في المعمودية تأخذ تجديد الطبيعة. أما تجديد الذهن، وتجديد أسلوب الحياة، فأمر نحتاج إليه باستمرار في حياتنا. فلا يتحرر الإنسان على وضع معين.
تجديد الذهن، ومعناه تغيير نظرة الإنسان إلى الأمور.
وما أكثر عبارة التجديد في المزامير وفي الكتاب. فنحن في كل صلاة نقول في المزمور الخمسين "قلبًا نقيًا أخلق في يا الله، وروحًا مستقيمًا جدده في أحشائي". ونقول في مزامير الساعة "سبحوا الرب تسبيحًا جديدًا".
وفى الوضع الجديد لنا في المسيحية يقول الكتاب "خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة الله" (كو 3: 9، 10). لاحظوا هنا عبارة جديد، ويتجدد. ولكنه يتجدد للمعرفة. وهنا نفهم تجديد الذهن، أي يأخذ معرفة جديدة لم تكن له.
وهذا التجديد في المعرفة، تصحبه قوة جديدة للتنفيذ. إذ يقول الكتاب "وأما منتظرو الرب، فيجددون قوة. يرفعون أجنحة كالنسور. يركضون ولا يتعبون يمشون ولا يعيون" (أش 31:40).
إن الله يريد أن يكون لنا عنصر الجدة في حياتنا. لذلك يقول لنا في سفر حزقيال النبي "أعطيكم قلبًا جديدًا، وأضع روحًا جديدة في داخلكم" (حز26:36). وهنا نسأل ما معنى تجديد الذهن؟
الإنسان يخطئ، لأن فكره يقوده إلى الخطية. لذلك فإن الله يريد للإنسان أن تتغير نظرته إلى الأمور.
ولنأخذ كمثال: نظرة الإنسان إلى الجسد:
هل تفكير ذهنه في الجسد، أن الجسد هو للمتعة واللذة؟ سواء كانت المتعة في الأكل والشرب والملبس، أو في الممارسات الجنسية أو الزنا، أو في الشعور بجمال الجسد أو قوته... إن كان الأمر كذلك، فسوف يخطئ.
وهنا ينصحه الرسول بتجديد ذهنه، أي أن يأخذ فكره شكلًا جديدًا.
وفى تجديده، ينظر إلى الجسد كهيكل لله:
باعتباره أنه هيكل للروح القدس، والروح القدس يحل فيه (1كو19:6). إذا تجدد ذهنك، حينئذ ينظر إلى الجسد كمجرد وعاء للروح، سواء روحه الإنسانية أو روح الله الساكن فيه. وحينئذ يمكنه عن طريق الجسد أم يمجد الله، كما قال الرسول:
"مجدوا الله في أجسادكم، وفي أرواحكم، التي هي لله" (1كو20:6).
وهنا على الإنسان باستمرار أن يمجد الله في الجسد وبالجسد. ولعل هذا يتم إن كان الجسد يسير مع الروح في طريق واحد. أما إن كان هناك صراع بين الجسد والروح (غل17:5). فهذا يدل على أنه لا يزال في المفهوم القديم للجسد من حيث أنه جهاز للمتعة، ويحتاج أن يغير فكرته هذه.
لأنه حتى لو أنتصر على شهوة الجسد، وهو بهذا الوضع، يكون قد امتنع عن ارتكاب الخطية، وهو لا يزال يحبها. أما في تجديد الذهن، فهو ينتصر على الخطية لأنه قد ارتفع فوق مستواها، ولا يحتاج إلى جهد للخلاص منها.
وعندما يتجدد ذهنه، لا ينظر فقط إلى جسده بهذه النظرة، إنما ينظر هكذا أيضًا إلى أجساد الآخرين. فإن نظر إلى امرأة، لا يشتهيها في قلبه (مت28:5). ذلك لأن جسدها -في مفهومه الروحي- هو هيكل للروح القدس، له سمة القداسة وبخاصة في حالة تناولها من الأسرار المقدسة.
