العنف مُنفِّر وغير مقبول. وللأسف فإن البشرية قد عرفته وخبرته، حينما حدث أن هابيل البار قام عليه أخوه وقتله. وكان دمه الزكي أوَّل دم بشري سُفِكَ على الأرض نتيجة للعنف.
والعنف هو من طباع الوحوش المفترسة التي تخيف، ولم يكن أصلًا من طبع الإنسان. ولمَّا انتشر بين البشر كان يمارسه الرجال. أمَّا النساء فإن من طبعهن الرقة وليس العنف، وتُستثنى من ذلك بعض الحموات..!
والعنف وُجد أحيانًا في بعض مظاهر الطبيعة، وكان مدمرًا. ومن أمثلته السيول الخطيرة التي تجرف أمامها بيوتًا ومدنًا وتشرّد أهلها. ومن أمثلته أيضًا البراكين والزلازل والعواصف الشديدة جدًا التي تهز الأمكنة وتسبب حرائق وبخاصة حيث توجد الغابات.
والعنف على نوعين أساسيين: عنف مادي، وعنف نفسي أو معنوي. أمَّا العنف المادي فيشمل الضرب والإيذاء والاعتداء، ويصل أقصاه إلى القتل. وأشر من القتل عنفًا كثير من التعذيب، وهى ضد الإنسانية تمامًا، ولكن عرفتها الإمبراطورية الرومانية والثورة الفرنسية أيام روبسبير Maximilien Robespierre وأعوانه. وقد رأيت ألوانًا منها حينما زرت قصر الرعب في لندن سنة 1969 م وأنا أسقف...
ومن العنف أيضًا الحروب التي يهلك فيها الآلاف، وبخاصة ما يستخدم فيها من المدافع والصواريخ والأسلحة النووية التي تبيد مدنًا بأسرها أو بعض الأقاليم كما حدث لهورشيما Hiroshima في الحرب الماضية، وكما يحدث في استخدام أنواع من القنابل الفتاكة، وكذلك الغازات السامة... وفي كل ذلك لا نجد في نفوس المحاربين أي تأثير بهلاك ضحاياهم، بل يفرحون بذلك، ويرون حصاد موتاهم في الحرب نصرًا!!
أمَّا أنواع العنف النفسي أو المعنوي فهي عديدة ومتنوعة.. فيوجد مثلًا عنف في أسلوب التربية داخل الأسرة من الآباء نحو الأبناء. والتربية العنيفة ليست بالطريقة السليمة المنتجة. وإن حدث أن الابن أطاع عن طريقها، تكون طاعة خارجية لم تغيَّر القلب الذي يكون بداخله ضيق وتذمر. وقد يصل عنف الوالدين إلى إرغام ابنتهما على زواج لا تقبله، أو قد يؤدي عنفهما في تربيتها إلى هروبها من المنزل، أو أنها تلتمس الرقة والحنو من مصدر خارجي له خطورته. وأيضًا إن العنف في التعامل بين الزوجين ربما يؤدي إلى الطلاق.
هناك عنف أيضًا في حلّ المشكلات. فبدلًا من أن تحل المشكلة في هدوء وفي حكمة، قد يتطور الأمر إلى نزاع وإلى عنف يؤدي إلى صراع، ورُبَّما يصل إلى التقاضي والمحاكم، لأنَّ كل طرف يتشبت بموقفه في عنف، بلا تفاهم!
والإنسان العنيف يستخدم أيضًا ألفاظًا عنيفة. ففي موقفًا ما، بدلًا من أن يُعبِّر عن رأيه أو مشاعره بكلمة رقيقة هادئة، فإنه يستخدم ألفاظًا كرجم الطوب، تسيء إلى غيره أو تجرحه. وبهذه الألفاظ قد يخسر الموقف أو يخسر الناس، بينما يكون الحق في جانبه، ولكن ألفاظه لا تساعده!
يشبه هذا الأمر، مَن يكتب مقالًا، ولا ينتقي الألفاظ المناسبة. ورُبَّما عنف ألفاظه يمكن اعتباره سبًا وقذفًا. وقد تعرضه الألفاظ إلى المحاكمة، مهما قال: لست أقصد!
