محتويات
الحياة هي نفس الحياة بالنسبة إلى الكل، بحلوها ومُرَّها.
وقد تتشابَه الظروف الخارجية بالنسبة إلى كثيرين، ولكن انفعال البعض بها يختلف عن انفعال البعض الآخر. ونظرة كل من الفرقتين تختلف عن الآخر. والبعض له نظرة بيضاء والبعض الأخر له نظرة سوداء...
ولنأخذ مثالًا لذلك: المشاكل:
لا يوجد أحد لا تصادفه مشاكل. كل إنسان له مشاكله.
ولكن البعض ينظر إلى المشكلة بنظرة سوداء، معقدة، كما لو كانت المشكلة بلا حل ولا مخرج، أو منفذ، كما لو كانت ألمًا، وضياعًا.
وقد صوَّر داود المشاعر على إنها حرب خارجية، فقال "كثيرون يقولن لنفسي ليس له خلاص بإلهه."(مز3). ولكنه لم يخضع لهذه الحرب، بل قال في رجاء "وأنت يا رب هو ناصري، مجدي ورافع رأسي".
وهذا يقودنا إلى النظرة البيضاء للمشكلة.
فيها يرى الإنسان كل مشكلة لها حل، وان الأمر ليس خطيرًا وليس مستحيلًا. وأن الله لا بُد أن يتدخل في المشكلة ويحلها.
ووسط هذه المشاعر يضع أمامه قول الرسول "احسبوا كل فرح يا أخوتي، حينما تقعون في تجارب متنوعة" (يع2:1).
بالنظرة البيضاء يقابل المشكلة ليس فقط بأعصاب هادئة، وإنما بفرح شاعرًا إنه سينال بركة المشكلة، وما فيها من خبرة روحية، وكيف انه سوف يلمس يد الله العاملة معه. ويرى كيف سيحلها الله.
المشكلة واحده، ولكن تختلف النظرة إليها والانفعال بها، ويختلف الـResponse.
هناك أناس تُسَبِّب لهم بعض المشاكل أمراضًا صعبة.
مثل ضغط الدم، أو السكر، أو قد يصاب بعضهم بانهيار نفسي، أو بتعب في أعصابه، أو في نفسيته، أو قد يقع على الأرض مشلولًا، أو يصاب بذبحة، أو بجلطة، أو بسكتة قلبية. كل ذلك حسب درجة انفعاله بالمشكلة، وحسب ضغطها عليه وشعوره، أنه قد انتهى ولا خلاص...!
أما صاحب النظرة البيضاء، فيمزجها بالإيمان والرجاء...
بإيمان يثق بوجود الله أثناء المشكلة، وبيد الله العاملة سواء رآها أو لم يرها. فلا يأبه للمشكلة، ولا عصره، ولا يسمح لها أن تضغط عليه.
إنه أكبر من المشكلة. أما صاحب النظرة السوداء، فالمشكلة أكبر منه.
صاحب النظرة السوداء، لا ينظر إلى ما في المشكلة من ألم ومن ضيق وتعب. ويقابلها بخوف وانزعاج. وقد تضغط على تفكيره فيتوقف، ويترك الأمر إلى أعصابه المنهارة. وقد يصل به الأمر إلى اليأس، وربما إلى الانتحار، كما حدث ليهوذا.
القديس بطرس الرسول أنكر السيد المسيح، والرب نفسه قال "مَن ينكرني قدام الناس، أنكره أنا أيضًا قدام أب الذي في السموات" (مت33:10). ولكنه لم يدع اليأس يسيطر عليه. وانتصر على المشكلة بالتوبة والرجاء ومحبة الله...
نتناول نظرة الإنسان إلى المادة، وإلى المال، وإلى الجسد.
إنسان ينظر إلى المادة، كأداة يخدم بها الله.
وإنسان آخر ينظر إليها، كوسيلة لخدمة شهواته.
والمادة هي نفس المادة، ولكن نوعية النظرة إليها، تحدد نوعية العلاقة بها، والتصرف معها. هل المادة تملكك، أم أنت تملكها؟
المال هو نفس المال. ولكنه في يد البعض يستخدمه للخير، وفي يد غيره يهلكه. لأن نظرة الواحد إليه غير نظرة الآخر...
نفس الوضع مع الجسد، هل تستخدمه لتمجيد الله وخدمته؟ أم تنظر إليه كأنه شر في ذاته، باستمرار يُعْثِرَك ويُسْقِطَك...؟!
