السيد المسيح لم ينقض شريعة موسى. ويكفى في ذلك قوله: "لا تظنوا أنى جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض، لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل" (مت 5: 17، 18).
إذن لا نقول فقط، إن شريعة العهد القديم لم تلغ ولم تنقض. بل أن حرفا واحدا منها لا يمكن أن يزول.
إذن ما معنى: قيل لكم عين بعين، وسن بسن؟
إن هذا كان شريعة للقضاء، وليس لتعامل الأفراد.
بهذا يحكم القاضي حين يفصل في الخصومات بين الناس. ولكن ليس للناس أن يتعاملوا هكذا بعضهم مع البعض الآخر.
ولكن إن فهم الناس خطأ أنه هكذا ينبغي أن يتعاملوا!! فإن السيد المسيح يصحح مفهومهم الخاطئ بقوله: من ضربك على خدك، حول له الآخر أيضًا.
وهكذا تابع الحديث معهم قائلًا:
"سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ" (إنجيل متى 5: 43، 44).
هنا لم ينقض السيد المسيح الشريعة القديمة، وإنما صحح مفهومهم عن معني القريب. إذ كانوا يظنون أن قريبهم هو اليهودي حسب الجنس. أما السيد المسيح فبين لهم أن قريبهم هو الإنسان عمومًا، ابن آدم وحواء.
فكل إنسان يجب أن يقابلوا إساءته بالإحسان. فالمفهوم الحقيقي للشريعة هو هذا. بل إن هذا يتفق مع الضمير البشري، حتى من قبل شريعة موسى.. وهذا ما سار عليه الآباء والأنبياء، قبل الشريعة وبعدها.
مثال ذلك يوسف الصديق، الذي تآمر عليه أخوته وأرادوا أن يقتلوه، ثم طرحوه في بئر. وأخيرًا بيع كعبد للإسماعيليين، فباعوه إلي فوطيفار (تك 37). يوسف هذا أحسن إلي أخوته، وأسكنهم في أرض جاسان، وعالهم هم وأولادهم. ولم ينتقم منهم، ولم يعاملهم عينًا بعين ولا سنًا بسن. بل قال لهم: "لاَ تَخَافُوا.. أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا.. فَالآنَ لاَ تَخَافُوا. أَنَا أَعُولُكُمْ وَأَوْلاَدَكُمْ. فَعَزَّاهُمْ وَطَيَّبَ قُلُوبَهُمْ" (سفر التكوين 50: 21).
أتري كان يوسف في مستوي أعلي من الشريعة؟! حاشا.
و لكن اليهود ما كانوا يفهمون الشريعة. فصحح المسيح مفهومهم.
ووصل إلي محبة العدو، والإحسان إلي المبغضين والمسيئين من قبل أن ينادي المسيح بهذه الوصية..
مثال آخر مشابه هو موسى النبي: لما تزوج المرأة الكوشية، تقولت عليه مريم مع هارون. فلما وبخهما الرب علي ذلك، وضرب مريم بالبرص، حينئذ تشفع فيها موسي، وصرخ إلي قائلًا: اللهم اشفها" (عد 12: 13). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). لم يقل في قلبه إنها تستحق العقوبة لإساءتها إليه، بل صلي من أجلها (عد 12: 13).
وهكذا نري أن موسي النبي الذي نقل إلي الشعب وصية الرب: عين بعين وسن بسن، لم ينفذها في معاملاته الخاصة.
بل نفذ وصية المسيح قبل أن يقولها بأربعة عشر قرنًا: صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم. إنه المفهوم الحقيقي لمشيئة الله.
نفس الوضع كان في تعامل داود النبي مع شاول الملك الذي أساء إليه، وحاول قتله أكثر من مرة. ولكن لما وقع شاول في يده، لم يعامله داود بالمثل. ولم بسمع لنصيحة عبيده بقتله. بل قال: حاشا لي أن أمد يدي إلي مسيح الرب. ووبخ رجاله ولم يدعهم يقومون علي شاول (1 صم 24: 6، 7). بل أن داود بكي علي شاول فيما بعد لما مات.
ورثاه بنشيد مؤثر، وأحسن إلي أهل بيته (2 صم 1) (2 صم 9: 1).
