رأى الآباء أنَّ للنمو الإنساني أبعاد ثلاثة، الأوَّل هو الوراثة والثَّاني هو البيئة، وهذين قد ناقشناهُما، أمَّا البُعد الثَّالِث فهو النِعمة الإلهية، وفي اللاهوت المسيحي، مُصطلح ”النِعمة الإلهية“ يعني محبة الله المجانية كما تُستعلن في خلاص الخُطاة ومنح البركات، وتعمل النِعمة أساسًا في هؤلاء الذين لهم ارتباط عضوي بالكنيسة والذين يُجاهدون ليعيشوا بحسب تعاليمها، لكن النِعمة تعمل أيضًا خارج الكنيسة في هؤلاء الذين غالبًا ما يتجاهلونها ولا يبذلون أي جهد لاقتنائها.
وقد اعتبر الآباء أنَّ النِعمة الإلهية أهم العوامل التي تُؤثِر على تطور ونمو الشخص، بل وبجانب أنَّ لها تأثيرها المُباشِر على الإنسان، فهي كذلك تحكُم العاملين الأخريين (الوراثة والبيئة)، وهكذا كان هناك أمور كثيرة رأى الآباء أنها نتيجة وثمرة للنِعمة بينما رأى الدارسون والباحثون المُحدِثون أنها نتيجة لعاملي البيئة والوراثة، وفي الأدب الآبائي، نجد وثيقة رهبانية مُبكِرة للغاية تُؤكِد بجلاء على أهمية وأولوية النِعمة الإلهية، تلك هي ”سيرِة القديس باخوميوس Vita Prima of St. Pachomius“ فنقرأ فيها كلمات تلاميذه المملوءة بالإعجاب والدهشة:
”اعتدنا أن نعتقِد أنَّ كلّ القديسين كانوا بتدبير الله قديسين منذ أن كانوا في رَحِم أُمهم ولا يُمكن أن يتغيَّروا، وليسوا قديسين بإرادتهم الحُرَّة وأنَّ الخُطاة لا يُمكن أن يعيشوا بسيرة صالحة لأنهم خُلِقوا هكذا، لكننا الآن نرى صلاح الله واضحًا في حالة أبونا هذا إذ وهو من والدين وثنيين صار خائفًا لله للغاية، وهو مُلتحِف بجميع وصايا الرب... فلنمُت ولنحيا مع هذا الإنسان لأنه يقودنا بالصواب إلى الله“. (15)
ونجد هذا القول عينه أيضًا في كتاب ”الأقوال“... وبحسب الآباء، كانت النِعمة الإلهية هي القُوَّة التي تقود عاملي البيئة والوراثة، وهي التي تُعطي الجهود التربوية والتعليمية إمكانية النجاح، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. وكانت كلمات السيِّد المسيح ”بدوني لا تقدِروا أن تفعلوا شيئًا“ (يو 15: 5) دومًا في أذهانِهِم.
ولكي نلخص هذا الفِكْر الآبائي، يُمكننا أن نقول أنَّ آباء الكنيسة رأوا أنَّ نمو الإنسان وصياغة شخصيته كان نتيجة لعوامل ثلاثة: الوراثة – البيئة - النِعمة الإلهية... ولذلك كتب القديس مقاريوس الكبير قائلًا: ”لا يستطيع الإنسان أن يتقدَّم بالقُوَّة والنِعمة الإلهية فقط دون تعاونه وإرادته الحُرَّة، وكذلك لا يُمكنه بقُوَّته وجهاده فقط، دون معونة الروح القدس أن يُتمِّم إرادة الله الكاملة ويصل إلى مِلء الحُرية والنقاوة“. (16)
ورغم أنَّ النصوص الآبائية لا تُوضح لنا إلى أي مدى يسهم كلّ عنصر من هذه العناصر المُؤثِرة في نمو الإنسان وشخصيته، إلاَّ أنَّ الآباء أكَّدوا بشدَّة على دور النِعمة الإلهية، واضعين إياها فوق العاملين الآخرين.
والآن عندما نُقارِن بين تعليم الآباء وبين نظريات العِلْم الحديث، نجد أنه في موضوع الوراثة والبيئة ودورِهِما التشكيلي والتكويني للشخصية، تتفق أفكار وتعاليم الآباء مع العِلْم الحديث، ومن الآراء العِلمية الحديثة المقبولة في هذا الصدد، القول بأنَّ ”الشخص، أي شخص، وكلّ سِماته الجسمية والعقلية والثقافية، هو نِتاج تفاعُل الطبيعة والتنشِئة، الوراثة والبيئة“ (17)، أمَّا بالنسبة للنِعمة الإلهية فمن الجلي أنَّ العُلماء لا يقبلونها كعامِل مُؤثِر في صياغة الإنسان وشخصيته.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/f9tz7yf