لقد كان التسبيح بالمزامير، وسط الجماعة الرهبانيّة، ممارسة نسكيّة خارجيّة exterior هامّة للغاية، مع الصوم والسهر وحفظ الصمت، وكان يُؤكِّد على تلك الممارسات كلّ آباء البريّة تقريبًا، في نهاية القرن الرابع(1).
فالتسبيح بالمزامير هو الممارسة التي تشغل يوم الراهب بأكمله، فقد كان السهر (الذي كان يقضيه الراهب، غالبًا، في ترتيل المزامير) مُحدَّدًا بتلك السواعي التي كان من المفترض على الراهب أن ينام فيها، كما كان الصوم مرتبط بالوقت المُخصّص لتناول الطعام، كذلك الصمت يظهر في الوقت الذي يكون متاحًا للشخص أن يشترك في حوارٍ. ولكن، على الجانب الآخر، كان ترتيل المزامير يشغل كلّ وقت اليقظة في يوم الراهب، تقريبًا.
لقد كان هناك ميعادان رسميّان للصلاة في كلاًّ من نتريا والقلالي(2)، يوميًّا. فخدمة السهر كان يُحتفَل بها قبل الفجر، بينما خدمة الغروب كانت في أوّل اللّيل (في ساعة الغسق عند غروب الشمس)؛ وكانت الخدمتان ذا صبغة جماعيّة في منطقة القلالي، خاصّةً في نهاية الأُسبوع، بينما كان يُحتفَل بهما بشكلٍ فردي في القلالي الخاصّة بالمتوحّدين، وكان يُرتَّل في كلّ خدمة منهما اثنا عشر مزمورًا “قانونيًّا”(3) وكان يعقب كلّ مزمور، صلاة، بينما كان ترتيل المزامير أو ترديد بعض المقاطع الكتابيّة؛ “الهذيذ” μελετη يمثّل خلفيّة لأيّ عمل يقوم به الراهب في باقي اليوم، أو في السواعي التي يظلّ فيها الراهب ساهرًا باللّيل.
لقد ارتكزت تلك الممارسة، الخاصّة بالترتيل غير المُنقطِع للمزامير أو التأمُّل في الكتاب المُقدَّس، على القول الأوّل (4)first apophthegm الوارد في المجموعة (المفهرسة حسب المواضيع) اليونانيّة Greek Systemic Collection فقد ورد فيها:
“ذات مرّة، بينما كان القديس أبّا أنطونيوس في الصحراء، أصابه الضجر acedia، وكانت أفكار الظلمة تلاحقه. فخاطب الله قائلاً: ‘يا ربّ، إنّي أريد أن أخلُص ولكن الأفكار لا تتركني. ماذا أفعل في هذه الضيقة؟ كيف أخلُص؟’
بعد قليل، خرج القديس أنطونيوس إلى خارج [مغارته] فوجد شخصًا يشبهه جالسًا يعمل، ثم يقف ليُصلّي، ثم يجلس ليُكمل عمله في ضفر الخوص، ثم يقف ثانيةً ليُصلّي”.
إنّنا هنا نجد أن القديس أنطونيوس يُشكِّل المثال archetype لراهبٍ تخلَّص من حالة الضجر acedia، وذلك من خلال ممارسة بسيطة، تتمثّل في قطع العمل اليدوي للصلاة، بانتظام. وبالرغم من أنّ القول لا يلمّح إلى استخدام القديس أنطونيوس للمزامير أو المقاطع الكتابيّة أثناء الجلوس والعمل في ضفر الخوص، إلاّ إنّ هذا الوضع كان قائمًا في أواخر القرن الرابع، في المكان الذي كان يقطنه مار أوغريس، ممّا جعل من ذلك الافتراض أقرب إلى الحقيقة.
يصف لنا بلاديوس ترتيل المزامير الذي كان مسموعًا من قلالي الرهبان في نتريا(5)، والذين كانوا يعملون بصناعة الكتّان.