بتجديد ذهنه، ينظر إليها كابنة لله، لها احترامها، تنال منه كل توقير، بعيدًا عن النجاسة والفساد. ولا يلزم المرأة أن تتغطى من قمة رأسها إلى كعب قدميها، لكي ينجو هو من الشهوة الكائنة في قلبه... طبعًا الحشمة لازمة ولكن:
بتجديد ذهنه ينجو من الشهوة، من الداخل.
بدون وسائل خارجية تلجم شهوته. وهو مجرد لجام من الخارج! وهكذا -في تجديد ذهنه- لا يقول إن المرأة تعثرني. إنما يقول: إن ما كان يعثرني -قبل تجديد ذهني- هو شهوات قلبي الداخلية، بسبب مرض ذهني وسوء تفكيره.
الذي تجدد ذهنه ينظر إلى الجسد نظرة سامية، كخادم لعمل الروح، لعمل البر، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. به يركع ويسجد ويصلي. وبه يخدم ويتعب في الخدمة. بل يقدم الجسد ذبيحة مرضية لله (رو1:12). وهكذا نرى أن الشهداء والمعترفين قدموا أجسادهم لله ذبيحة مقدسة، ولم يكن الألم عائقًا لهم.
بتجديد ذهنهم لم يخافوا الموت، بل رأوا أن الموت هو الوسيلة التي توصلهم إلى المسيح.
هذا الذهن الجديد هو الذي منح الشهداء شجاعة في مواجهة الحكام الوثنيين، وشجاعة في تحمل الآلام، ناظرين إلى الألم كإكليل فوق رؤوسهم. وبهذا الذهن الجديد كانوا يسبحون ويرتلون وهم في طريق الاستشهاد.
وبهذا المفهوم لما أراد أهل رومه أن ينقذوا القديس أغناطيوس الأنطاكي من إلقائه إلى الأسود الجائعة، عاتبهم على ذلك بقوله "أخشى أن محبتكم تسبب لي ضررًا. وقد وصلت إلى نهاية المطاف...".
نفس الوضع بالنسبة إلى الصوم، فالإنسان الروحي الذي تجدد ذهنه، لا يبذل جهدًا في الانتصار على لذة الطعام، لماذا؟
لأنه وصل إلى الجسد الزاهد، وليس إلى مجرد الجسد الصائم.
لقد تغيرت نظرته إلى الأكل والطعام. ورأى أنه في الصوم يشعر بانطلاق روحه بغير عائق من الجسد... ارتفع فوق مستوى الماديات، ولم تعد الماديات تغريه... ويتطور متقدمًا في الوصول إلى روحانية الجسد...
طبعًا الجسد الروحاني نلبسه في القيامة (1كو44:15).
ولكنه يقترب من هذه الروحانية، بقدر ما تحتمل طبيعته.
نتحدث عن تجديد الذهن أيضًا، من جهة الطموحات والآمال.
حسب هدف الإنسان، هكذا تكون وسائله.
فإن كان الإنسان ينظر بنظرة عالمية إلى العلو والعظمة والكرامة، وإلى النجاح والطموح، فكهذا تكون تصرفاته.
الإنسان الروحي -الذي تجدد ذهنه- ينظر إلى الطموح نظرة روحية، فيها يرجع إلى الصورة الإلهية التي خلق بها منذ البدء. بحيث يرى العظمة الحقيقية، أنه يعيش بلا خطية.كما قال الرسول إن المولود من الله لا يخطئ والشرير لا يلمسه. ولا يستطيع أن يخطئ، لأنه مولود من الله (1يو9:3) (1يو18:5). في تجديد ذهنه يقول: كيف اهبط بمستواي إلى وضع الخطية؟! "كيف أفعل هذا الشر العظيم، وأخطئ إلى الله" (تك9:39).
ومن جهة النجاح والتفوق، للذهن المتجدد رؤية أخرى.
فهو لا يخلط النجاح بالذات، إنما بالوصية الإلهية. إنه لا يجعل النجاح مجرد وسيلة، ليرضى عن نفسه، ولكي تكون صورته مضيئة أمام الناس. إنما ينجح لأن أولاد الله ينبغي أن يكونوا دائمًا ناجحين. ليرضى الرب عنهم. وأيضًا يكونوا ناجحين، لأن الرب معهم وهو سبب نجاحهم.
