التأمل في الطبيعة:
أول آية وردت في الكتاب المقدس عن التأمل، هي ما قيل عن أبينا اسحق بن إبراهيم إنه "خرج اسحق ليتأمل في الحق عند إقبال المساء" (تك 24: 63). ولعل هذا يقدم لونًا من التأمل في الطبيعة.
ليس مجرد التأمل في جمال الطبيعة، إنما بالأكثر فيما تقدمه من روحيات، حسب قول المرتل في المزمور: السماوات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه (مز 19: 1). وهنا نتدرج من الطبيعة إلى عظمة الله خالقها، أو إلى حنو الله المهتم بها. استمع إلى الشاعر وهو ينشد:
هذى الطبيعة قف بنا يا ساري حتى أريك بديع صنع الباري
لقد كانوا يدرسون الفلك قديمًا في الكليات اللاهوتية. لأن النظام العجيب الدقيق الذي فيه، يثبت وجود خالق كلي القدرة استطاع أن يوجِده. حتى أن أحد الفلاسفة لقبة بالمهندس الأعظم...
فإن كانت السماء المادية مجالًا عظيمًا للتأمل، فكم السماء التي هي عرش الله (مت 5: 34).
وهنا ما أجمل ما رآه يوحنا الحبيب في سفر الرؤيا، وبخاصة حينما قال "أبصرت وإذا باب مفتوح في السماء" (رؤ 4: 1). يضاف إلى هذا ما شرحه عن أورشليم السمائية، مسكن الله مع الناس (رؤ 21)... إن التأمل في السماء والسماويات، لا شك يرفع عقل الإنسان وقلبه إلى فوق، يسمو به كثيرًا عن مستوى المادة والجسدانيات...
ويرتبط بالتأمل في السماء، تأمل آخر في الملائكة...
وفي كل القوات السمائية: السارافيم، والأرباب والعروش، ورؤساء الملائكة، وتلك الألوف والربوات التي أمام العرش الإلهي، وكذلك الملائكة "المرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب 1: 14). ما طبيعة الملائكة؟ وما هي روحيتهم وقدسيتهم ومحبتهم وطاعتهم (مز 103) (مز 104)؟ وما هي خدمتهم لله وللناس؟ وماذا ستكون علاقتهم بنا في الأبدية؟ بل ما هي قصصهم التي وردت في الكتاب وفي سير القديسين... وهنا يسبح الفكر في العالم الروحي...
فإن كان هذا التأمل عميقًا علينا...
لنتأمل في أرواح القديسين الذين انتقلوا... كما حكى لنا الرب عن أبينا إبراهيم، ولعازر المسكين في حضنه. سواء في ذلك تأملنا في القديسين الذين مع الرب في الفردوس (لو 23: 43)، أو الذين يرسلهم الرب في خدمات في الأرض مثل العذراء ومارجرجس وغيرها. ودرجات كل هؤلاء، وكيف أن نجمًا يفوق نجمًا في المجد (1كو 15: 41)...
ثم ماذا عن القيامة والأجساد الروحانية النورانية السماوية (1كو 15: 42-50)؟ (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات) وماذا عن الأبدية والمجد العتيد، والملكوت، ومراتب القديسين وعلاقاتهم، والملك المعد لنا في النعيم الأبدي.
فإن لم نستطع تأمل كل هذا لنهبط إلى الأرض، نتأمل في الخليقة المحيطة بنا، كما قال الرب:
تأملوا زنابق الحقل... وطيور السماء (مت 6: 28، 26).
ولم يقصد الرب التأمل الحسي في زنابق الحقل، من حيث جمالها، وتعدد أنواعها وألوانها وعطرها وتناسقها... ولكن الارتفاع فوق الحس إلى الله الذي خلقها هكذا، بحيث ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها... وهنا يقود التأمل إلى عناية الله العجيبة بكل مخلوقاته، كما يقودنا أيضًا إلى الإيمان بعناية الله وإلى الاتكال عليه في غير قلق.
ولو تأملنا الفارق الكبير بين الزهور الطبيعية وغيرها من الزهور الصناعية، التي مهما تفنن الإنسان في صنعها، تبقى بلا حياة، بلا رائحة، بلا نمو. بل لا يمكن أن تصل في ألوانها إلى تلك الطبيعة، مما يدل على قدرة الله العجيبة. ونفس الوضع بالنسبة إلى طيور السماء في تعدد أنواعها وأشكالها ونغمات أصواتها، وطباعها ورحلاتها، وقناعتها... وتضع إلى جوارها قول المزمور "نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين. الفخ انكسر ونحن نجونا (مز124).
حقًا ما أحن الله: المعطي البهائم طعامها، وفراخ الغربان التي تدعوه (147: 9).
