وأخطر ما يتعب الإنسان روحيًا، أن تمدحه نفسه من الداخل.
ويظن في نفسه أنه قد وصل، أو أن فيه شيئًا يستحق الإعجاب من الآخرين. حتى من غير أن يمدحه أحد من الخارج، تكبر نفسه في عينيه من الداخل. ويكون "حكيمًا في عيني نفسه" (أم 26: 5) أو "بارًا في عيني نفسه" (أي 32: 1)، وهذا ما يُسَمَّى بالبر الذاتي. وفيه "يرتئي الإنسان فوق ما ينبغي له أن يرتئي" (رو12: 3).
ومديح النفس قد تكون له أسباب دنيوية أو أسباب روحية:
فالأسباب الدنيوية هي أن تمدحك ذاتك من أجل مركز عالمي وصلت إليه، أو من أجل غِنَى أو جاه، أو جمال جسدي، أو شهرة، أو ذكاء، أو قدرات معينة في العمل أو في الترفيه عن الآخرين، أو في الحيلة، أو الدهاء، أو القدرة على قهر الآخرين، وما إلى ذلك من أسباب.
أما عن مدح النفس لأسباب روحية:
فكأن تمدحك نفسك بسبب صلواتك أو أصوامك أو مطانياتك metanoia، أو خدماتك الروحية للآخرين، أو قدرتك على التأمل، وفهم الكتاب وحفظه واستخدامه، أو بسبب توبتك أو نموك الروحي، أو بسبب بعض الفضائل التي تظن أنك قد وصلت إليها...
وتزداد خطورة مديح النفس، إن ارتبطت بالمقارنة أيضًا.
فلا تظن فقط أنك بار، وإنا أكثر برًا من الآخرين. أو تظن أن خدمتك أنجح من خدمة غيرك. وأن تأملاتك أعمق، ومستواك الروحي أعلى...! وبالتالي ترى باستمرار أن غيرك أقل منك...
وتزداد خطورة إن اقترنت باحتقار الآخرين أو الإقلال من شأنهم.
أو إدانة الناس، والحديث عن مستواهم الضعيف وفهمهم الضئيل، والمقارنة بين نجاحك وفشلهم... وقد يصل الأمر إلى حد مواجهة الآخرين، وتوبيخهم على أعمالهم وأخطائهم. وربما تنسب إليهم ما ليس فيهم من الضعفات والنقائص والأخطاء. وتفرض عليهم مستواك، أو ما تظن أنك قد وصلت إليه من مستوى ومن فهم.
أو أن تفرض رأيك على غيرك، موقنًا أنه الرأي الوحيد السليم، بعكس ما يقوله الغير. وهكذا تكون "حكيمًا في عيني نفسك" (أم 3: 7).
ويدفعك الإحساس بالحكمة والفهم، إلى التشبث برأيك أو موقفك مهما كان خاطئًا! وإلى الجدل والمناقشة حتى إلى درجة العناد... ومقاطعة الآخرين لكي تتكلم أنت... ومعارضة كل من لا يوافقك فهمه...
وربما في كل هذا تفقد صداقة الناس ومودتهم، أو أنك تفقد الروح الاجتماعية، والتعاون مع الآخرين واحترام الغير...
والإنسان الذي تمدحه نفسه، من الصعب أن يعترف بأخطائه.
ربما لأنه لا يجد لنفسه أخطاء يعترف بها! أو لأن الكبرياء الداخلية تدفعه إلى تبرير أعماله أيًا كانت، أو التماس الأعذار لها...
هو لا يرى نفسه مخطئًا. ولا يقبل من غيره أن يراه مخطئًا. وهكذا يكون "بارًا في عيني نفسه" (أي 32: 1).
وما دام هو بارًا في نظرته إلى نفسه، فبأي شيء يعترف؟!
الاعتراف هو أولًا إدانة النفس من الداخل. ثم إعلان ذلك.
والمتكبر لا يدين ذاته... لا يرى أنه قد اخطأ. وإن وُجد خطأ، ينسبه إلى الظروف المحيطة به، أو يلقي التبعية فيه على غيره. أو يسمي أخطاءه بأسماء روحية، ويحاول أن يلبسها "ثياب الحملان" (مت7: 15). ويضع وراءها نيات طيبة ومقاصد روحية، تجعلها تبدو على غير حقيقتها سليمة لا عيب فيها!
وإن كان لا يعترف بخطئه، فبالتالي لا يعتذر لغيره.
في كل خصومة بينه وبين أحد من الناس، يعتبر أن الطرف الآخر هو المخطئ والطرف الآخر هو الذي يجب أن يعتذر، وهو الذي يجب أن يسعى إلى المصالحة!
ما دام لا يعترف في داخله أنه قد اخطأ، فبالتالي لا يعترف بخطأ أمام الأب الكاهن، ولا يذهب لمصالحة الطرف الآخر قبل الذهاب إلى التناول من الأسرار المقدسة، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. لأنه "لا يتذكر أن لأخيه شيئًا عليه" (مت 5: 23، 24).
وإن حاول أحد أن يقنعه بأنه مخطئ، يدخل في متاهة لا تنتهي من المناقشات وقلب الحقائق. ويجد أمامه ميزانًا خاصًا تقيم به الأمور ويحكم عليها حسب مفهوم خاص غير مفهوم للآخرين!
إن البار في عيني نفسه، يود أن يكون بارًا أيضًا في أعين الناس.
