المياه عند خلقة العالم، فهو يعمل ب "سر الموت والقيامة" في التغطيس في الماء المقدس حيث أننا "نعتمد لموته" حسب قول الرسول بولس. وهكذا يصير جرن المعمودية قبرًا للمعمد يدل على قبوله أن يتألم حتى الموت والدفن لكي ينال "سر القيامة" الذي به يولد ولادة روحية جديدة فيشع منه نور مجد المسيح القائم من الموت. وهكذا فإن الولادة من فوق تحول الخاطئ الميت روحيًا إلى ابن لله!
ويعتبر القديس باسيليوس أن المعمودية هي افتتاح الحياة المسيحية، وفيها نستعيد صورتنا الإلهية المفقودة بالخطية، وأنها تصدّق (تصادق) على عهدنا بألا نعيش فيما بعد لأنفسنا بل للذي مات عنا وقام، فهي ختم العهد الجديد كما كان الختان هو ختم العهد القديم. فهي إذًا تتعدى مجرد كونها طقس للتطهير، وتتفوق بما لا يُقاس على معموديتي موسى والمعمدان.
كما أن القديس يعتبر أن النار التي ذكرها يوحنا المعمدان في المعمودية التي ننالها من المسيح ما هي إلا الروح القدس ذاته، وأن معمودية النار هي كلمة المسيح التي ينعتها بالصفة التي تعني "الحارقة أو الملتهبة" لأنها هي التي تحرق كل التواء في الإنسان وتعلّمه السلوك المسيحي. ثم يذكر قول الرب "جئت لألقي نارًا على الأرض" (لو 12: 49). كما يؤكد المؤلف على ضرورة التعمق في دراسة الإنجيل قبل سر المعمودية (بالنسبة للبالغين بالطبع) معتمدًا في ذلك على الآية التي يقسمها إلى شقين وهي "اذهبوا وتلمذوا" ثم "عمدوهم". وعلى ذلك فإن معمودية النار تختص بالموعوظين المستعدين للموت، الذين لم يدرسوا الكتاب فحسب، بل تعلّموا أيضًا أن يستندوا على النعمة الإلهية في حياتهم اليومية كتلاميذ للرب يحملون صليبه، لأن كلمات الرب هي كنار مطهرة!
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وعندما يخرج المعتمد من الجرن المقدس يصير كامل الإيمان ومدعوًا للمشاركة في جميع الأسرار الكنسية وأولها الإفخارستيا، ولذلك يختم القديس كتاب المعمودية بفصل عن هذا السر المقدس. ومن هنا فإن جميع ليتورجيات المعمودية المعروفة في القرون الأولى تذكر أن المعتمد يُقتاد إلى المائدة المقدسة، وكانوا يعتبرون الأسرار الثلاثة "المعمودية والتثبيت (الميرون) والإفخارستيا": سر المعمودية الشامل.
وإن كان القديس باسيليوس قد تأثر في كتاب المعمودية ببعض أفكار الفلاسفة اليونانيين القريبة من الإيمان المسيحي، إلا أن اقتباساته المستمرة من الكتاب المقدس تُظهر كيف استخدم معرفته الإنجيلية لمنفعة النفوس. كما أنه حذّر من التشكك في أي مبدأ إنجيلي، فالثقة بالحق الإلهي الناتجة عن الإيمان ينبغي أن تكون بدون مجادلة أو تردد، لأننا لن نبلغ إلى فهم شيء إن لم يكن بالإيمان. كما أنه يضع المبادئ الإنجيلية أمام القارئ بطريقة قاطعة لا تقبل الحلول الوسط، محذرًا من الدينونة ليس للخطاة فحسب، بل أيضًا للمتهاونين والذين يعملون عمل الرب برخاوة.
والقديس لا يُظهر الله في كتابه كقاضي (ديان) عادل فحسب، بل أيضًا كنموذج يُحتذى به: رجل أوجاع، حاملًا ثقل الصليب، مطيعًا للآب حتى الموت، وكقدوة لتلاميذه في طريق إنكار الذات وإخلائها حتى لو كانت حياتهم هي الثمن. وهو وإن كان يورد عدة مرات أقوال العهد الجديد ولاسيما الرسول بولس -بخصوص إماتة الجسد وصلبه مع شهواته- إلا أنه لا يهتم بأعمال الإماتة بمظاهرها الخارجية مثل إنقاص احتياجات الجسد بالأصوام والأسهار، ولا يشجع على أعمال البطولات النسكية، بل إنه يفضّل الإقتداء بالقديسين. فالأهم في نظره هو الاستعداد الداخلي مع الرفض المطلق للمشيئة الذاتية، ويوصي أيضًا بالجهاد دون هوادة في خدمة الله بشعور المخافة من الدينونة الإلهية مع أبوة الله وحبه للبشر. فمخافة الله وحبه يجب أن يلازما المؤمن المعتمد، لأن خوفه من غضب الله ودينونته يجنّبه السقوط في الخطية، كما أنه حبه لله يقدّسه وبالتالي يجعله مقبولًا عند الله.
_____
(26) مختصرة من مقدمة النص الفرنسي.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/basil-baptism/introduction.html
تقصير الرابط:
tak.la/wyx8267