بل يقول الرب "تأملوا الغربان: إنها لا تزرع ولا تحصد، والله يقيتها" (لو 12: 24). نعم، الغربان السوداء اللون، التي يتشاءم البعض منها... يهتم بها الله هذا الاهتمام، بل يعهد إليها بمهمات: غربان كانت تعول إيليا النبي في زمن المجاعة يرسلها إلى قديسيه، فتطيع وتعرف وتنفذ مشيئة الله من جهته... وهنا تخطو خطوات في تفكيرك، أعمق من الفكر السطحي أثناء القراءة...
إن علاقة الله بالحيوانات والطيور موضوع طويل ليس الآن مجال الحديث فيه. والتأمل فيه موضوع أطول...
على أنه حتى الحشرات الضئيلة، وهبنا الله مجالًا للتأمل فيها، فقال الكتاب:
"اذهب إلى النملة أيها الكسلان. تأمل طرقها، وكن حكيمًا" (أم 6: 6).
حقًا، إنني لم أر في حياتي كلها نملة واحدة واقفة بلا عمل... إنها دائمة الحركة، دائمة العمل، لا تهدأ. كما أن جماعات النمل درس عجيب في التعاون، لمن يتأمل عملها الجماعي، في حمل أشياء توازي عشرات حجمها. وهي درس أيضًا في النظام، إذ تسير في طابور طويل، متجهة نحو هدف ثابت. وباتصالات عجيبة بين بعضها البعض.
وما نأخذه من دروس في تأمل النمل، نأخذ مثله أيضًا في تأمل النحل.
هذا النحل الذي أنشد فيه أحمد شوقي قصيدته:
مَملَكَةٌ مُدَبَّرَه بِاِمرَأَةٍ مُؤَمَّرَة
تَحمِلُ في العُمّالِ وَالصنّاعِ عِبءَ السَيطَرَة
فَاِعجَب لِعُمّالٍ يُوَلونَ عَلَيهِم قَيصَرَة
إن النظام المذهل الذي تعيشه مملكة النحل، هو مجال لتأمل عميق... كيف خلقها الله بهذا الإمكانيات والقدرات... وكيف تستطيع أن تجمع الرحيق وتصنعه شهدًا وكيف تصنع غذاء الملكات! وكيف تبني خلاياها بهندسة متقنه عجيبة. وكيف تطير رحلات بعيدة بحثًا عن الزهور والرحيق! ما أعجبها! وما أعجب خالقها!!
إن الإنسان الروحي يستطيع أن يتخذ كل شيء مجالًا للتأمل. ويستطيع أن يستخرج من الماديات ما تحمله من دروس روحية.
أتذكر أنني في إحدى المرات، نشرت لكم في كتاب (كلمة منفعة) تأملًا عن الدروس الروحية التي يمكن أن نأخذها من (نهر النيل). ومن نقطة الماء الهينة اللينة التي إن سقطت بمداومة على صخر، تحفر فيه طريقًا... وأيضًا عن شاطئ النهر اللذين لا يحدان حريته، إنما يحفظانه من الانسكاب. وهكذا وصايا الله وإرشاد الآباء، لا يحدان حرية الإنسان، إنما يحفظانه من الخطأ.
كذلك جسم الإنسان -وهو مادة- إلا أنه مجال واسع جدًا للتأمل، يدل على عظمة الخالق.
يكفي أن تتأمل قدرات كل عضو فيه، وعلم وظائف الأعضاء. المخ مثلًا وما فيه من مراكز عجيبة، للنظر والسمع والحركة والكلام... بحيث إذا لم يصل الدم إلى أي مراكز، يبطل عمله، ويصير صاحبه معوقًا...
كذلك القلب -وهو كقبضة اليد- ولكنه جهاز دقيق جدًا، تتوقف عليه حياة الإنسان، كما على المخ أيضًا. ويعوزنا الوقت إن تحدثنا عن كل أجهزة الجسم البشري، وكيف تعمل متناسقة في اتزان عجيب. وبعض هذه الأجهزة إذا تلف، لا يقدر كل التقدم العلمي على إرجاعه إلى وضعه الطبيعي...
وهكذا في كليات اللاهوت قديمًا، كما كانوا يدرسون علم الفلك، كانوا يدرسون علم الطب أيضًا، لأنه يعمق الإيمان بقدرة الله الخالق...
إن كانت قدرات الجسد هكذا، حسبما خلقه الكلي القدرة، فماذا تكون تأملات في قدرات الروح؟ على أنني أود أن أترك هذه النقطة الآن، لأتحدث في موضوع آخر وهو: التأمل في الأحداث.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/y2czpt6