+ لماذا الهروب؟
ولكن كيف وهو الإله الحقيقي المتجسد يهرب أمام بشر وهو الملك هيرودس الذي كان يطارده بسبب سؤال المجوس: "أين المولود ملك اليهود فإننا رأينا نجمه في المشرق واتينا لنسجد له" (مت 2: 2) إذ اضطرب هيرودس الملك وكل أورشليم معه... وإذ أوصى المجوس أن يبحثوا بالتدقيق عن الصبي ومتى وجدوه يخبرونه لكي يذهب ويسجد له أيضًا... ولكن أوحى للمجوس في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس فانصرفوا إلى طريق أحرى في كورتهم... وحينئذ لما رأى هيرودس أن المجوس سخروا به غضب جدًا فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها من ابن سنتين فما دون بحسب الزمان الذي تحققه من المجوس" (مت 2: 7-17)...
فكرة الهروب هي الفكرة الروحية التي ظهرت في هذا العيد، وهو مبدأ روحي في الكتاب المقدس ضمن ما يُسَمَّى بقضية الألم في الكتاب."الصديق يبصر الشر فيتوارَى". هذا مبدأ روحي أراد السيد المسيح أن يعلمه، ليس خوفًا ولا جُبنًا ولا بُعْد عن المواجهة، لكن هي حكمة. ممكن وصف الهروب على أنه حكمة بل نصف النصرة، السيد المسيح أراد أن يرينا طريق السلام "ومع مبغضي السلام كنت صاحب سلام" بمعنى أن الإنسان يُفضل السلام عن الحرب التي بلا منفعة، والدليل على هذا السيد المسيح واجه الشيطان في عبادة الأوثان وبدد الأصنام في مصر، يوسف الصديق هرب من أمام امرأة سيده وانتصر وواجه الشيطان في السجن والآلام التي أحتملها فالهروب ليس عجز.
وهنا يجب أن نستوقف أنفسنا لنتأمل مبدأ هامًا في الروحيات وهو الهروب من الشر.
+ فالسيد المسيح جاء برسالة سلام ومصالحة بين الناس والله وبين الناس وبعضهم البعض وبين الناس وأنفسهم من الداخل...
لذلك نهى كثيرًا عن العنف وأمر بعدم استخدامه كما جاء في عظته الشهيرة على الجبل قوله: "لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا ومن سخرك ميلًا واحدًا فاذهب معه اثنين... من سالك فأعطيه ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده... أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم... لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات... فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصاحين ويمطر على الأبرار والظالمين... لأنه أن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم, أليس العشارون أيضًا يفعلون ذلك...؟ وان سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل تصنعون؟! أليس العشارون أيضًا يفعلون كذلك؟ فكونوا انتم كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل..." (مت 5: 39-48)...
بهذا المنهج قدم الطفل يسوع نفسه وسيله إيضاح فهرب من أمام هيرودس مقدمًا المثل والقدوة للبعد عن الانتقام والعنف ومواجهه الشر بمثله والعداء بالعداء... فحقق تلك المعادلة الصعبة التي صارت مبدأ لأولاد الله في العالم أن يغلبوا القوة بالضعف, والعنف باللطف, والسلب والسرقة بالعطاء... هكذا قال الكتاب عن الرب يسوع: "فإن المسيح أيضًا تألم لأجلنا تاركًا لنا مثالًا لكي نتتبع خطواته. الذي لم يفعل خطيه ولا وجد في فمه مكر الذي إذ شتم لم يشتم عوضًا وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لِمَن يقضي بعدل"... (1 بط 2: 21-23)... هذه هي حقيقة الأمر... إن الطفل يسوع لم يهرب ضعفًا ولم يخاف من الموت... (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). إذ كيف وهو الله يحاف إنسان, وكيف وهو الحياة التي لا تموت يخاف الموت...؟! إنما أراد أن يسلم كنيسته في العهد الجديد منهج المحبة الكاملة والسلام التام ورفض العداء والاعتداء... الم يقل القديس بولس أن ضعف الله أقوى الناس وجهل الله احكم من الناس؟!! (1كو 1: 25)... هكذا يسلك أولاد الله بقوته وليس بقوتهم الضعيفة وبحكمته وليس بحكمتهم التي هي جهالة بالنسب لله وهذا سر المعادلة الصعبة أن المؤمنين يبدون وكأنهم ضعفاء أمام قوة العالم ولكن قوة الله مخافة فيهم لذلك ينتصرون وإن بدوا ضعفاء بدون عنف ولكن بالهروب من الشر لذلك قيل: "الصديق يبصر الشر فيتوارى" أي يختبئ ليس عن ضعف ولكن بحكمته لأن عمر الشر قصير ينتهي سريعًا كما مات هيرودس وانتهى شره وعادت العائلة المقدسة بهدوء وسلام إلى الناصرة حيث سكنوا...
والنصيحة التي قدمها القديس بولس فيقول "لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكانًا للغضب. لأنه مكتوب لي النقمة، أنا أجازي يقول الرب... ولا يغلبنك الشر بل أغلب بالخير)... (رو 12: 19 , 21).
