تكلّم السيد المسيح في حوار مع اليهود وأورد ذلك القديس يوحنا الإنجيلي كما يلي: "نادى يسوع وهو يعلّم في الهيكل قائلًا: تعرفونني وتعرفون من أين أنا، ومن نفسي لم آت، بل الذي أرسلني هو حق، الذي أنتم لستم تعرفونه. أنا أعرفه لأني منه وهو أرسلني" (يو7: 28، 29).
قال السيد المسيح ذلك ردًا على كلام اليهود عنه: "هذا نعلم من أين هو، وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو" (يو7: 27). لم يفهموا أن السيد المسيح قد جاء من السماء وتجسد من السيدة العذراء بدون زرع بشر، بل اعتقدوا أنه كان ابنًا طبيعيًا للقديس يوسف وللعذراء مريم. وبذلك اعتبروا أنهم يعرفون من أين هو. وكانت معرفتهم غير سليمة. لأن سر التجسد الإلهي كان مخفيًا عن عقول الأشرار.
لكن السيد المسيح بالرغم من أنه لم يتكلم وقتها صراحةً عن الميلاد العذراوي، إلا أنه أشار إلى ولادته من الآب قبل كل الدهور وإلى إرسال الآب له إلى العالم أي تجسده في ملء الزمان.
وقد لخص السيد المسيح الحقائق المختصة بميلاده حسب لاهوته من الآب قبل كل الدهور، وولادته من العذراء مريم بحسب ناسوته في ملء الزمان بقوله عن علاقته بالآب السماوي "لأني منه، وهو أرسلني" (يو7: 29).
إنها عبارة قصيرة مكونة من شطرين أقصر منها. ولكنها تحمل حقائق عقائدية في منتهى القوة والأهمية.
الشطر الأول من العبارة "لأني منه"تشير إلى ولادة الابن الوحيد من الآب بنفس جوهر الآب. وهذا هو الميلاد الأول للابن الكلمة.
والشطر الثاني من العبارة "وهو أرسلني"تشير إلى إرساله من قِبَل الآب إلى العالم ليتجسد من العذراء مريم. وهذا هو الميلاد الثاني للابن الكلمة.
جميل جدًا أن يقول الابن عن نفسه أنه من الآب. أي أن له نفس طبيعة الآب وجوهره.
وكما شرح قداسة البابا شنودة الثالث -أطال الرب حياته- كمثال فإن العقل الذكي يلد فكرًا ذكيًا، والعقل القوي يلد فكرًا قويًا، والعقل الحكيم يلد فكرًا حكيمًا، والعقل المقدس يلد فكرًا مقدسًا. أي أن العقل يلد فكرًا له نفس جوهر العقل، أي أن جوهرهما واحد. والعقل يلد الفكر في داخله دون أن ينفصل منه، وإن خرج الفكر منطوقًا به ككلمة فإنه أيضًا لا ينفصل من العقل بل هو كائن فيه على الدوام.
وفي حوار السيد المسيح مع اليهود الذين قالوا إنهم يعرفون من أين هو، استنكر هو ذلك لأن مصدره هو الآب، ولم يكن اليهود يفهمون ذلك. ورد السيد المسيح على كلامهم بقوله إنهم لا يعرفون الآب، أما هو فيعرفه بالتأكيد لأنه منه "ولستم تعرفونه. وأما أنا فأعرفه" (يو8: 55).
ونفس الشيء قاله معلمنا بولس الرسول عن الروح القدس: "لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله" (1كو2: 10).
فالابن لأنه من الآب بالولادة، فهو يعرف الآب معرفة كاملة مطلقة غير محدودة. وكذلك الروح القدس لأنه من الآب بالانبثاق، فهو يعرف الآب معرفة كاملة مطلقة غير محدودة.
