لماذا - والنتيجة
طول أناة الله في معاملة فرعون أظهر شفقة الله، وصبره وحكمته.
وكان من نتائجها العجائب الكثيرة التي أجراها الله على يدى عبده موسى، وظهرت فيها قوة الله واضحة.
ولذلك قيل إن أخرجهم من عبودية فرعون "بيد قوية وذارع حصينة". وعجائب الله ومعجزاته كانت واضحة أمام الكل، أمام الكل، لأنها كانت تمس كل الشعب.
وفي نفس الوقت اظهر ضعف آلهة المصريين وضعف سحرتهم...
النيل مثلًا، كان يعبده المصريون. وكانوا يعيدون لوفاء النيل كل سنة، ويسترضونه بعروس يقذفونها إليه(1)..
فحينما يضرب الله هذا النهر، ويتحول ماؤه إلي دم وينتن. ويحتاج كل الشعب إلي ماء يشربونه... (خر 7: 20، 21).
كان هذا بلا شك دليلًا على قوة الله، ليس أمام فرعون فقط وسحرته، وإنما أمام كل الشعب.
فرعون نفسه كان مُعتبرًا كإله، يعبدونه ويسجدون أمامه...
وإذا بهذا الفرعون يصرخ أمام موسى وهرون، طالبًا صلاتهما عنه، ليرفع الرب عنه الضربة، حينما يشعر بثقلها عليه (خر 8: 8)، ويصرخ في كل عظمته قائلًا "أخطأت هذه المرة. الرب هو البار، وأنا وشعبي الأشرار" (خر 9: 27). "صليا لأجلي." (خر 8: 28).
فرعون نفسه كان خاضعًا للضربات. كانت تصيبه الدمامل، وتملأ بيته الضفادع، ويقاسى من الرعود والبرد.
والسحرة أيضًا ظهر ضعفهم. عملوا كل ما قدروا عليه، ثم وقفوا عند حد معين. "ولم يستطيع العرافون أن يقفوا أمام موسى" (خر 9: 11).
عجز العرافون بسحرهم، وقالوا لفرعون "هذا إصبع الله" (خر 8: 19).
هم أنفسهم أصابتهم الضربات...
ولولا أناه الله وصبره، ما كان يظهر ضعف السحرة وعجزهم، وما كانوا يعترفون هكذا أمام سيدهم فرعون، ويعلم بهذا كل الشعب.
كل هذا، وموسى يتأمل، ويأخذ دروسًا من طول أناة الله.
ويرى صبره، ويرى في نفس الوقت قوته وحكمته...
ويمتص موسى هذه الصفات الجميلة ويتعلم ويتدرب في مدرسة الله.
أن الذي يعاشر الله، لا بُد أن ينال خبرات روحية تفوق الوصف.
وكان هذا مع موسى النبي... رأى قوة الله، لأنها تمت على يديه، وبعصا الله التي في يده.
واختبر سرعة الاستجابة، وسرعة التصرف، مع طول أناة عجيبة!
وأتقن موسى هذا الدرس وهذا الاختبار، حتى قيل عنه:
"وكان الرجل موسى حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض" (عد 12: 3).
وماذا عن الشعب وخبراته؟
كانت إرادة الله أن يخرجهم من أرض العبودية. ولكنه لم ينفذ ذلك فجأة،، وإنما بطول أناة أنقذهم وخلصهم...
وأراهم في كل ذلك قوته.
كانت الضربة تصيب فرعون وكل شعبه، ولكنها لا تمسهم هم وشعروا باهتمام الله، ووثقوا به، واكتسبوا الإيمان الذي استطاعوا به أن يعبروا البحر الأحمر -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- وأن يحتموا قبل ذلك داخل الأبواب المرشوشة بدم خروف الفصح (خر 12: 13).
وعلي المدى الواسع من طول أناة الرب، توالت بركاته أيضًا:
وكان موسى أكثر من نال بركات من الرب في عشرته له.
في بادئ الدعوة أعطاه هرون أخاه لمساعدته، وقال له "تضع الكلمات في فمه، وأنا أكون مع فمك وفمه، وأعلمكما ماذا تصنعان".. وماذا قال له أيضًا عن هرون أخيه؟ قال:
"هو يكون لك فمًا، وأنت تكون له إلهًا" (خر 4: 16).
