بكلمة ”وراثة“ نعني انتقال بعض العناصر واستمراريتها من جيل لجيل، وهذا المُصطلح لم يكُن معروفًا للآباء بل بدلًا منه كانوا يستخدمون كلمة ”طبيعة – فيزيس Φυsιs - nature“ للإشارة إلى نفس المعنى والمضمون الذي لكلمة ”وراثة“.
أمَّا المُصطلح الثاني ”البيئة“ فواسع للغاية وليس تعريفه بالأمر السهل، لكننا نستخدمه هنا في هذه الدراسة ليدُل على كلّ ما هو خارج الفرد، أي الأشخاص الآخرين، المُجتمع ببنيته ومُؤسساته، النباتات، الحيوانات، إلخ... ورغم أنَّ الآباء لم يستخدموا هذا المُصطلح بمعناه الواسع، إلاَّ أنهم استخدموا مُصطلحات أخرى تُشير إلى أجزاء من هذا المُصطلح الواسع مثل ”التدريب“، ”الإرشاد“، ”التربية“، ”التفاعُل الاجتماعي“ إلخ... وهم يُشيرون إلى البيئة الاجتماعية أكثر مِمّا للبيئة المادية.
وكان آباء الكنيسة على وعي وإدراك تام بأنَّ للوراثة والبيئة دورهما الهام للغاية في النمو الشخصي لكلّ فرد، وبحسب الآباء، يرِث الإنسان الضعفات وأيضًا الاستعدادات، وقد كتب القديس يوحنَّا الدَّرجي مُعلِّم النفوس الشهير، مُعبِّرًا عن هذا الفِكْر بوضوح في كِتابه ”السُّلَمْ“ فيقول:
”إنَّ البعض -لا أعرف لماذا- هم بالطبيعة، إن جاز أن أقول، ميّالون إلى ضبط النَّفْس أو الصمت أو النقاوة أو الاتضاع أو الوداعة أو الحُزن، بينما هناك آخرون يغصِبون على أنفسهم بأقصى قُدرتهم (لاقتناء هذه الفضائِل) رغم أنَّ طبيعتهم عينها تُقاومهم في ذلك“. (1)
وهذا القول يُدهِشنا تمامًا، لأنه يشرح بوضوح أنَّ الإنسان يرِث الاستعدادات والميول الصَّالِحة، وهي فكرة نادرًا ما نجدها في أعمال الآباء، فالأدب الآبائي في تعليمه عن الخطية، يُؤكِد دومًا على الجانب السلبي للوراثة، أي أننا نرِث الضعفات والميول الرديئة والتي تُعتبر نتائج لـ”الخطية الأصلية“ أو خطية آدم، أي الاختيار المُتعدي والخاطئ الذي صنعه الإنسان الأوَّل آدم، عندما أكل من الثمرة المُحرَّمة، وهكذا بعصيانه وتعديه، حُرِم من الشَرِكَة مع الله وفسدت طبيعته، وصار هذا الفساد ينتقِل من جيل إلى جيل وساد في الطبيعة البشرية بجُملتها، النَّفْس والجسد، ويقول القديس أبو مقار الكبير أنَّ هذا الفساد موجود في سائر البشر (2) ويدفعهم نحو الخطية، وهو يُمثِّل ”الناموس الآخر“، ”ناموس الخطية“ الذي في أعضائنا كما كتب القديس بولس الرَّسول (رو 7: 23) والذي يُحارب ”ناموس العقل“، ولذلك الإنسان ”مُستعد وميَّال لأن يشترِك في الشر“ (3) أكثر مِمّا في الخير، وتختلف درجة هذا الميل الشِّرِّير من شخص لآخر، وطبيعته ليست إجبارية بقدر ما هي تعرض وتُقدِّم، وقد عبَّر القديس مقاريوس عن هذا الفِكْر عندما قال في إحدى عِظاته الشهيرة: ”إنَّ طبيعتنا قادرة على قبول الخير والشر، وقُوَّة الشر تغوي وتعرِض ولا تُكره أو تُجبِر“. (4)
كذلك يشرح الأدب الآبائي أنَّ الإنسان حُر في قبول ”الشهوات“ أو رفضها، وهذه حقيقة تجعل الإنسان مسئولًا عن أعماله (5)، وحياة الراهب ليست أكثر من جهاد مُستمر ليغلِب هذا الميل الشِّرِّير، أمَّا التعليم والتربية الرهبانية فتهدِف -من ناحية- إلى وضع هذا الجهاد في إطار منهجي مُنظم، ومن الناحية الأخرى إلى إنماء الميول والاستعدادات الصَّالِحة والتي يرثها الإنسان أيضًا من آبائِهِ وأجداده، وبعض هذه الاستعدادات هي ”الذكاء“ و”الفضائِل“ (6)، ويقول القديس باسيليوس: ”إنَّ الفضائِل توجد فينا أيضًا بالطبيعة، والنَّفْس تنجذِب لها ليس بالتربية بل بالطبيعة نفسها“. (7)