فهو إما أن يعلن عن هذا البر ويحكي عنه للآخرين، وإما أن يدافع بكل جهده عما يشين هذا البر من نظرات الناس إليه. وإما أن يأخذ مظهرًا معينًا يقنع الناس ببره، مهما كانت داخلياته! وإما أن يحيط نفسه بأصدقاء ومريدين يتحدثون عنه بالصلاح كل حين. ويمتدحونه... أو أن يحيط نفسه باستمرار بمن هم أقل منه سنًا أو معرفة أو مركز أو درجة روحية، حتى يبدو الأكبر أمامهم في كل وقت. ولا يعطي فرصة لأي نقد يُوجه إليه. لأن كل المحيطين به يمجدونه ويمدحونه، وربما يستشيرونه في كل شيء أو يتتلمذون عليه...
أما المتواضع فهو يقارن نفسه باستمرار بمستويات أعلى منه.
وأمام هذه المستويات الأعلى، تصغر نفسه في عينيه، ويرى أنه لا شيء... وهو يبحث باستمرار عما هو أكمل وأعلى، شاعرًا أنه لم يصل بعد إلى المستوى المطلوب منه... إنه يضع أمامه قول الرب "كونوا قديسين لأتى أنا قدوس" (1بط 1: 16). وأيضًا قوله "كونوا أنتم أيضًا كاملين، كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل" (مت 5: 48).
والمستويات العليا التي ينظر إليها، قد تكون من الأمثلة الحية أمامه. أو يجدها في تاريخ القديسين وفي شخصيات الكتاب المقدس. بل حتى في مثاليات من العلمانيين الفاضلين... وكما قال القديس بولس الرسول "أنسى ما هو وراء، وأمتد إلى ما هو قدام. أسعى نحو الغرض" (في 3: 13، 14). وكلما امتد إلى قدام، ينظر إلى الكمال الموضوع أمامه، فيقول "أيها الأخوة، أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت"، "ولكني أسعى لعلي أدرك" (في 3).
كان أحد الرهبان كلما حورب بالمجد الباطل بسبب جهاده الروحي، يقول لنفسه: ألعلي قد بلغت إلى درجة الأنبا أنطونيوس أو الأنبا بولا؟!
الإنسان المتواضع إذا حورب بالبر الذاتي، يتذكر خطاياه...
يتذكر ماضيه السابق وكل ضعفاته وكل سقطاته وكل خطاياه. وحينئذ تخف عليه الحرب فلا يتكبر. إن القديس بولس الرسول الذي تعب أكثر من جميع الرسل (1 كو 15: 10)، والذي صعد إلى السماء الثالثة (2 كو 12: 2، 4) كان يقول "أنا الذي لست مستحقًا أن أدعى رسولًا، لأني اضطهدت كنيسة الله" (1كو15: 9). مع أن ذلك حدث في ماضٍ قد انتهى وغفره له الله، ودخل بعده في عهد جديد مع الرب "كإناء مختار يحمل اسمه أمام أمم وملوك" (أع 9: 15). ولكنه يُذكر نفسه بذلك الماضي فيحيا في اتضاع...
وبالمثل كان داود النبي يقول "خطيتي أمامي كل حين" (مز50).
إن أتتك أفكار البر الذاتي، أذكر نعمة الله العاملة معك.
تذكر أن كل خير فيك لست أنت سببه أو مصدره. إنما هي نعمة الله التي عملت فيك وقوة الله التي عملت فيك، وقوة الله التي سندتك. وأنك بدون الله ما كنت تستطيع أن تفعل شيئًا (يو15: 5). فلا يليق أن تأخذ عمل الله وتنسبه إلى نفسك وتنسى عمل النعمة.
لأنك إن نسبت عمل النعمة إلى نفسك، قد تتخلى عنك النعمة فتسقط.
وذلك لكي تعرف ضعفك، ولكي تعترف بضعفك. ولكي تخاف من البر الذاتي، وتحترس من الافتخار الرديء. وقد تسقط في الخطايا التي انتقدت الناس عليها، وظننت أنك أقوى منهم في مواجهتها.
حقًا إن البار في عيني نفسه، يتخيل أنه قوي وأنه يستطيع!
أيضًا لكي تتخلص من ابر الذاتي، انظر باستمرار إلى الأبدية.
لا تحاول أن تبني مجدك على الأرض، فالمجد الأرضي مجد باطل. ولا تحاول أن تنال أجرك هنا، فكله أجر زائل. إنما باستمرار اعمل من أجل أبديتك. وقل لنفسك لا أريد ههنا شيئًا...
حاول أن تزهد في كل كرامة دنيوية وكل كرامة بين الناس. وأطلب شهادة الرب لك لا شهادة البشر، ولا شهادة نفسك لنفسك.
ليكن كنزك في السماء، وليس على الأرض (مت6: 19). ولا تجعل المجد الأرضي يفقدك المجد السمائي. وإلا تكون أنت الخاسر.
اذكر أيضًا طبيعتك الضعيفة القابلة للميل والقابلة للتغير.
هذه الطبيعة القابلة أيضًا للسقوط. واعرف أنك لست أقوى من الأقوياء الذين سقطوا. فقد كُتب عن الخطية أنها "طرحت كثرين جرحى. وكل قتلاها أقوياء" (أم7: 26). لذلك أذكر أنك إن تهاونت ولو قليلًا، أو إن تخلت النعمة عنك ولو قليلًا، ما أسهل أن يتغلب العدو عليك...
إذن احفظ نقاوة قلبك بالاتضاع.
لأنه بالاتضاع تلصق بك النعمة (يع4: 6). فتستطيع بها أن تغلب. قل لنفسك: أنا ما زلت سائرًا في الطريق، ولم أصل إلى نهايته بعد، والعبرة كلها بالنهاية ، فلأكن إذن محترسًا، ومتذكرًا قول الرسول:
"مَنْ يظن أنه قائم، فلينظر لئلا يسقط" (1 كو 10: 12).
وإله السماء قادر أن يحفظك بالاتضاع، ويعطيك النصرة من عنده.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/rfyjw35