خصائص الإنجيل وأسلوبه:
وصف بولس الرسول القديس لوقا بـ"الطبيب الحبيب"، وكان القديس لوقا، كما جاء عنه في كتابات الآباء، وكما يبدو لنا من أسلوبه في التدوين والكتابة سواء في الإنجيل أو في سفر الأعمال، شخصية متعددة الجوانب والمواهب، فقد كان طبيبًا وأديبًا وشاعرًا وفنانًا واسع الفكر، ورحالة غير محترف ولكن معتاد على الرحلات البحرية وله خبرة واسعة بها، إلى جانب كونه تلميذًا للرسل ومسيحيًا يونانيًا وكارزًا عملاقًا، دون الإنجيل وسفر الأعمال بالروح القدس. وكان ذو ثقة عالية ومؤرخًا دقيقًا يرى الدارسين أنه أحسن كاتب يوناني بين الإنجيليين الأربعة، ويقول رينان عن إنجيله هذا "أنه أروع كتاب في العالم"، وقد استخدم مفردات كثيرة، فهو غنى بالمفردات وإيقاعي في تركيبه، وكمؤرخ فهو حريص جدًا ودقيق إلى أبعد حد. ويبدأ الإنجيل بمقدمة مؤرخ، وهى، كما يرى العلماء، أبلغ قطعة في العهد الجديد، وعندما يبدأ في رواية أحداث ميلاد يوحنا المعمدان والسيد المسيح في الإصحاحين الأول والثاني، يبدو اللون العبري والصبغة العبرية واضح جدًا أكثر من بقية أجزاء الإنجيل، فهو يسجل أناشيد زكريا والعذراء القديسة مريم وأليصابات وسمعان الشيخ، والتي يترجمها من العبرية والآرامية، وكذلك نشيد الملائكة كآخر المزامير العبرية وأول الترانيم المسيحية، فهذا الجزء من الإنجيل عبري يوناني وبقية الإنجيل يوناني خالص.
كما تميز الإنجيل الثالث، هذا، بمفردات كثيرة عن الأناجيل الثلاثة الأخرى إذ يتميز وحده بـ180 تعبير في حين يتميز الإنجيل للقديس متى بحوالي 70 والإنجيل للقديس مرقس ب 44 والإنجيل للقديس يوحنا ب 50 تعبير. وكطبيب فقد استخدم عبارات واصطلاحات طبية كثيرة مثل "المفلوج، جراح، ضمد، صب زيتًا وخمرًا، مضروبًا بالقروح، الجذع، يغشى من الخوف (176)"، وأهتم بمعجزات شفاء المرضى، ويتحدث عن الأمراض بدقة، واتفق في وصفه للأمراض مع كُتاب الطب القديم مثل جالينوس، فوصف حمة حماة بطرس بأنها "حمة شديدة (177)" والروح الذي كان على الابن الوحيد لأبيه "فيصرعه (178)" والمرأة التي كانت بها روح ضعف "كانت منحنية (179)"، وهو وحده إلى سجل قول المسيح "على كل حال تقولون لي هذا المثل أيها الطبيب أشف نفسك (180)"،ولأنه طبيب فقد تكلم عن الأطباء بلهجة مخففة عن لهجة القديس مرقس في نفس الحديث، فيقول "وامرأة بنزف الدم منذ اثنتي عشرة سنة وقد أنفقت كل معيشتها على الأطباء ولم تقدر أن تشفى من أحد (181)"، ويقول القديس مرقس ".. وقد تألمت كثيرًا من أطباء كثيرين وأنفقت كل ما عندها ولم تنتفع شيئًا بل صارت إلى حالة أردأ (182)".
وقد كتب القديس لوقا الإنجيل الثالث للمسيحيين من الأمم، وبصفة خاصة اليونانيين، كما كتب القديس متى لليهود والقديس مرقس للرومان والقديس يوحنا للمتقدمين في الإيمان من يهود ورومان ويونانيين ومن كل الأمم. ومن ثم فقد شرح القديس لوقا مواقع المدن الفلسطينية وأسمائها "مدينة من الجليل اسمها ناصرة (183)"، "كفر ناحوم مدينة من الجليل (184)"، وكذلك المسافات بين البلاد "قرية بعيدة عن أورشليم ستين غلوة اسمها عمواس (185)"، وشرح عادات اليهود "وقرب عيد الفطير الذي يقال له الفصح (186)". ولأنه كتب للأمم فقد ركز على تدوين المواقف والأحداث التي تؤكد وتبين أن المسيح جاء ليخلص جميع الأمم والشعوب من جميع الخطايا والأتعاب ومن جميع الأمراض، ومن فقد تجنب تسجيل جميع الأقوال التي قال فيها السيد إنه أرسل إلى خراف بيت إسرائيل أولًا، وعلى العكس من ذلك فقد سجل الأحداث التي تمجد الأمم وتفتح الطريق أمامهم للخلاص الأبدي مثل قائد المئة الذي بنى لليهود مجمعًا "يحب أمنا وهو بنى لنا المجمع (187)"، ومثل السامري الصالح الذي كان أكثر صلاحًا من اللاوي والكاهن اليهوديين (188)، والسامري الذي شفاه السيد من برصه وعاد ليشكره في حين كان معه تسعة من اليهود لم يفعلوا مثله (189).