شجرة معرفة الخير والشر كانت وسط الجنة، ويراها أبوانا ولا تعثرهما. فلما اختلفت النظرة إليها، كان السقوط.
لان حواء -بعد أن سمعت كلام الحية- فقدت نظرتها البسيطة، وتغيرت نظرتها إلى الشجرة، فإذا هي "جيدة للأكل، وبهجة لعيون، وشهية للنظر" (تك6:3). وبهده النظرة المتغيرة، وقعت في الشهوة وسقطت...
إذن لم تكن العثرة في الشجرة، إنما في نوع النظرة.
إنسان ينظر إلى الذي معه، فيرضَى ويشكر.
وآخر ينظر إلى الذي ينقصه، فيشكو ويتذمر.
وقد يكون الاثنان في نفس الظروف ونفس الأوضاع.
فما هي نوع نظرتك أنت؟ هل إلى الذي معك، أم إلى الذي ينقصك؟!
كثير من الذين يتذمرون ويتعبون، لو أنهم نظروا إلى ما معهم، لوجدوا أنهم في خير، وقد أعطاهم الرب الكثير والكثير. ولكنهم لم ينظروا إلى الذي عندهم!
آدم وحواء كانت لهما الجنة بكل ما فيها.
ولكنهما نظرا إلى الشجرة الواحدة التي تنقصهما!!
وبهذه النظرة سقطا، على الرغم من كل متعة الجنة.
ولعل من الأمثلة البارزة في نوعية هذه السقطة، الشيطان نفسه: كان الرب قد أعطاه الكثير: خلقه ملاكًا في منتهى البهاء، بطبيعة جميلة، ومن الرؤساء. وكان من رتبة الكاروبيم، ووصفه سفر حزقيال النبي بأنه الكاروب الْمُظَلِّلُ المنبسط (حز28: 14، 16)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولكنه لم يقنع بما معه، ونظر إلى ما ينقصه، أي أن يرفع كرسيه فوق كواكب الله ويصير مثل العلي...! (أش14: 13، 14).
وهكذا سقط الشيطان. ترك رفعته إلى ما ينقصه. أن يصير مثل الله!!
وكثيرون من هذا النوع. ما أكثر النعم التي تحطم بهم، فلا ينظرون إليها، إنما ينظرون إلى شيء آخر ينقصهم! وإن حصلوا عليه لا يكتفون، بل ينظرون إلى مستوى أعلى وأبعد ينقصهم...
وقد يتذمرون وهم وضع يشتهيه غيرهم ولا يجده!
بنوع نظرة الإنسان يسعد نفسه، وبنوع نظرته يشقيها.
ليست الظروف الخارجية هي التي تتعبك، وإنما يتعبك أسلوبك في التفكير، أو نظرتك إلى الحياة...
إنسان ينظر إلى الخير الذي في الناس ويمتدحهم
وإنسان آخر لا ينظر إلا إلى النقائص والعيوب.
هذا النوع له نظرة نقادة، لا يرى الشيء الأسود. متخصص في رؤية العيوب حتى بالنسبة إلى شخص يمدحه الكل وهو موضع رضي الكل. ومع ذلل ما أسهل أن يجد فيه عيبًا ينقده!!
هذا النوع تخصصه أن ينتقد، ويعارض، ويتكلم بالسوء على كل أحد، ولا يعجبه أي تصرف... على الأقل بالنسبة إلى شخص معين، أو إلى مجموعة معينة من الناس...
بينما السيد المسيح -حتى بالنسبة إلى المرأة السامرية الخاطئة- أمكنة أن يجد فيها شيئًا يمتدحها عليه... فقال لها "حسنًا قلت... هذا قلت بالصدق" (يو4: 17، 18). وحتى الشاب الغني الذي مضى حزينًا... أثناء حديث الرب معه، وجد فيه شيئًا فاضلًا أنه يحفظ الوصايا منذ حداثته، فيقول الكتاب إنه "نظر إليه وأحبه" (مز21:10).
لو كانت لك النظرة البيضاء، ستري في كثيرين شيئًا يحب، وشيئًا يمتدح...
درِّب نفسك على هذه النظرة. أي تنظر إلى محاسن الناس وليس إلى عيونهم. هناك نظرة واقعية، أن ترى ما فيهم من محاسن ومن عيوب، ولكن أي النوعين له التأثير الأكبر عليك؟
الذي لا ينظر إلا إلى العيوب، قد تجده ساخطًا على المجتمع كله.
