كان السيد المسيح يعمل من أجل خير الناس وخلاصهم وراحتهم وشفائهم، ولكن لم يكن إعجاب الجموع به يجتذبه نحوهم على الإطلاق..
كانت محبته هي التي تدفعه لأن يعمل في وسط الجموع، وليس طلبًا لمجد الناس. فالمحبة دائمًا تريد أن تعطي.. حتى إنها تبذل نفسها من أجل الآخرين.
وقد أبرزت الأناجيل المقدسة هذا الأمر بوضوح في عديد من المواقف. ومن أمثلتها ما يلي:
بعدما "أخرج شياطين كثيرة، ولم يدع الشياطين يتكلمون لأنهم عرفوه" (مر1: 34). يذكر معلمنا مرقس الواقعة التالية:
"وفي الصبح باكرًا جدًا قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء، وكان يصلي هناك. فتبعه سمعان والذين معه. ولما وجدوه قالوا له إن الجميع يطلبونك. فقال لهم: لنذهب إلى القرى المجاورة لأكرز هناك أيضًا لأني لهذا خرجت. فكان يكرز في مجامعهم في كل الجليل، ويخرج الشياطين" (مر1: 35-39).
* كان السيد المسيح يتوقع أن تأتي الجموع إليه بغزارة شديدة بعد أن صنع كثير من المعجزات، وأخرج شياطين كثيرة، وهو الأمر الذي لم يسبقه إليه أحد من الأنبياء الذين صنعوا معجزات منذ القديم، إذ لم يكن لأحد سلطان على الشيطان مثل هذا السلطان العجيب.
وقبل أن تحضر هذه الجموع قام باكرًا جدًا في الصباح، ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلي هناك..
* تُرى ماذا كان يقول للآب السماوي في صلاته هذه؟ لعله كان يكلمه عن "شقاء المساكين وتنهد البائسين" (مز11: 5) الذين تسلط عليهم إبليس، ورغبته الحارة في خلاصهم.. أو لعله كان يشكره من أجل محبته الأبوية الفياضة، التي حررت كثيرًا من البشر من سلطان الشيطان، والتي أكدّت أن ملكوت الله قد أقبل..
هذه المناجاة الممتلئة من الحب المتبادل بين الآب والابن؛ وهذا الاتضاع الذي سلك فيه الابن الوحيد، حينما أخلى ذاته آخذًا صورة عبد، وهذه الطاعة العجيبة التي قدّمها السيد المسيح لأبيه السماوي.. لاشك أنها قد أسعدت قلب الآب القدوس. إنها علاقة الثقة والحب بين الله والإنسان، التي حققها الكلمة المتجسد في علاقته بالآب "باركت طبيعتي فيك، أكملت ناموسك عني.." (القداس الغريغوري).
كان يحلو للسيد المسيح أن يخلو مع الآب، ليتكلّم معه، حديث من يصنع للآب كل مشيئته. وقد علّمنا السيد المسيح بمثاله الصالح أهمية الخلوة والصلاة والحديث مع الله. فالصلاة هي التي تجعلنا نفهم مشيئة الله في حياتنا. وهي فرصة للتعبير عن حبنا وشكرنا لأبينا السماوي. كما إنها فرصة لتسبيحه وتمجيد اسمه "ليتقدس اسمك" (الصلاة الربانية).
كانت الصلاة بالنسبة للسيد المسيح هي فرصة لتأكيد دور الآب السماوي في إرسالية الابن الوحيد، ولتأكيد الوحدة الجوهرية القائمة بين أقانيم الثالوث القدوس: الآب والابن والروح القدس.
* حينما وصلت الجموع وبحثوا عن السيد المسيح ولم يجدوه، سألوا عنه تلاميذه. وهؤلاء بدورهم بحثوا عنه حتى وجدوه في خلوته المقدسة. فقالوا له: "إن الجميع يطلبونك" (مر1: 37).
كان إحساس التلاميذ بأهمية الجموع مختلفًا عن إحساس السيد المسيح.. وكانت نظرتهم للموضوع، في ذلك الوقت، تختلف عن نظرته.
فأجابهم: "لنذهب إلى القرى المجاورة"..
لم يكن للجماهير تأثير ولا جاذبية تعطل قصد الآب السماوي في إرسالية السيد المسيح. ولهذا قال: "لنذهب إلى القرى المجاورة لأني لهذا خرجت"..
لقد خرج من عند الآب وأتى إلى العالم، وأيضًا يترك العالم ويمضي إلى الآب.. وكانت الإرسالية قصيرة في مدتها، عميقة في تأثيرها..
ولم يكن العالم قادرًا أن يجتذب السيد المسيح نحوه ليبقى فيه، بل كان مشتاقًا أن يمضي إلى الآب، وكان العمل كبيرًا متسعًا للكرازة بالتوبة وباقتراب ملكوت الله..
وكان السيد المسيح يرى الصليب ماثلًا أمام عينيه باستمرار، كطريق نحو السماء، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وهو الذي قال لتلاميذه بعد قيامته "كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده" (لو24: 26).
وفي سعيه نحو الصليب، لم يكن هناك متسع من الوقت للانشغال بالجموع وإعجابها، كما لم يكن هناك متسع في القلب لمثل هذه الأمور.. بل كان القلب ساعيًا مثبتًا نحو الجلجثة.
وبالفعل ترك السيد المسيح ذلك الموضع إلى القرى المجاورة، وكان يكرز في مجامعهم ويخرج الشياطين.
يذكر أيضًا معلمنا مرقس الإنجيلي الواقعة التالية:
"واجتمع الرسل إلى يسوع، وأخبروه بكل شيء، كل ما فعلوا وكل ما علموا، فقال لهم تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء واستريحوا قليلًا. لأن القادمين والذاهبين كانوا كثيرين. ولم تتيسر لهم فرصة للأكل. فمضوا في السفينة إلى موضع خلاء منفردين" (مر6: 30-32).
وكان السيد المسيح يُقدِّر أهمية الراحة والخلوة بالنسبة لتلاميذه، وفي فترات الاختلاء بهم كان يحدثهم أحاديثًا خاصة، ويشرح ويفسّر لهم الكثير من تعاليمه. كما أنه قد اختارهم ليكونوا معه ليتتلمذوا على يديه، ويتمثلوا به، وبمحبته، ووداعته، وصفاته الجميلة التي كانوا هم في أشد الاحتياج إليها. كان السيد المسيح يعلمهم بأفعاله أكثر مما يعلمهم بأقواله.
وما حدث بعد ذلك أن "رآهم الجموع منطلقين، وعرفه كثيرون، فتراكضوا إلى هناك من جميع المدن مشاة وسبقوهم واجتمعوا إليه. فلما خرج يسوع رأى جمعًا كثيرًا فتحنن عليهم، إذ كانوا كخراف لا راعي لها" (مر6: 33، 34).
ضحى يسوع براحته بدافع من حنانه. ولكنه كان يميل إلى الاختلاء مع تلاميذه، بعيدًا عن الجموع، التي كانت تلاحقه وهو لم يكن يمنع محبته عنها، ويعلم تلاميذه باستمرار، كيف أن المحبة لا تطلب ما لنفسها.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bishoy/christ/run.html
تقصير الرابط:
tak.la/yxp7b86