كما ركز على تدوين الأقوال والعمال التي تؤكد شمولية الخلاص وعموميته، وأن المسيح قد جاء مخلصًا وفاديًا لكل البشرية في العالم كله من كل جنس ولون ولسان، وليس اليهود فقط، ولذا يرجع بنسب المسيح إلى آدم، أب البشرية كلها "ابن آدم ابن الله (190)"، وكانت بشارة الملاك وجمهور الجند السماوي للرعاة تعلن ميلاد مخلص كل البشرية "إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب.. المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة (191)"، ويعلن سمعان الشيخ بالروح القدس أن المسيح جاء لخلاص جميع الشعوب والأمم "لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). نور إعلان للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل (192)"، في نبوءة إشعياء عن يوحنا المعمدان معد الطريق للمسيح، يقول "ويبصر كل بشر خلاص الله (193)". وهو وحده الذي يسجل قول المسيح عن إرسالية إيليا للأرملة الوثنية في صرفة صيدا (194)، وتطهير أليشع لبرص نعمان السرياني (195). وهو وحده الذي يسجل إرسالية السبعين رسولًا (196) والذين يتفق الجميع إنها كانت للأمم، كما يسجل شفاء المسيح لعبد قائد المئة الروماني (197)، كما يسجل قول السيد المسيح "يأتون من المشارق ومن المغارب ومن الشمال والجنوب ويتكئون في ملكوت الله (198)"، كما يسجل إرسال المسيح لتلاميذه ورسله ليكرزوا بالإنجيل لجميع الأمم وإلى أقصى الأرض "وأن يكرز باسمه (المسيح) بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأً من أورشليم (199)"، "وتكونون لي شهودًا في أورشليم وفى كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض (200)".
كما دون الأحداث والأقوال التي تقدم المسيح صديق الخطاة وفاديهم ومخلصهم الرحيم، ومريح التعابى وشافي المرضى من جميع أمراضهم وأتعابهم، ومحب البشرية والراعي الصالح الذي يبحث عن الضال في مثل الخروف الضال "هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارًا لا يحتاجون إلى توبة (201)"، وفى مثل الابن الضال "ابني هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالًا فوجد (202)"، وفى مثل الدرهم المفقود "هكذا أقول لكم يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب (203)"، وكذلك في مثال الفريسي والعشار (204)، قدم المسيح غافر الخطايا مهما كانت، وفى قصة المرأة الخاطئة (205)، نرى المسيح الذي يبرر حتى الزواني. وعلى الصليب يقدم لنا المسيح الذي غفر لصالبيه "يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون (206)"، وعلى الصليب أنها يقبل توبة اللص المصلوب التائب ويعده بالفردوس (207).
كما يقدم المسيح محب الإنسانية، الذي يحب الجميع كأفراد، فهو يهتم حتى بأحقر الناس، ويحب الوضيع والمحتقر ويعطف على المريض، بل ويعطف حتى على الزواني والعشارين ويدعوهم للتوبة، ويطوب المساكين والفقراء بالروح والجائعين، ويشفى المقعد والعرج والأعمى، ويحب السامريين ويوبخ على التعصب الأعمى ضدهم ويرفض الانتقام من القرية السامرية التي رفضت استقباله وينتهر يعقوب ويوحنا لأنهما طلبا أن تنزل نار من السماء لتهلك هذه القرية "وقال لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص (208)"، ورفض الفكر الطائفي "من ليس معي فهو على. ومن لا يجمع معي فهو يفرق (209)".
ويسجل الأحاديث والأحداث التي تقدم لنا المسيح كإنسان، فهو يدون قصة طفولته وميلاده بالتفصيل، فيذكر الحبل به بالروح القدس (210) وميلاده في الشهر التاسع (211) من الحبل به وختانه في اليوم الثامن لميلاده (212) ونموه في القامة والحكمة كإنسان "وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (213)، كما يسجل سموه وتفوقه منذ صبوته، فيذكر جلوسه في الهيكل كمعلم وسط العلماء وهو في سن الثانية عشر واهتمامه بما للأب "ينبغي أن أكون في ما لأبى (214)". ويذكر صلاته بجهاد ولجاجة في البستان ونزول "عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض" (215) وظهور ملاك له من السماء ليقويه كإنسان (216).