وبالمثل يشهد كاسيان أنّ الترديد المستمر “للمزامير وباقي النصوص الكتابيّة” أثناء “العمل اليدوي المستمر”، هو ممارسة مصريّة كان قد تدرَّب عليها(6).
ولا يكتفي كُتَّاب الرهبنة المتأخّرين بالإشارة إلى ترديد المزامير أثناء العمل اليدوي، ولكنّهم يُحدّدون بدقّة عدد المرّات التي يتوقّف فيها ترديد المزامير للصلاة(7). وهذا ما يصيغه لنا القديس إبيفانيوس الذي من سلاميس قائلاً:
“يجب على الراهب الحقيقي أن يجعل الصلاة وترتيل المزامير في قلبه بلا انقطاع”(8)
لقد كان مُدوّني سِّيَر الحياة الرهبانيّة، مُغرمين بتحديد الكمِّ لتلك “الخلفيَّة الإيقاعيّة” background rhythm المصاحبة لترتيل المزامير والتأمُّل في النصوص الكتابيّة والصلاة، في حياة بعض النُسّاك، وعلى سيبل المثال: كانوا يُدوّنون عدد المرّات، يوميًّا، التي يقطع فيها عظماء الرهبنة، ترتيل المزامير للصلاة، سواء في وضع السجود أو الوقوف أو كليهما؛ فالقديس موسَى الحبشي [الأسود] “كان يُصلّي 50 صلاة” يوميًّا(9) -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- كما شاركه في نفس العدد من الصلوات القديس مكاريوس المصري، أثناء ذهابه وعودته من قلاّيته إلى منسكه السرّي(10)، عبر النفق الذي يربط بينهما. بينما كان يُقدِّم القديس بولس (البسيط) الذي من الفرما، 300 صلاة يوميًّا، وكانت طريقته في إحصاء الصلوات هي: وضع عدد من الحصَى، مُعادِل لعدد الصلوات التي يريد تقديمها، في جلبابه، حيث يُلقي بواحدةٍ منها بعد كلّ صلاة(11). إنّ 200 صلاة يوميًّا هو عدد الصلوات التي كان يُقدّمها أبَّا أبوللو(12)، بينما كان يشترك القديس مكاريوس السكندري ومار أوغريس في تقديم 100 صلاة يوميًّا(13)، وقد قام جابريل بانج Gabriel Bunge بحساب المائة صلاة التي أشار إليها بلاديوس في حديثه عن مار أوغريس، فوجد أنّ مار أوغريس كان يرفع صلاةً كلّ 10 دقائق على مدار اليوم؛ وقد تكون تلك الصلوات التي كان يرفعها مار أوغريس هي مزامير أو بعض الصلوات التي كانت تتخلّل المزامير الطويلة(14).
إنّ الهدف من ترتيل المزامير والصلاة بلا انقطاع هو إعادة الذهن مرّة أخرى نحو الله، وكذلك التخلُّص من حروب الشياطين. فقد لاحظ دوجلاس برتون-كرستي Douglas Burton-Christie أنّ التشتيت الذي يحدث خلال ترتيل المزامير، يكون بتحريك الشياطين عن طريق ذكريات الماضي والاهتمامات الشخصيّة، لذا فإنّ ترتيل المزامير يهدف إلى استبدال ذكريات الماضي بأفكارٍ مُقدّسةٍ(15).