ومُصطلح ”بالطبيعة“ هنا إنما هو مُرادف لمُصطلح ”بالميلاد“، وفي القرن الرَّابِع شرح الأنبا بفنوتيوس بوضوح أنَّ بعض الناس لهم ميول فِكرية، بينما هناك آخرون لهم ميول أخلاقية (8)، لكن الفضائِل لا توجد في درجتها العالية المُتقدمة، بل كبذرة وكـ”ميل“ و”استعداد“، ويتضح هذا الفِكْر أيضًا في كِتابات كلِمنضُس السكندري: ”وفوق كلّ شيء، يجب أن يعرفوا أننا بالطبيعة نميل إلى الفضيلة، وليس معنى هذا أننا نملُكها بالميلاد، بل أننا مُستعدون ولائقون لكي ننالها“. (9)
وتعتمد درجة تقدُّم الإنسان في الفضيلة على التدريب الذي يتلقاه وعلى جهاده الشخصي، وقد كتب القديس مقاريوس قائلًا: ”لقد وضعت النِعمة الإلهية تدبيرًا يجعل كلّ أحد يُشارِك في التقدُّم والنمو الروحي بحسب رأيه الشخصي وإرادته هو، وبحسب عمله وجهاده هو“. (10)
والاستعدادات الموروثة، والضعفات والسِمات الأخرى الموروثة أيضًا، هي ما يُميِّز الإنسان عن الآخر ويجعل كلّ إنسان فريدًا، وقد وضعت قوانين الكنيسة هذه الفرادة في اعتبارها، عند تحديدها للسِنْ الذي يصير فيه الطفل مسئولًا عن أعماله، وهكذا نجد البابا تيموثاوس السكندري في إجاباته القانونية Canonical Answers يقول أنَّ الطفل يُصبِح مسئولًا عن أعماله عندما يبلُغ نضوجًا مُعيَّنًا، عادة نحو سِنْ 10 أو 11 عامًا... وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. فلم يُحدِّد البابا تيموثاوس سِنًا مُعيَّنة لأنَّ هذا يتوقف على طبيعة الطفل. (11)
أمَّا فيما يختص بالبيئة، فنجد أنَّ العديد من النصوص النُّسكية تُوضِح أنَّ آباء الكنيسة كانوا ينظرون إلى ”البيئة environment“ كعامِل مُؤثِر وهام في تطور ونمو الشخصية، ويُلاحظ القديس يوحنَّا الدَّرجي مُندهشًا أنَّ المُعاشرات الاجتماعية -والتي هي جزء من بيئة الشخص- قوية للغاية لدرجة أنها تُؤثِر على الإنسان وتسحبه بعيدًا عن توجهاته الطبيعية بسرعة فائقة، ولعلّ كاتِب ”السُّلَمْ إلى الله“ -لأسباب تعليمية- أكَّد بشدة على الدور القوي الذي تلعبه البيئة في تشكيل الشخصية، ولم يكُن يُعبِّر عن الرؤية العامة لهذا الموضوع، ورغم أنَّ الآباء لم يشرحوا إلى أي مدى تُؤثِر البيئة على تطور ونمو الإنسان، إلاَّ إنه يتضح لنا أنهم لم يعتبروه عاملًا فائق القُدرة في تشكيل الشخصية (12)، بل وحتّى القديس يوحنَّا الدَّرجي نفسه في موضِع آخر من كِتابه ”السُّلَمْ“ يقول أنَّ الوراثة تُشكِّل الإطار الذي فيه تُقدِّم البيئة تأثيرها وصياغتها للشخصية، وعلى أيَّة حال، رأى الآباء أنَّ البيئة الصَّالِحة يُمكن أن تكون نافعة للغاية للإنسان، وأنَّ البيئة الرديئة يُمكن أن تكون مُدمرة للإنسان، وفي ”الأقوال Apophthegmata“ نقرأ: ”إنَّ من يذهب إلى محل العطور، حتّى ولو لم يشتري شيئًا، يشترك في الرائحة العَطِرة“. (13)
لذلك أخذ آباء البريَّة خُطوات جادَّة نحو خلق بيئة ومناخ صالح ونافع في أديُرتهم، وشجَّعوا تكوين العلاقات الحميمة بين المُبتدئين والرُّهبان المُتقدمين الذين هم ”محل عُطور“ بالنسبة للراهب، وكان على الرُّهبان أن يجاهدوا لأجل إقامة مثل هذه العلاقات، ولأجل أن يتفادوا أي مُعاشرة مع ”الأُخوة الكذبة“ (14).. وهذه البيئة كانت أيضًا نتيجة للبنية العامة للحياة الرهبانية.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/amf28hc