وطبعًا كلمه "إله" هنا لا تعني جوهر اللاهوت، إنما تعني السيادة والربوبية، كما تقول "رب أسرة" مثلًا، فلا تعني خالقها"، وأنما رئيسها.
وقد ورد في المزامير "ألم أقل إنكم آلهة وبني العلي تدعون، ولكنكم مثل البشر تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون" (مز 82: 7، 8).
فهؤلاء الذين يموتون ويسقطون لا يكونون آلهة بالمعني اللاهوتي للعبارة. إنما هم سادة أو أرباب على مستوى عالٍ.
وهكذا قال الرب لموسى أيضًا:
"أنا جعلتك إلهًا لفرعون. وهرون أخوك يكون نبيك" (خر 7: 1).
موسى هذا، الذي كرس نفسه لله، "وأبَى أن يُدْعَي ابنًا لابنة فرعون، مفضلًا بالأحرى أن يذل مع شعب الله" (عب 11: 24، 25).. قد دعي الآن "إلهًا لفرعون" بمعني سيدًا له، يرجوه فرعون ويتوسل إليه كلما ضغطت عليه ضربة من ضربات الله...
وهرون دعي نبيًا له، بمعني أن موسى يوحي إليه بالكلام فيتكلم. هو يضع الكلمة في فمه.
هنا نرى الهيبة العظيمة التي صارت لموسى أمام فرعون...
فعلي الرغم من كبرياء فرعون وغطرسته وتجبره، يقف أمام موسى، رجل الله متوسلًا طالبًا الرحمة!
وهكذا بدت يد الله القوية، فنزعت الغطاء عن وجه فرعون، فظهر على حقيقته إنسانًا ضعيفًا كباقي الناس.
أما موسى، ثقيل الفم واللسان، فتحقق فيه قول الرب:
"مَنْ وضع نفسه ارتفع" (مت 23: 12).
إنه ترك الإمارة والعظمة والقصر، "حاسبًا عار المسيح غني أعظم من خزائن مصر" (عب 11: 126). فكافأه الله.
موسى الآمِر ساكن القصر، خاف من فرعون وهرب (خر 2: 15).
أما موسى راعي الغنم، لما صار رجل الله، أمكنه أن يقف أمام فرعون في قوة..!
يقدم لفرعون إنذارًا في كل مرة!!
هكذا يقول الرب لك "أطلق الشعب، وإلا.." يصيبك كذا وكذا. ولا يجرؤ فرعون أن يقول له: من أنت حتى تهددني؟!
إنه رجل الله، الذي في يده عصا الله، وبالإيمان يصنع العجائب ويضرب الضربات أو يرفعها...
هذا ما فعلته طول أناه الله وغيرت الوضع بين موسى وفرعون.
وأصبح موسى في مركز القوة، وفرعون في مركز الضعف.
لو كان الله قد ضرب فرعون ضربة عنيفة من بادئ الأمر، لما خالف وتحدى، وما كانت هذه النتائج والخبرات الروحية قد ظهرت!! ولكنها طول أناة الله، وكيف تفعل...
موسى حينما كان أميرًا، كان يخاف. وقد قيل عنه:
"فخاف موسى... وهرب من وجه فرعون" (خر 2: 14، 15). أما الآن فلم يعد يخاف...
في الأول، لم يكن يعتمد على قوة إلهية تسنده! كان يعتمد على مركزه في القصر الملكى، وهذا أمر غير ثابت. ولذلك بعد قتله الرجل المصرى، وسمع فرعون هذا الأمر، "طلب أن يقتل موسى" (خر 2: 15).
أما الآن، فأنه يعتمد على قوة الله، فزال منه كل خوف.
إنه يؤمن بهذه القوة، وقد اختبرها علميًا، ووثق بها، فلم يساوره الخوف مطلقًا، كلما أمره الله بالذهاب لِمُلاَقَاة فرعون.
ما أجمل قول داود في المزمور:
"إن سرت في وادى ظل الموت، لا أخاف شرًا، لأنك أنت معى" (مز 23).
وقال أيضًا في صباه:
" تكلمت بشهاداتك قدام الملوك ولم أخزَ" (مز 119).
يُذَكِّرني موقف موسى من فرعون بملاقاة إيليا لأخاب الملك دون أن يخاف منه، مع خوف عوبيديا وباقي الأنبياء.
