قدمت لنا هذه الأصحاحات (خر 35-40) صورة تفصيلة لعمل الخيمة وإقامتها وتكريسها حيث أعلن الله مجده فيها، وقد سبق لنا الحديث عن الخيمة وأدواتها (خر 25، 26، 27، 30، 31)، لذا سأكتفي هنا بالملاحظات البسيطة التالية:
1. لماذا ذكرت تفصيلات الخيمة بإسهاب مرة أخرى؟
2. التقدمات
3. الحكمة في العمل والتبرع
4. التبكير في العطاء
5. تدشين الخيمة
أ. أراد الكتاب المقدس أن يؤكد أن الصناع قد التزموا بالدقة الشديدة في عمل الخيمة وكل أدواتها حسب المثال الذي أمر به الله موسى. فإن الله الذي يهتم بإقامة مسكن روحي في داخلنا يُريد فينا الدقة في تنفيذ الوصية.
ب. تسجيل أعمال الطاعة التي قام بها هذا الشعب لتصير جزءًا حيًا من كلمة الله، إنما يعلن لنا أننا -خلال أعمال الطاعة- تصير حياتنا مسجلة في سفر الحياة ويُكتب لنا الخلود.
رأينا قبلًا قول الكتاب "خذوا من عندكم تقدمة للرب" (خر 35: 5)، إنها قد حملت تقدمة داخلية، فيقدم الإنسان حياته وقلبه ومشاعره وفكره... لهذا تنوعت التقدمات لكننا لا نجد فيها "رصاصًا" لأنه يُشير للخطية، إنما نجد الذهب والفضة والنحاس... حتى شعر الماعز وجلود الكباش والتخس التي تُشير إلى حياة الإماتة وضبط شهوات الجسد.
يؤكد الكتاب: "جاء الرجال مع النساء كل سموح القلب..." هذه الشركة في العطاء تُشير إلى اشتراك النفس مع الجسد، والفكر مع العاطفة، أي تقديس الإنسان كله كوحدة واحدة. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [النساء هن صالحات يَطعن رجالهن، بمعنى أن الجسد صالح لا يتمرد على الروح بل يطيعها وينسق العمل معها(446)].
كما أن الجسد يمكن أن يحطم النفس بمقاومته لها خلال الشهوات الشريرة، فيحرم الاثنان معًا من الأمجاد الإلهية، هكذا بخضوعه يعمل مع النفس تحت قيادة السيد المسيح بواسطة روحه القدوس لينالا معًا الإكليل السماوي. وكما يقول العلامة أوريجانوس أنه إذ يتم التنسيق بين النفس والجسد والوحدة بينهما في العمل الروحي يسكن الله في الإنسان كقول الرب: [إن اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون في وسطهم] (مت 18: 19).
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى نجد أيضًا في هذا العمل صورة حيَّة للكنيسة الحية التي يعمل فيها الرجال مع النساء ويشترك الشيوخ أيضًا... الكل يقدم شيئًا، ليس من خاملٍ ولا من عقيم في أعضاء جسد السيد المسيح.
تخصص الرؤساء في تقديم حجارة الجزع وحجارة الترصيع للرداء والصدرة وتقديم الطيب والزيت للضوء ولدهن المسحة وللبخور العطر (خر 35: 27، 28)، هؤلاء الرؤساء يشيرون للعمل القيادي لذا قدموا الحجارة التي تحدثنا عنها قبلًا والتي تُشير إلى حمل الشعب على الكتفين والصدر للدخول بهما إلى هيكل الرب بروح أبوي، نحمل مسئوليتهم ونصلي عنهم! هؤلاء يملأون أيضًا السراج بالزيت حتى تضيء حياتهم العملية بنور الإيمان العملي الحيّ فيشهدوا لله أمام الجميع، ويقدموا دهن المسحة لتكون أعمالهم ممسوحة بالروح القدس، أما البخور والعطور فلأن سرّ نجاحهم هو "الصلاة الدائمة" وتقديم حياتهم ذبيحة حب رائحة بخور زكية لدى الله.
يلزمنا إذ نملك مواد الخيمة أن تكون لنا الحكمة في بناء الخيمة، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [ماذا ينفعك لو أنك ملكت هذه المواد ولا تستطيع أن تستعملها، وتجهل إبراز قيمتها في الوقت المناسب وبالطريقة اللائقة؟! لهذا يليق بنا أن نجاهد لنصير حكماء، لكي نقدر أن نستخدم الأشياء التي نتعلمها من الكتب المقدسة في حينها، ونضعها في مكانها المناسب، فنبني بها مسكن الله ونزينه(447)].
كان الشعب يقدم عطاياه كل صباح (خر 36: 3)، والصناع يقدمون أعمالهم، ليس كحماس مؤقت ولكن بروح مثابر دائم حتى صار هناك فيض فوق الحاجة. هذه صورة الحياة العاملة التي تقدم للرب حياتها الداخلية وأعمالها كل صباح، أي في وقت مبكر، ولا تنتظر لتقدم للرب ما يتبقى منها في آخر النهار. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). إنها تعطيه الأولوية في كل حياتها، الله أولًا وقبل كل إنسان وقبل كل عمل! لهذا تقول الحكمة (الرب): "أنا أحب الذين يحبونني والذين يبكرون إليّ" (أم 8: 17). ويقول المرتل: "يا الله إلهي أنت. إليك أبكر. عطشت إليك نفسي، يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء لكي أبصر قوتك ومجدك كما قد رأيتك في قدسك" (مز 63: 1-2).
تقديمهم عطاياهم في الصباح لا يعني فقط أنهم يقدمون من أعوازهم، لكنهم أيضًا يقدمون بفرح وابتهاج بغير تردد ولا تأجيل، وكأنهم يتمثلون بمريم المجدلية التي خرجت في الصباح الباكر تحمل أطياب الحب لتلتقي بالسيد المسيح القائم من الأموات.
إذ أطاع الشعب أوامر الله بكل دقة أُقيمت الخيمة، وتقبلها الله الذي تسعه السموات والأرض لتكون مسكنًا له وسط شعبه!
كان يومًا مفرحًا إذ سيم الكهنة ودشنت كل الخيمة وأدواتها "ثم غطت السحابة خيمة الاجتماع وملأ بهاء الرب المسكن، فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة الاجتماع، لأن السحابة حَلَّت عليها وبهاء الرب ملأ المسكن" [خر 34-35]. هنا موسى بكل ما بلغ إليه من دالة لدى الله عجز عن الدخول إلى الخيمة لأن السحابة حلت عليها وبهاء الرب ملأ المسكن، وكأنه أراد أن يعلن لشعبه أنه قدم الرمز كاملًا وترك الطريق للابن الوحيد الذي في حضن الآب، وهو وحده الذي يدخل قدس الأقداس، يحملنا فيه لننعم بسحابة الروح القدس التي تملأ المسكن وندخل به إلى بهاء الرب وشركة أمجاده إلى الأبد.
_____
(446)In Exod hom 13: 5. Prudentius.
(447) عظة 13: 7.
← تفاسير أصحاحات الخروج: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
مراجع هذا التفسير |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير الخروج 34 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/6mw9vtn