إنّنا نجد عند القديس أثناسيوس في “الرسالة إلى مارسيلّلينوس في تفسير المزامير”، أهدافًا إيجابيّة أُخرى لترتيل المزامير. وبالرغم من أنّ القديس أثناسيوس لم يُوجِّه كتابه للرهبان بشكلٍ خاص، إلاّ إنّه ينقل رؤية “شيخ مُتجرّد في الحياة النسكيّة” تصادف كونه راهبًا(16). يُمثِّل الجزء الأوّل من هذا الكتاب (فصل 1-9) ملخّصًا للكتاب كلّه وبالتالي لتاريخ الخلاص بشكلٍ عام. ونجد في (فصل 10-11) المميّزات الخاصّة بكتاب المزامير، كما نجد في (فصل 13-26) بعض المزامير التي يمكن قراءتها حسب حالة النفس؛ فالمزامير تُمثّل وسيلة لاستعادة الاتّزان والتناغم في النفس (فصل 27-28). المزامير “ليُقرأ وليُرتّل”(17) λεγέτω και ψαλλέτω كوحدة متكاملة كما هي مُدوّنة (فصل 29) بدون تغيير أو إضافة كلمات (فصل 30).
إن الصورة الأكثر شعبيّة وتأثيرًا لسفر المزامير، هي أنّ المزامير بمثابة مرآة للنفس:
“يبدو لي أنّ المزامير تُصبح لمَنْ يُرتّلها كمرآة، يُدرِك من خلالها تحرّكات روحه، فيتأثّر ويُردّدها”(18)
فالمزامير لا تُظهِر، “كما في مرآة”، حياة الإنسان الظاهرة بمداها المُتّسع فقط، ولكنّها قادرة على تعديل الحياة الداخليّة للإنسان؛ وهذا يحدث عندما يجعل المرتل كلمات المزامير وكأنّها كلماته الشخصيّة، إذ “تخترق” وجدانه الداخلي، فيتحرّك بنخس القلب، مُشارِكًا في ذلك، كاتب المزامير التائب:
“فيتأثّر ضمير السامع كما لو كان هو المُتكلِّم، ويتحرّك داخليًّا بكلمات الترتيل وكأنّها لسان حاله الشخصي”(19)
وأخيرًا، فإنّ كتاب المزامير بمثابة المُعلِّم الأعظم للنفس:
“لأنّ كلّ الكتاب المُقدَّس هو بمثابة مُعلّم للفضيلة ولحقائق الإيمان، بينما يحتوي كتاب المزامير -بشكلٍ خاصٍ- صورة الدورة الكاملة لحياة النفس”(20)
فكتاب المزامير هو بمثابة الكتاب التطبيقي (السلوكي) للدورة الكاملة لحياة النفس διαγωγη؛ فتنوُّع الصور المُذهِل الذي تستحضره النفس أثناء الترتيل بالمزامير، يعكس ويدعم اتجاهات الحياة الإنسانيّة في كلّ تعقيداتها.
لوقا ديسينجر Luke Dysinger
_____
(1) إن مصطلح خارجي exterior والمستخدم في النصّ هنا، يميّز بين تلك الممارسات والممارسات الداخليّة interior أو ضبط الذهن ومراقبة الأفكار وفحص الضمير والاتضاع.
(2) إنّ تلك الممارسة (القانونية) البسيطة للصلاة مرتان يوميًّا، قد تطوّرت في العقود التالية، حتّى أصبحت صلاة ليتورجيّة ثابتة تتلى كلّ عدّة ساعات وهو الذي يميّز ليتورجيا = السواعي في الشرق والغرب منذ ذاك الحين. ويؤكّد كاسيان في كتابيه الثاني والثالث من المعاهد Institutes على الممارسة القديمة البسيطة في الصحراء المصريّة، فضلاً عن الاتجاه الأحدث في مجامعه (الرهبانيّة) في بلاد الغال، والذي احتوى على صلوات الثالثة والسادسة والتاسعة. ويتعقّب Taft تلك النقلة في الصلاة، وتحوّلها إلى صلاة قانونيّة متكررة في مصر The Liturgy of the Hours in East and West, pp. 57-73 وإلى الخدمات الرهبانيّة التي انتقلت للمدن في الشرق (pp. 75-91) والغرب (pp.93-140).