يذكرني أيضًا بعدم خوف يوحنا المعمدان من توبيخه لهيرودس الملك.
موسى أخذ خبرة روحية في الحياة مع الله وعرف حقيقة وهي:
قد تبدو أمور الله فاشلة في أولها، ولكنها تنتهي بقوة عجيبة وبنجاح...
لقد أرسل الله عبده موسى إلي فرعون ليطلق الشعب، فاشتد عليهم بالأكثر. وبدت الإرساليه فاشلة، حتى أن موسى عاتب الرب قائلًا:
"يا سيد، لماذا أسأت إلي هذا الشعب؟! لماذا ارسلتني؟ فإنه منذ دخلت إلي فرعون لأتكلم باسمك، أساء إلي هذا الشعب، وأنت لم تخلص شعبك!!" (خر 5: 22، 23).
ومع ذلك، فهذه البداية المؤسفة حولتها أناه الله إلي خير.
ليس المهم عند الله البدايات، بقدر ما تهمه النهاية والنتيجة.
وصدق سليمان الحكيم حينما قال: "نهاية أمر خير من بدايته" (جا 7: 8).
المسألة إذن تحتاج إلي صبر، إلي طول روح، إلي طول أناة، حتى تدرك أمور الله، وغايتها الطيبه المفرحة.
بداية الطريق الروحي، الباب الضيق (متي 7: 14) ونهايته الحياة والملكوت.
وصدق الآب الروحي الذي قال في بستان الرهبان أن أمور العالم تبدو حلوة ونهايتها مرارة. أما أمور الملكوت، أو أمور الملكوت، أو أمور الله فتبدو مرة في أولها، ولكن نهايتها حلوة. الأولى حلوات مرات والثانية مرات حلوات!
أمور العالم تبدأ بلذة، ولكنها تنتهي بالضياع...
كما قال الرب "واسع هو الباب، ورحب الطريق، الذي يؤدى إلي الهلاك. وكثيرون هم الذين يدخلون منه" (مت 7: 13).
وقصة الخروج بدأت في أولها مُتعبة، وأتت بنتيجة عكسية...
بدأت بقول فرعون "متكاسلون أنتم متكاسلون" (خر 5: 17)، وزيادته الثقل على الناس. واحتجاج هؤلاء على موسى وهرون لتدخلهم الذي أدى إلي زيادة التعب. "ولم يسمعوا لموسى من صِغَر النفس ومن العبودية القاسية" (خر 6: 9).
وبدا وعد الله بلا تنفيذ!
وكان قلب فرعون يشتد، حتى بعد الضربات والمعجزات، حتى طاردهم إلي البحر الأحمر... واحتج الشعب على موسى قائلين: "هل لأنه ليست قبور في مصر، أخذتنا لنمو في البرية؟!" (خر 14: 11).
واشتهوا بعد كل المعجزات والضربات أن يرجعوا إلي خدمة فرعون ويعيشوا، ولو في العبودية. ولكن موسى لم يفقد إيمانه.
كان قد تعلم من الرب طول الأناة، فقال للشعب:
"لا تخافوا. قفوا وانظروا خلاص الرب. الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون" (خر 14: 13، 14).
كان المنظر يدعو إلي اليأس. ولم يكن الخلاص واضحًا أمامهم، ولا كيف يكون! كان البحر الأحمر أمامهم، وفرعون ومعه ستمائة مركبة حربية خلفهم.
وكانت أناة الله قد وصلت إلي قمتها! وكان الخلاص قريبًا.
_____
(1) توضيح من الموقع: قصة عروس النيل (الضحية البشرية) هي مجرد أسطورة ظهرت في القرن الخامس عشر الميلادي من خلال المقريزي، وليس لها أي أصل تاريخي في الآثار المصرية المنتشرة في مصر وجميع أنحاء العالم، ولم يقبلها كثير من علماء المصريات المُعتبرين من أمثال د. زاهي حواس وغيره. ولم يعرف المصري القديم موضوع الأضحية البشرية هذا، بل كل ما كان في الأمر أنه كان احتفالًا بالنيل ومجيء المياه، وتقديم هدايا مختلفة له.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/moses-pharaoh/patience-god.html
تقصير الرابط:
tak.la/c8qhdpk