لا يعجبه شيء... كل ما يراه هو موضع انتقاد. وبعض الذين ينادون بالإصلاح، لا ينظرون إلا إلى السواد فقط... ويحتار معهم كيف يرفضونهم... هم باستمرار عدائيون Aggressive... لا بد أن يجدوا شيئًا يهاجمونه. وأن لم يجدوا، يخترعون شيئًا يهاجمونه...
وبعض هؤلاء من الهجوم، ويتحولون إلى الانعزال...!
بسبب نظرتهم السوداء ينفرون من المجتمع، وينظرون على ذواتهم، إذ لا يجدون شيئًا يجبهم، ولا شيئًا يرضيهم. بل هم ساخطون على كل شيء...
وأحيانًا يصاب هؤلاء بأمراض نفسية...
قد يُصاب بعضهم بمرض الكآبة Depression وباستمرار تجده حزينًا كئيبًا، وينتظر الشر أن لم ير الشر أمامه، ويحزنه كل شيء...
وأحيانًا يخاف المجتمع، ويرى أن الغالبية ضده تدبر له ما يتعبه، فيصاب بعقدة الاضطهاد Persecution Complex، ويُخَيَّل إليه أن كثيرون يريدون الإضرار به وإيقاعه في مشاكل.
أو قد يُصاب بالعصبية، فتجده غضوبًا باستمرار، حاد الطبع، عالي الصوت، يحتد وربما بلا سبب يدعو إلى ذلك، وفي غضبه يثور، ويتكلم بما لا يليق، إنه لا يرى سوى سواد يثيره.
وربما يحارب بالشكوك في كل شيء.
في كل ما يحيط به، يفترض أسبابًا سوداء تدعوه إلى الشك. وإن بدأ الشك يحاربه، يلتقطه الشيطان لكي يضيف إليه مخترعات تزيد من شكه، حتى يصبح من شكه في جحيم. وكل هذا سبب نظرته السوداء التي تفترض الشر، بعكس الذي يؤول نفس الأمور تأويلًا ولا يحزن نفسه...
إن كثيرًا من الشكوك، ليس سببها الأسباب الخارجية، إنما حالة القلب والفكر من الداخل.
قد تكون النظرة السوداء، إذن مرضًا نفسيًا تنتج عنه هذه النظرة. وربما تؤدي هذه النظرة إلى مرض نفسي. أي قد تكون سببًا أو نتيجة.
أي أنه إذا بدأ بالنظرة السوداء يصل إلى المرض النفسي. أو بدأ بالمرض النفسي يصل إلى النظرة السوداء.
وبالنظرة السوداء يفقد الإنسان سلامه القلبي، بعكس الإنسان الذي باستمرار يحيا في بشاشة وفي فرح.
والعجيب أن النظرة السوداء تأتي حتى في العلاقة مع الله.
الشيطان قد يحارب الإنسان صاحب النظرة السوداء حتى في علاقته مع الله، فيصور له أن الله لا يهتم به، وإن الله قد أهمله، ولا يستجيب لصلواته، بل يصل به الأمر إلى أن الله يضطهده!
وهكذا بالنظرة السوداء يوصله إلى التجديف.
ونفس هذا الوضع قاله الشيطان لله عن أيوب الصديق. قال للرب "ولكن أبسط يدك الآن. وأمسس كل ما له، فإنه في وجهك يجدف عليك" (أي11:1)" وكلن ابسط الآن يدك وأمسس عظمه ولحمه، فإنه في وجهك يجدف عليك" (أي5:2).
لقد كرر عبارة "في وجهك يجدف عليك" مرتين.
وذلك لن حرب التجديف هي من الشيطان نفسه...
يهمس في أذن الإنسان المتضايق، أو صاحب النظرة السوداء، ويقول له "لماذا يعاملك الله هكذا؟! لماذا تثقل يده عليك"؟!
فصاحب النظرة السوداء، قد لا يشعر فقط أن الناس ضده، وإنما الله نفسه ضده!! السماء مغلقة أمامه! "لماذا يقولون لنفسي: ليس له خلاص بإلهه؟!" (مز3).
صاحب النظرة السوداء: يرى أن كل نهار، بعده ليل مظلم. أما صاحب النظرة البيضاء: فيرى أن كل ليل مظلم، بعده نهار مضيء...
النظرة السوداء تتعب من كل خطأ موجود...
والنظرة البيضاء تقول إن كل خطأ يمكن تصحيحه...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/righteousness/white.html
تقصير الرابط:
tak.la/bs9b5yh