إذن شريعة الله هي هي، لم تنقض ولم تلغ.
والله ليس عنده تغيير ولا ظل دوران" (يع 1: 17).
إنما السيد المسيح قد صَحَّح مفهوم الناس لشريعة موسى، ووصل بهم إلي مستوي الكمال، الذي يناسب عمل الروح القدس فيهم.
قال "سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن. أما أنا فأقول لكم: إن كل من ينظر إلي امرأة ليشتهيها، فقد زني بها في قلبه (مت 5: 27، 28).
إنه لم ينقض الشريعة. فوصية "لا تزن" لا تزال باقية كما هي. وكل إنسان مطالب بحياة العفة والطهارة. ولكن السيد المسيح وَسَّع فهمهم للوصية. فليس الزنا فقط هو إكمال الفعل بالجسد، بل هناك نجاسة القلب أيضًا. وشهوة الزنا التي تبدأ في القلب، وتظهر في حاسة النظر. وهكذا نهي السيد عن النظرة الشهوانية، واعتبرها زنا في القلب. وأمر بضبط حاسة البصر فلا تخطئ.
ولعل هذا يذكرنا بما قاله أيوب الصديق (في العهد القديم):
"عهدًا قطعت لعيني، فكيف أتطلع في عذراء؟" (أي 31: 1).
بنفس السمو في الفهم، قال سيدنا يسوع المسيح أيضًا:
"سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تقتل. ومن قتل يكون مستوجب الحكم. وأما أنا فأقول لكم: إن كل من يغضب علي أخيه باطلًا، يكون مستوجب الحكم.." (مت 5: 21، 22).
وصية "لا تقتل" لا تزال قائمة كما هي، لم تلغ. ولكن السيد المسيح حرم الخطوة الأولى المؤدية إليها، وهي الغضب الباطل.. فكل جريمة قتل تبدأ بالغضب، كما أن كل خطية زنا، تبدأ بشهوة في القلب. والسيد المسيح في عظته على الجبل، منع الخطوة الأولى المؤدية إلى خطية إذن لم تنقض، بل بقيت كما هي. وإنما أكمل الرب فهم الناس لها فوسع مفهومها، وسما بمعانيها. ومنع أسباب الخطية، والخطوة الأولى المؤدية إليها.
بقيت نقطة هامة تخص بالرمز، وما يرمز إليه.
ومن أمثلة ذلك الذبائح الحيوانية، وكانت ترمز إلي السيد المسيح.
خذوا الفصح مثالًا: وكيف كان المحتمي وراء الأبواب المرشوشة بالدم، ينجو من سيف المهلك، حسب قول الرب ويكون لكم الدم علامة علي البيوت. فأري الدم وأعبر عنكم. فلا يكون عليكم ضربة للهلاك" (خر 12: 13). وكان الفصح رمزًا للسيد المسيح، فيقول القديس بولس الرسول "لأن فصحنا أيضًا المسيح قد ذبح لأجلنا" (1 كو 5: 7).
صار المسيح هو الفصح، وهو أيضًا ذبيحة المحرقة وذبيحة الخططية وذبيحة الإثم وذبيحة السلامة. لم تلغ تلك الذبائح، إنما كملت في المسيح.
وكذلك الأعياد ورموزها، وباقي قواعد النجاسات والتطهير.
دم الذبائح كان رمزًا لدم السيد المسيح. ولا يزال المذبح موجودًا في العهد الجديد،
ولكن ليس لذبائح حيوانية، وإنما لذبيحة المسيح ودمه الذي يطهر من كل خطية (1 يو
1: 7).
والكهنوت الهاروني في العهد القديم، كان يرمز إلي كهنوت ملكي كما قيل في
المزمور "أنت هو الكاهن إلي الأبد علي طقس
ملكي صادق" (مز 110: 4). وهكذا
لم يلغ الكهنوت، ولكنه "قد تغيَّر" (عب 7: 12).
بقيت الشريعة. ولكن لما أتي المزمور إليه، حل محل الرمز.
المرجع: سنوات مع أسئلة الناس - جزء 10 - البابا شنوده الثالث.
مقال عن ما جئت لأنقض بل لأكمل - من محاضرات تبسيط الإيمان - الأنبا بيشوي.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/n728qkq