وكلام القديس بطرس الرسول حين قال (لان هذا أفضل, إن كان أحد من أجل ضمير نحو الله يحتمل أحزانًا متألمًا بالظلم (1 بط 2: 19)... وقال أيضًا (غير مجازين عن شر بشر أو عن شتيمة بشتيمة بل بالعكس مباركين عالمين أنكم لهذا دعيتم لكي ترثوا البركة لأن مَن أراد أن يحب الحياة ويرى أيامًا صالحه فليكفف لسانه عن الشر وشفتيه عن أن تتكلما بالمكر, ليعرض عن الشر ويصنع الخير, ليطلب السلام ويجد في إثره لأن عيني الرب على الأبرار وأذنيه إلى طلبتهم ولكن وجه الرب ضد فاعلي الشر, فمن يؤذيكم إن كنتم متمثلين بالخير ولكن إن تألمتم من أجل البر فطوباكم)... (1 بط 3: 9-14)...
ثم يطمئن مَنْ يسلك في هذا المنهج الإلهي قائلًا: (كما اشتركتم في آلام المسيح افرحوا لكي تفرحوا في استعلان مجده أيضًا مبتهجين, إن عيرتم باسم المسيح فطوبى لكم لأن روح المجد والله يحل عليكم... فلا يتألم أحدكم كقاتل أو سارق أو فاعل شر أو متداخل في أمور غيره ولكن إن كان كمسيحي فلا يخجل بل مجد الله من هذا القبيل (1بط 4: 13-16)...
+ لماذا مصر بالذات؟
كانت مصر رائدة العالم الأممي فكانت بفرعونها تشير في العهد القديم إلى العبودية, وبخصوبة أرضها تشير إلى حياة الترف ومحبة العالم وكان يمكن للسيد أن يلتجئ إلى مدينة في اليهودية أو الجليل لكنه أراد تقديس لأرض مصر ليقيم في وسط الأرض الأممية مذبحًا له... في هذا يقول إشعياء النبي "هوذا الرب راكب على سحابه خفيفة سريعة وقادم إلى أرض مصر فترتجف أوثان مصر من جهة ويذوب قلب مصر داخلها" (اش 19: 1)... في ذلك اليوم يكون مذبح للرب للرب في وسط ارض مصر وعامود للرب في تخمها فيكون علامة وشهادة لرب الجنود في ارض مصر.
مصر كانت أكبر معقل للعبادة الوثنية في المنطقة كلها، مصر لها موقع متميز في الكتاب المقدس، حضر إليها أبونا إبراهيم ويعقوب أبو الآباء ويوسف الصديق وموسى النبي، مجموعة من الأنبياء مهدوا لمجيء السيد المسيح ليتوج هذا الحضور.
مصر تحدث عنها الكتاب المقدس كثيرًا وجاءها كثير من الشخصيات الهامة من الآباء والأنبياء واحتلت جزًا كبيرًا من تاريخ أولاد الله...
1-مصر منذ أن أسسها مصرايم الذي من نسل نوح وهي ملجأ للجميع.
2- زارها أبونا إبراهيم كما يذكر الكتاب المقدس في (تك 12: 10-19) "وحدث جوع في الأرض فانحدر أبرام إلى مصر ليتغرب هناك لأن الجوع في الأرض كان شديدًا".
3-في خيرها وعاش فيها يوسف الصديق حيث باعه إخوته كما يذكر (تك 37: 18– 29).
4-ولقد كان يوسف رمزًا للسيد المسيح الذي جاء لاستبقاء حياة...
لقد تحدث الكتاب المقدس كثيرًا عن مصر وبالذات في النبوة عن هروب الطفل يسوع إلى مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها... في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط ارض مصر وعمود للرب عند تخومها فيكون علامة وشهادة لرب الجنود في ارض مصر...
هذا ما تحقق حين قال الملاك ليوسف النجار في حلم: "قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه..." (مت2: 13)
ولقد سارت العائلة المقدسة في هروبها من وجه هيرودس إلى مصر حوالي 1033 كيلو متر وهي المسافة من بيت لحم إلى المحرق... ذهابًا ثم مثلها إيابًا بحسب الترتيب التالي:
من بيت لحم إلى الفرما التابعة للعريش ومنها إلى تل بسطه (بالقرب من الزقازيق) ومنها إلى بلبيس ومنها إلى منية جناح (بالقرب من سمنود) ثم إلى البرلس ثم إلى سخا (بالقرب من كفر الشيخ) حيث وضع الطفل يسوع رجله على حجر فانطبع عليها كذلك سُمِّيَ هذا المكان (بيني ايسوس أي كعب يسوع)... ثم انتقلت العائلة المقدسة إلى وادي النطرون ثم إلى عين شمس فالمطرية (حيث شجرة مريم المباركة)... ثم إلى فسطاط مصر (مصر القديمة) حيث اختبأ في مغارة (وهي في كنيسة أبي سرجه الآن)... ثم توجهوا إلى الصعيد واستقروا على صخرة عالية معروفه الآن بجبل الطير (شرق سمالوط حاليًا) ثم إلى الاشمونين (بجوار مركز ملوي) ثم استأنفوا السير من الجبل الشرقي إلى الغرب حيث وصلوا إلى جبل قسقام المعروف الآن بالدير المحرق حيث أقاموا هناك ستة أشهر...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/6bks8dv