والتفوق في نظره، هو تفوق في النوعية، وليس مجرد تفوق على الغير.
فحتى لو تفوق على غيره، وكان الأول في الترتيب، ومع ذلك بم يصل إلى المستوى العالي، فإن هذا لا يرضيه. وفي داخله يشعر بالتقصير... إنها في نظره ليست منافسة مع الغير، يصير فيها الأول. إنما هو جهاد للوصول إلى الكمال، بكل ما تستطيع طاقته أن تصل إليه.
ومن جهة العظمة، لا يهدف أن يكون عظيمًا أمام الناس.
إنما كما كان المعمدان "عظيمًا أمام الله" (لو1:15).
هيرودس الملك كان عظيمًا أمام الناس، عظمته فيها كبرياء، ويعطي فيها مجدًا لله. لذلك سمح الله أن يضربه الملاك، فأكله الدود ومات (أع21:12 -23). أما يوحنا المعمدان، فكان سر عظمته، أنه من بطن أمه كان مملوءًا من الروح القدس. وأمام الناس كان يقول عن السيد المسيح "ينبغي أن ذاك يزيد، وأنى أنا أنقص" (يو30:3) "أنا لست مستحقًا أن أحل سيور حذائه" (لو16:3).
فما هو نوع العظمة الذي يدور في ذهنك؟
هل هو الكرامة العالمية في البحث عن مديح الناس؟! أم هي كرامة الاتضاع كما قال الرب: من يضع نفسه يرتفع... استمع إذن إلى قول القديس أنطونيوس الكبير: من سعى وراء الكرامة، هربت منه. ومن هرب منها بمعرفة، سعت وراءه، وأرشدت الناس إليه"...
إذا تجدد ذهن الإنسان، يركز نظره في الأبدية، أكثر مما ينظر إلى العالم الحاضر.
وذلك حسبما قال الرسول "غير ناظرين إلى الأشياء التي ترى، بل إلى التي لا ترى لأن التي ترى وقتية. وأما التي لا ترى فأبدية" (2كو18:4).
إنه لا يفعل مثل الغنى، الذي ركز في خيرات العالم الحاضر، وكيف أنه سيهدم مخازنه ويبني أعظم منها ويقول لك يا نفسي خيرات كثيرة موضوعة لسنين عديدة (لو19:12). فجاءه الصوت الإلهي "يا غبي. في هذه الليلة تؤخذ نفسك منك. فهذه التي أعددتها لمن تكون؟!".
الذي يركز في الأرضيات، تزعجه الضيقة.
فإن تجدد ذهنه، يفرح بالضيقات.
بنظرته الجديدة يرى في الضيقات بركات عديدة. كما قال الرسول "احسبوا كل فرح يا أخوتي، حينما تقعون في تجارب متنوعة..." (يع2:1). وهكذا يأخذ من الضيقة فضائل الصبر والاحتمال، وبركة الآلام وأكاليلها. ولذلك قال القديس الأنبا بولا السائح "من هرب من الضيقة، هرب من الله". وبهذا أوصانا الله أن ندخل من الباب الضيق الذي يؤدي إلى الحياة (مت13:7، 14)
الإنسان الذي تجدد ذهنه، يجدد وسائله.
ربما فيها شر يظنه خيرًا.
ربما فيما ينشر الخير، أو ما يضنه خيرًا، يلجأ إلى وسائل خاطئة مثل العنف والقسوة، أو الإدانة ومسك سيرة الناس. ربما ينظر باستمرار إلى القذى التي في عين أخيه، ناسيًا الخشبة التي في عينيه...
فإن تجدد ذهنه، يعالج الأمور في وداعة وفي رحمة وفي أتضاع وحب. وفي ذلك قال الرسول "أيها الأخوة إن انسيق إنسان فآخذ في زلة، فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة، ناظرًا إلى نفسك لئلا تجرب أنت أيضًا. احملوا بعضكم بعضًا أثقال بعض" (غل1:6، 2).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/man/renew.html
تقصير الرابط:
tak.la/6kfpt5x