يذكرنا هذا الموضوع بأسلوب النقد. ورُبَّما يوجد كاتب أو خطيب يكون عنيفًا في نقده لا يذكر إلاَّ الأخطاء، أو ما يرى أنها أخطاء، ويشرحها بلون من التجريح أو الإهانة! ويكون هذا غير مقبول منه. بينما نقد أي كتاب أو فكرة، إنما يعني التحليل، فيشمل ذكر النقاط البيضاء التي تستحق المديح. ثم التعرض إلى النقاط الأخرى بطريقة موضوعية، بغير تجريح لشخصية غيره.
فالتجريح لون من العنف، كذلك كل إهانة...
ومثل النقد، يوجد عند البعض عنف في العتاب هذا الذي قال عنه أحد الشعراء:
ودَعْ العتاب فربّ شرٍ كان أوله العتابا
يمكن للإنسان أن يُعاتب في محبة وفي رقَّة. أمَّا إذا كان عنيفًا في عتابه، فقد يخسر مَن عاتبه، تجعل مَن يسمعه يتضايق منه مهما كان صديقًا ومحبًا.
يوجد عنف أيضًا في الإدارة. فبعض المديرين أو الرؤساء أو الحكام يكونون عنافًا. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). والعاملون تحت إدارتهم يتعبون منهم، ورُبَّما لا يكونون مخلصين لهم. وما أكثر ما تحدث التاريخ عن عنف فرعون وأمثاله من حكام دعوهم بالطغاة بسبب عنفهم. وكل هؤلاء حينما كانوا يعاقبون مَن يسيء، كان عقابهم عنيفًا فوق طاقة الاحتمال، وفوق مستوى السبب الداعي إلى العقوبة!
يذكرنا هذا الأمر بعنف بعض أساتذة الجامعات في الامتحانات والتصحيح، من حيث صعوبة الأسئلة وتقدير الدرجات على الإجابة. وفي الامتحان الشفهي -إذا وقع طالب تحت يد واحد منهم- يقول: نجني يا رب من هذه الساعة!
يوجد عنف أيضًا في الأحكام والاتهامات. فإن حدث وتحدثت عن غيرك، لا تحكم عليه حكمًا عنيفًا دون أن تدرس ظروفه ومبررات موقفه. وفي هذا المجال توجد اتهامات عنيفة للبعض، دون أن يدري مَن يتهمه بحقيقة الوقائع، ودون إثبات لِمَا يقوله ضده. والعجيب أنه يفتخر بما يقوله من اتهامات، ويقول: فلان هذا، أنا سلخته!!
ويدخل أيضًا في هذا المجال العنيف تحقير الغير، أو اتخاذه مادة للتهكم والازدراء، أو الإحراج...
من جهة المرأة -فعلى الرغم من رقتها- قد تستخدم العنف أيضًا. ورُبَّما يكون ذلك عن طريق الدموع ومداومة البكاء. وكأنها بالدموع ترغم الرجل على الاستجابة لِمَا تطلب! وقد قال أحد الحكماء: "إن المرأة بدموعها قد تكسب كل شيء، وقد تخسر كل شيء".. على أن قد تلجأ إلى أسلوب آخر في إرغام الرجل على الاستجابة، وهو الإلحاح. وعمومًا فإن الضغط والإرغام لونان من العنف المعنوي..
يُضاف إليهما عند البعض أسلوب التهديد...
أخيرًا، أحب في هذا أن أذكر موضوع (الحزم). والحزم لازم في بعض المواقف التي تفشل فيها الطيبة والوداعة والرقة، وبخاصة إذا كان السبب هو الدفاع عن الحق، أو تأديب المخطئين حتى يكونوا عبرة لغيرهم.
ولكن يشترط في هذا الحزم أن يكون بغير قسوة وبغير عنف.. ويمكن للمدبر الحكيم أن يكون حازمًا وشديدًا، ولا يكون عنيفًا في نفس الوقت.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/vs34aqd