ويقدم المسيح الذي يكرم المرأة من خلال تسجيله لقصص مجموعة من النساء البارات القديسات، فيقدم العذراء القديسة مريم "الممتلئة نعمة" والتي استحقت أن تدعى بـ"أم الرب (217)" لأنها ولدت الإله المتجسد، وأليصابات التي عرفت بالروح القدس المسيح وهو جنين في بطن أمه وحَيَّت والدته (218)، وحنة النبية التي ظلت في الهيكل ولم تفارقه "نحو أربع وثمانين سنة لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلًا ونهارًا (219)"، ومريم أخت لعازر التي اختارت النصيب الصالح الذي لن ينزع منها (220)"، ومرثا أختها المضيافة، ومريم المجدلية ويونا وسوسنة وبقية النساء التلميذات اللواتي "كن يخدمنه من أموالهن (221)"، ثم يذكر عطف السيد المسيح على النساء المتألمات مثل أرملة نايين التي كانت تنوح على وحيدها الذي مات، فأقامه لها الرب (222)، والمرأة الخاطئة التي دهنت قدميه بالطيب وبدموعها ومسحتها بشعرها (223)، ونازفة الدم التي صرفت كل معيشتها على الأطباء (224)، والمرأة المنحنية (225)، والأرملة التي أعطت كل ما لديها لله (226)، وكذلك إشفاقه على بنات أورشليم اللواتي كن ينحن عليه وهو حامل الصليب (227). فقدم لهن السيد الحنان والحب والعطف والكرامة في عصر لم يبالى بالنساء وفى مجتمع كان الرجل فيه يشكر الله لأنه لم يخلقه امرأة، وكان الكتبة والفريسيون يجمعون أرديتهم في الشوارع والمجامع لئلا يلمسوا امرأة، وكان يعتبرونها جريمة أن ينظر رجل لامرأة غير محجبة. ولكن السيد المسيح عطف على المرأة ورفعها وكرمها واخرج من امرأة سبعة شياطين.
كما قدم المسيح محب الأطفال؛ إذ يضع هالة مقدسة وسحر سماوي على الطفولة التي تخلد الفردوس وتقدم البراءة في عالم خاطئ، فهو وحده الذي روى تفاصيل طفولة المعمدان وتفاصيل طفولة السيد المسيح وختانه وصبوته. ويروى لنا قصص "الابن الوحيد لأمه" ابن أرملة نايين، وابنة يايرس الوحيدة، والابن الوحيد الذي كان به روح يصرعه.
وأخيرًا يقدم لنا إنجيل الشعر الروحي؛ يقول الدارسون أن الإنجيل للقديس لوقا هو إنجيل الترانيم والتسابيح والتماجيد، وأفضل مرنم وأول كاتب ترانيم مسيحي هو القديس لوقا. فهو يقدم الشعر الروحي والديني الذي يستقر على حقائق وحق أبدى، والإنجيل كله مملوء بالحيوية الدرامية والتشويق، إذ يبدأ بالشكر والتسبيح. ويفيض الفصلين الأولين فيه بالفرح الاحتفالي والسرور والبهجة، إنهما فردوس من شذى الأزهار، وعزف بأحلى الألحان السمائية يرتل أجمل الترانيم والمزامير العبرية المسيحية السمائية، وفيهما نسمع تسبحة أليصابات وتسبحة القديسة مريم وبركة زكريا وترنيمة المجد التي شدت بها الملائكة في الأعالي، وتمجيد سمعان الشيخ بلسان الأجيال ووحي الروح القدس، ترانيم وتسابيح أبدية. والإنجيل كله ملئ بتمجيد الله وحمده، ففيه نرى الرعاة "وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوه ورأوه وقيل لهم (228)" بعد مشاهدتهم للطفل الإلهي، والمفلوج الذي شفاه الرب "مضى إلى بيته وهو يمجد الله (229)"، وجميع الذين شاهدوا معجزة شفائه أخذتهم "حيرة ومجدوا الله وامتلئوا خوفًا قائلين أننا قد رأينا اليوم عجائب (230)"، وعندما أقام الرب ابن أرملة نايين من الموت "أخذ الجميع خوف ومجدوا الله (231)"، وبعد أن شفى المرأة التي كان بها روح ضعف "استقامت ومجدت الله (232)"، والسامري الذي شفاه الرب من البرص "رجع يمجد الله بصوت عظيم (233)"، والأعمى الذي شفاه الرب بالقرب من أريحا "تبعه وهو يمجد الله. وجميع الشعب إذ رأوه سبحوا الله (234)".
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/t767m42