واقتران كلام السيد المسيح عن معرفته للآب مع قوله عن ولادته من الآب "لأني منه"، يؤكد أنه كان يتحدث في هذا الشطر من العبارة عن العلاقة الفائقة التي تربط الابن بالآب في الجوهر الإلهي الواحد، أي عن أن الابن مولود من الآب بنفس جوهره وطبيعته.
يقول معلمنا بولس الرسول: "لما جاء ملء الزمان؛ أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس" (غلا4: 4، 5).
فعبارة السيد المسيح "وهو أرسلني"تشير إلى إرسال الابن الوحيد إلى العالم مولودًا من امرأة، ليفتدي العالم من لعنة الخطية.
وقد كرر السيد المسيح كثيرًا في الأناجيل، وبخاصة ما سجله القديس يوحنا في إنجيله، أن الآب قد أرسله إلى العالم. وتكرر ذكر هذه الحقيقة عشرات المرات.
وكمثال لذلك نرى السيد المسيح يذكر إرسال الآب له عدة مرات في الأصحاح الثامن من إنجيل معلمنا يوحنا كما يلي: "أنا والآب الذي أرسلني" (يو8: 16)، "ويشهد لي الآب الذي أرسلني" (يو8: 18)، "لكن الذي أرسلني هو حق" (يو8: 26)، "والذي أرسلني هو معي" (يو8: 29)، "لأني لم آتِ من نفسي، بل ذاك أرسلني" (يو8: 42).
إن تأكيد السيد المسيح على إرسال الآب له يحمل من جانب: تمجيدًا للآب السماوي، بمعنى أن كل ما يفعله الابن من أجل خلاص العالم هو بتدبير من الآب والابن والروح القدس، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. مثلًا نقول في التسبحة (لأنه بإرادته ومسرة أبيه والروح القدس أتى وخلصنا) (ثيئوطوكية يوم الثلاثاء qeotokia). لذلك كان السيد المسيح دائمًا يؤكد أنه لا يعمل وحده بل يعمل هو والآب الذي أرسله. فعمل الثالوث هو واحد بالرغم من تمايز دور كل أقنوم في العمل الواحد.
ويحمل من الجانب الآخر: إبرازًا لحقيقة صدق إرساليته وارتباطها بالآب السماوي وذلك بشهادة الآب له.
وحينما تكلّم السيد المسيح مع نيقوديموس عن صلبه من أجل خلاص العالم قال له: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 16).
إن الصليب ليس فقط تعبيرًا عن محبة المسيح لنا باعتباره ابن الله الوحيد، بل هو أيضًا تأكيدًا على محبة الآب لنا.
إن المحبة الصادرة من الثالوث هي محبة واحدة، وكما وصفها الآباء القديسون هي [من الآب بالابن في الروح القدس]. فالأقانيم الثلاثة يحبوننا بنفس المقدار وبنفس القوة.
وقد ذكر القديس إشعياء النبي اشتراك الروح القدس في إرسالية الابن الوحيد إذ سجل ذلك على لسان السيد المسيح "منذ وجوده أنا هناك والآن السيد الرب أرسلني وروحُه (بضم الحاء)" (إش48: 16). فالروح القدس ورد في هذا النص في صيغة الفاعل وليس المفعول به، أي هو والآب قد أرسلا الابن إلى العالم.
ما أعظم هذه الإرسالية التي جعلتنا نتمتع بظهور الله الكلمة في الجسد. وما أروع هذا التدبير الإلهي الذي جعلنا ننعم بحضور الله معنا تحقيقًا لنبوة إشعياء النبي "هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا" (مت1: 23)، (انظر إش7: 14).
لم تعد عبارة "الله معنا" هي على سبيل التمني أو الإحساس فقط بمعونة الله، ولكنها تحولت إلى حقيقة تلامست معها البشرية فأمسكت بالحياة الأبدية. وهذا ما عبّر عنه القديس يوحنا الرسول في رسالته الأولى "الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا" (1يو1: 1، 2).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bishoy/christ/sent.html
تقصير الرابط:
tak.la/35gyrjg