حينما ولد يوحنا المعمدان امتلأ زكريا أبوه الكاهن من الروح القدس وتنبأ قائلًا: "مبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد وصنع فداءً لشعبه. وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه. كما تكلّم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر" (لو1: 68-70).
كان زكريا يتكلم عن تجسد الله الكلمة في بطن العذراء القديسة مريم الذي بدأ قبل كلامه هذا بنحو ثلاثة أشهر، ولم يكن السيد المسيح قد وُلد بعد من العذراء. ولكن الروح القدس نطق على لسانه بكلمات هذه النبوة.
والعجيب أنه قال إن الرب الإله قد افتقد وصنع فداءً لشعبه كما لو كان الخلاص قد تم. ولكن كثير من النبوات ذُكرت بصيغة الماضي قبل حدوثها بآلاف أو مئات السنين.
فمثلًا قيل عن مجيء السيد المسيح إلى مصر "من مصر دعوت ابني" (هو11: 1).
وقيل عن صلبه "ثقبوا يديّ ورجلي.. يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" (مز22: 16، 18).
وقيل عن ذبح أطفال بيت لحم "صوت سُمع في الرامة نوح بكاء مر. راحيل تبكي على أولادها وتأبى أن تتعزَّى عن أولادها لأنهم ليسوا بموجودين" (أر31: 15).
ولكن لأن مواعيد الله هي بلا ندامة ولأنه معلوم عند الله أعماله منذ الأزل وكما قيل عن صلب السيد المسيح "مُسلَّمًا بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق" (أع2: 23). لذلك فإن النبوة ترتفع فوق الزمان وتتكلم عن الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة، أو عن الأشياء التي بدأت وكأنها قد تمت بالفعل.
كان الخلاص قد بدأ بتجسد الكلمة في بطن العذراء وتكلم زكريا بالروح القدس وقال إن الرب الإله قد "افتقد وصنع فداءً لشعبه" (لو1: 68).
وحينما دخلت السيدة العذراء إلى الهيكل وهي تحمل الطفل يسوع بعد ولادته بأربعين يومًا حمله سمعان الشيخ على ذراعيه وبارك الله وقال "الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام. لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب نور إعلان للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل" (لو2: 29-32). كان سمعان الشيخ قد "أتى بالروح إلى الهيكل" (لو2: 27) ونطق بهذه الكلمات بوحي من الروح القدس الذي كشف له أن هذا الطفل هو المسيح مخلص العالم. وقال إن عينيه قد أبصرتا خلاص الرب لأنه أبصر الكلمة المتجسد. وإن كان قد أوضح أيضًا أنه هو الخلاص المعد أمام وجه جميع الشعوب، فالخلاص من الناحية الزمنية لم يكن قد أكتمل بعد، ولكنه من ناحية تحقيق الوعد قد بدأ بتجسد الكلمة. والنبوة كما قلنا ترتفع فوق الزمان لأنها بوحي من الروح القدس.
ونلاحظ أن زكريا الكاهن قد أشار بالروح القدس إلى أهمية تحقيق النبوات التي أوحى بها الروح القدس بقوله "كما تكلّم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر" (لو1: 70).
لم تكن النبوات قد قيلت في زمن قريب بل منذ آلاف السنين، ودوِّنت في الأسفار أي الكتب المقدسة، بداية من سفر التكوين إلى سائر أسفار العهد القديم واستغرق كتابتها قرابة ألف وستمائة عام قبل مجيء السيد المسيح بالجسد.
إن أحد أسباب قوة المسيحية هو استنادها إلى عديد من الرموز والنبوات الواضحة التي تحققت في مجيء السيد المسيح، والتي مازالت محفوظة إلى يومنا هذا في أيدي اليهود الذين رفضوا السيد المسيح وناصبوه العداء وحكموا عليه بالموت.
أكمل زكريا الكاهن أقواله النبوية الرائعة إلى قوله "بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المشرق من العلاء ليضئ على الجالسين في الظلمة وظلال الموت لكي يهدي أقدامنا في طريق السلام" (لو1: 78، 79).
إن الله قد سبق أن قال لموسى النبي عندما ظهر له في هيئة نار مشتعلة في عليقة في البرية "إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. إني علمت أوجاعهم فنزلت لأنقذهم" (خر3: 7، 8).
ما أجمل عبارة "بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا".. إن أحشاء رحمة الرب تعني رحمته العميقة الناشئة عن محبته الجياشة والفياضة التي تتحرك نحونا باستمرار. وقد استخدم أيضًا القديس بولس الرسول هذا التعبير بقوله: "فإن الله شاهد لي كيف أشتاق إلى جميعكم في أحشاء يسوع المسيح" (فى1: 8).
إن الرب يشعر بآلامنا ومذلتنا وأوجاعنا.. وقد رأى كيف تمزّقت البشرية في مخالب الشيطان القاسي الذي لا يرحم.. وتحركت أحشاء رحمته ونزل ليخلصنا وينقذنا من فم الأسد، كما خلّص داود النبي أحد خرافه من فم الأسد والدب (انظر 1صم17: 34-37). ولازال الرب هو نفسه يرى آلام شعبه ويعمل من أجل راحتهم ونجاتهم.
والرب نفسه قال أيضًا: "من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين الآن أقوم يقول الرب أصنع الخلاص علانية" (مز 12: 5)(1).
إن صراخ البشرية قد وصل إلى أذني رب الجنود وقام الآب السماوي بتجهيز كل شيء من أجل خلاص البشرية، "لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة مولودًا تحت الناموس.. لننال التبني" (غل4: 4، 5). وفي إعداده للخلاص أعطى وعودًا وعهودًا.. وكان الثالوث القدوس يعمل بكل قوة من أجل إتمام الخلاص. فكل ظهورات الله في العهد القديم هي ظهورات للابن الوحيد قبل التجسد وكل النبوات نطق بها الروح القدس على فم الأنبياء القديسين الذين هم منذ الدهر. والآب السماوي أرسل ابنه الوحيد لإتمام الفداء، وأرسل موعده بالروح القدس ليقود الكنيسة لاقتناء الفداء، كما أنه قد دبّر مع الابن والروح القدس كل شيء من أجل خلاص البشرية ومنحها المواهب والعطايا النازلة من عند أبي الأنوار.
أما في قول زكريا الكاهن "المشرق من العلاء" فإن هذا يذكرنا بقول ملاخي النبي "ولكم أيها المتّقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها" (ملا4: 2). إن شمس البر هو السيد المسيح الذي فتح ذراعيه مثل جناحين على الصليب من أجل شفائنا من مرض الخطية. وهو الذي أظهر لنا نور الآب بل أنه هو نفسه بهاء مجد الآب "الذي وهو بهاء مجده.." (عب1: 3)، كما أن الروح القدس هو الذي ينير عقولنا وقلوبنا حتى نتغنى ونقول مع المرنم "بنورك نرى نورًا" (مز36: 9).
_____
(1) (مز 11: 5) في الأجبية، ترجمة أخرى: "مِنِ اغْتِصَابِ الْمَسَاكِينِ، مِنْ صَرْخَةِ الْبَائِسِينَ، الآنَ أَقُومُ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَجْعَلُ فِي وُسْعٍ الَّذِي يُنْفَثُ فِيهِ".
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bishoy/christ/zacharia.html
تقصير الرابط:
tak.la/kyp2sj8