الشخص الروحي -إذا غضب- يكون غضبه مجرد تعبير عن عدم رضاه على الخطأ. ويكون غضبًا لأجل الحق، أو دفاعًا عن الآخرين. وقد يكون بحزم، ولكن لا يفقد فيه أعصابه، ولا يخطئ بلسانه. ومثل هذا الغضب لا لوم عليه. ولكن هناك غضبًا خاطئًا، تدخل فيه النرفزة التي هي تلف في الأعصاب. ومعه قد يعلو الصوت أو يحتد ويشتد، وينفعل الشخص انفعالًا واضحًا معيبًا، ويبدو ذلك أيضًا في ملامحه وأعصابه. هذا هو الغضب الخاطئ...
وهذا النوع من الغضب يحمل في طياته العديد من الأخطاء: فبالإضافة إلى ما فيه من حدة وعصبية، فيه أيضًا قساوة قلب. وتزداد هذه القساوة كلما ازدادت حدة الغضب. وقد تصل في بعض الأحيان إلى العنف، والى الضرب والاعتداء.
وطبعًا في حالة الغضب لا يحتمل الشخص غيره، وتزول منه مشاعر المحبة، لأن المحبة تحتمل كل شيء وتصفح عن المسيء. أما الغضوب فإنه لا يصفح عن غيره في إساءاته، أو ما يظن إنها إساءة. ولا يستطيع أن يغفر. وبالتالي يحرم نفسه من مغفرة الله له شخصيًا..
والغضوب يقع في كثير من خطايا اللسان. فهو تلقائيًا يهين مَنْ يرى أنه قد أساء إليه، ويحكم عليه أحكامًا. وقد يَتَلَفَّظ بكلمات جارحة ويشتم، غير محترم لغيره. ويتصرف بأسلوب غير لائق، ربما يلومه عليه الناس ويفقدون تقديرهم له. وهو قد يندم أخيرًا على ما فعله، حينما تهدأ أعصابه الثائرة ويتوقف غضبه. ولكن بعد فوات الوقت...
ويكون في كل ذلك قد وقع في عدم ضبط النفس، وفي عدم السيطرة على الأعصاب وعلى اللسان. وربما يكون فيما قاله عن غيره أثناء ثورة غضبه، قد ظلمه بأحكام هو برئ منها، أو على الأقل لم يصل أبدًا إلى مستواها. ولكن في الغضب يتصور الشخص في من يهاجمه أفكارًا مبنية على سوء الظن لم تحدث منه ولن تحدث.
وقد يتطور الغضب بمشاعره الخاطئة فيتحول إلى بغضه، وتتحول هذه البغضة إلى خصومة والى معارك تستمر. لأن ما يخطئ به الشخص في غضبه، ربما لا يستطيع أن يعالج نتائجه. فيما تلفظ به من شتائم أو إهانات أو تهديدات أو جرح شعور أو اتهامات ظالمة... هذا كله قد يترك في نفسية الطرف الآخر تأثيرات عميقة، تحوّل الأمر إلى كراهية بينهما...! وهكذا حتى لو تاب الغضوب عن غضبه، ربما تظل نتائج غضبه باقية...!
ومع الغضب أيضًا تكمن خطية التهور والاندفاع: فغالبًا ما يكون الغضب مصحوبًا بالتسرع، أو يكون نتيجة للتسرع والاندفاع، ويأخذ فيه الشخص قرارات أو تصرفات غير مدروسة، وهو في حالة انفعال..!
وهذا الغضوب يريد أن ينتقم لكرامته أو لحقوقه، ولرد اعتباره، ويعمل على رد ما يرى أنها إساءة بما هو أشدّ منها!
وفى أثناء الغضب يفقد كل فضائل الوداعة والتواضع. لأنه يفقد حلمه وهدوءه، ويفقد اللطف والبشاشة والحنو، ويتحول إلى كائن ثائر هائج الطبع. وهو يفقد أيضًا صفات الشخص المتضع، لأنه كما قال أحد الآباء الروحيين "إن الإنسان المتواضع لا يُغضب أحدًا، ولا يَغضب من أحد". فالمتواضع يجلب الملامة على نفسه فلا يَغضب. كما أنه يلتمس بركة كل أحد ودعاه ورضاه، لذلك لا يسمح لنفسه أن يغضب أحدًا.
والشخص الغضوب يفقد أيضًا سلامه، ويفقد الكثير من علاقاته، إذ أنه في غضبه يفقد سلامه الداخلي، سلام القلب والفكر وسلامة الأعصاب، كما يفقد في نفس الوقت سلامه وعلاقته مع من يغضب عليه. أليست غالبية قضايا الطلاق والمشاكل الزوجية سببها الغضب!! ولاشك أنه في حالة الغضب يفقد علاقته مع الله، إذ يكسر وصاياه الخاصة بالتسامح والاحتمال وحسن التعامل مع الناس... وعمومًا فإن ساعة غضبه تكون ساعة نكد وكآبة له، وربما لغيره أيضًا...