إنّ هناك بعض الاكتشافات الحديثة في منطقة القلالي Kellia التي أوضحت تغييرات في المعمار البنائي والفني والزخرفي في قلالي رهبان منطقة القلالي والتي صاحبت تلك النقلة الليتورجيّة Die Mönchssiedlung Kellia, pp. 26-39.
(3) يدوّن كاسيان عدد المزامير “القانونيّة” التي كانت تقدّم في كلّ ساعة من سواعي الخدمة وذلك في كتاب المعاهد Institutes 2.12.1.
(4) يقول العلاّمة كواستن Quasten: “لا يوجد أي عمل آخر يُعطي فكرةً أفضل عن روح الرهبنة المصرية مثل المجموعة المجهولة المؤلِّف (أو المصنِّف) للحِكَم الروحانية المسمّاة: Apophthegmata Patrum وقد جُمِعت هذه المجموعة ربما في حوالي نهاية القرن الخامس، وتحوي أقوالاً لأكثر الآباء ومتوحدي براري مصر شهرةً، كما تحوي أخبار فضائلهم ومعجزاتهم. وقبل أن تُكتَب باليونانية كان يوجد غالبًا تقليد شفاهي عنها باللغة القبطية. وقد نُظِّمت هذه المقتطفات الأدبية المختارة ربما في القرن السادس بطريقة الأبجدية لأسماء الآباء ثم تُرجِمت إلى لغاتٍ عديدة. وهي تعطي صورةً حيّةً للحياة الرهبانية في وادي النطرون بصفةٍ خاصة، فهي تمثل مصدرًا ذا قيمة فائقة يصعب تقديرها لمعطيات التاريخ الديني والمدني”. فردوس الآباء، راهب من برية شيهيت، الجزء الأول، (الطبعة الأولى: 2005)، ص 15. (المعرّب)
(7) إنّ رسائل برصنفيوس ويوحنّا تعكس الممارسة كما كانت في فلسطين في القرن السادس. أثناء ضفر الخوص كانت هناك صلاة تفصل عمليّة “ترديد المزامير / الهذيذ بالمزامير”، وذلك بعد الصف الثالث (من الضفيرة).
Barsanuphius and John, Letter 143, 23-7, SC 427, p. 522
(13) يصف القديس مكاريوس نفسه بأنّه: “صانعًا مائة صلاة” ἑκατὸν εὺχὰς ποιω̑ν
Palladius, Lausiac History 20.3, ed. Bartelink, p. 104
ويورد بلاديوس عن مار أوغريس أنّه: “كان يصنع صلوات” ἑποὶει δὲ εὺχὰς ποιω̑ν
Lausiac History 38.10, ed. Bartelink, p. 200
(14) يرصد Bunge (Geistgebet, pp. 31-2) “الصلوات” التي تشير إلى التبادل المتناغم للمزامير فضلاً عن الصلوات التي كانت تتخللّها، ويشير Bunge إلى القديس أنطونيوس الكبير، وأيضًا لبرصنفيوس ويوحنّا.
Letters 40, 140, 143, 150, and 176; Geistgebet, pp. 32-4.
كما يشير إلى بعض النصوص في المجموعة الأثيوبيّة من
Apophthegmata Patrum (13, 26, 42, and 43, ed. Arras, Collectio monastica, pp. 66 and 70)
والتي يرد فيها أن مثل تلك “الصلوات” تتكوّن عادة من صيغة مقتضبة مثل: يا يسوع ارحمني! يا يسوع أعني! أنا أباركك، يا ربي! (Geistgebet, pp. 39-40)
(16) لقد وصف Rondeau روح الجماعة الرهبانيّة والتي يعكسها هذا العمل:
Commentaires, vol. ii, p. 222; ‘L’Épître à Marcellinus’, pp. 196-7.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/fr-seraphim-al-baramosy/a/psalms.html
تقصير الرابط:
tak.la/9vprh27