الغضب أيضًا يكون مصحوبًا بالجهل: جهل الإنسان بما يفيده وما يضره، وجهله بنظرة الناس إليه في حالة نرفزته، وجهله بالنتائج السيئة التي لغضبه: حيث يدمر علاقاته مع غيره، وقد يدمر سلام بيته وأسرته، ويدمر اثناء ذلك بعض روحياته. كما أنه قد يفقد وظيفته أو ترقيته، إذ كان غضبه عنيفًا مع رؤسائه في العمل. وربما في لحظة يضيع ما بناه في سنوات! حقًا إن الغضب خطية مدمرة. وكما قال سليمان الحكيم "لا تسرع بروحك إلى الغضب، لأن الغضب يستقر في حضن الجهال"..
من كل ذلك، نرى أن الغضب خطية مركبة، تحمل في داخلها كثرة من المعاصي. كذلك فإن هذه النرفزة مضرة على صحة صاحبها: وعلى رأى أحد العلماء الذي قال "إن جسم الإنسان أثناء الغضب يفرز سمومًا". وفي التعبير العامي نقول عن الغضوب: إن دمه قد تعكّر...
والغضب قد يتسبب في أمراض كثيرة، منها ارتفاع ضغط الدم، وأمراض الأعصاب، والسكر، وبعض أمراض القلب والمعدة. وبعض الأشخاص قد يرتعش أثناء غضبه، أو يرتجف صوته وألفاظه!
ومن نتائج الغضب أيضًا عرقلة الصلاة: فقد يحاول الشخص أن يصلى بعد غضبه، فيجد أن فكره يتشتت أثناء الصلاة، ويسرح في الأسباب التي من أجلها قد غضب، أو في نتائج ما حدث وفي مستقبل تعامله مع من أغضبه. ويتصور أمورًا عديدة، ويكون كمن يكّلم نفسه، أو يكلم غيره. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). ويرى أن صلاته التي سرح فيها في هذا كله، لا يمكن أن تُحسب صلاة. وإنما البركان الذي داخله مازال ينفث حممًا..!
والغضب باعتباره خطية مكشوفة ومفضوحة، يكون باستمرار معثرًا للآخرين، ولا يعطى صورة طيبة عن الذي يغضب ويتنرفز، ويبدو أمام الناس ضعيفًا فاقد الأعصاب، غير مسيطر على نفسه، لا يستطيع أن يضبطها... كما يبدو أنه والشخص الآخر الذي تسبب في غضبه، كلاهما متشابهان في الخطأ مع اختلاف النسبة...
ومن أجل كل هذه الأخطاء التي يشملها الغضب، وكل نتائجه السيئة، فإن فضيلة الاحتمال تبدو مضيئة وذات قدر كبير... ومعروف أن الاحتمال بعيد عن الرغبة في إثبات الذات ومحبة الكرامة، كما أنه دليل على الرحمة، فيمتزج بفضيلة العفو عن المسيء، ويدل على سعة الصدر وطهارة القلب وسموه. وهو يُوجد دالة عند الله، وتفرح به الملائكة، وينال صاحبه عزاءً على الأرض، وإكليلًا في السماء...
والإنسان الذي يحتمل المسيء، هو بلا شك أقوى من المسيء، وأقوى ممن يغضب بسبب الإساءة. إنه الأقوى لأنه استطاع أن يضبط نفسه فلا يخطئ ولا يرد الإساءة بمثلها. وهو الأقوى في أعصابه وفي إرادته وفي صبره، وفي انه لم ينزل بنفسه إلى مستوى المسيء في أخطائه لكي يرد عليه بما يستحقه. وبعض الآباء يرى أن المسيء هو شخص ضعيف، يحتاج إلى من يحتمل ويقيمه بالصبر من أخطائه وسقطاته...
أتذكر اننى حينما كنت أعمل في التعليم منذ حوالي 60 عامًا، أن جاءني زميل وقال لي "أنا لا أستطيع أن احتمل فلانًا" فقلت له "ولكن الله يا أخي مازال يحتمل هذا الشخص في كل أخطائه إليك والى غيرك، كما يحتمل أخطاء غيره أيضًا. فاصبر أنت عليه، وربما باحتمالك تكسبه ويندم. أما إن رددت عليه، فإن الموضوع سيكبر"...
أما بعد، فأود أن أقول إن الغضب يكون على أنواع ودرجات. وأنا لم أحدثك إلا عن جانب واحد من الغضب الثائر العدواني. فإلى اللقاء في مقال آخر إن أحبت نعمة الرب وعشنا، لكي استكمل معك هذا الموضوع أو أحاول أن أستكمله...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/wcxy4f5