هناك نعمة ظاهرة ونعمة خفية...
النعمة الظاهرة هي التي نراها ونحسها في حياتنا، ونلمس يد الله في حياتنا وكيف أعانتنا وقتنا.
أما النعمة الخفية فهي التي تعيننا دون أن ندري، أو تبعد عنا شرًا قبل مجيئه إلينا، ونحن لا نعلم من أمره شيئًا.
أو قد نعرف هذه النعمة الخفية، ولكن لا نراها...
ومن أمثلة هذه النعمة الخفية، النعمة التي تعمل في اسرار الكنيسة وتهبنا ما لا نراه: كالبنوة والتبرير والمغفرة، والسلطان في سر الكهنوت، وسكنى الروح فينا في سر المسحة المقدسة (الميرون).
هناك نعمة تُعْطَى لنا بغير استحقاق منا، ونعمة تُعْطَى كمكافأة...
من أمثلة الأولى نعمة الوجود، النعمة التي نلناها حينما خلقنا الله، يضاف إليها نعمة أن نكون على صورة الله ومثاله) (تك 1: 26، 27). وأيضًا النِّعَم الخاصة بالمواهب الطبيعية، كأن يعطي الله لإنسان نعمة الذكاء أو الجمال أو الفن أو الحكمة والتدبير.
أما النعمة التي يعطيها الله كمكافأة فمثالها ما وهبه الله لأيوب الصديق مكافأة على صبره واحتماله (أي 42) وما وهبه لسليمان مكافأة له على أنه طلب الحكمة فقط، ولم يطلب لنفسه غنى، ولا طلب أنفس اعدائه (1مل 3: 11-13)
هناك أنواع أخرى من جهة عمل النعمة.
نعمة تعمل فينا من الداخل... ونعمة تعمل خارجنا من أجلنا: تعمل في الأوساط المحيطة بنا، وضد القوات المحاربة لنا...
نعمة تعمل من أجلنا روحياتنا، تقودنا للتوبة، أو ترفعنا في درجات الإلهية. ونعمة تهب المعجزات والآيات والقوات والعجائب.
وهكذا توجد نعمة تعطي ما هو في حدود الطبيعة البشرية ونعمة تعطي ما هو فوق الطبيعة.
توجد نعمة تبدأ العمل فينا. ونعمة حينما نبدأ نحن، تشترك في العمل معنا.
النعمة التي تبدأ، هي التي تغرس فكرًا معينًا في أذهاننا شعورًا معينًا في قلوبنا، ليس مصدره من ذاتنا، إنما هو هبة من الله.
ومن أنواع النعمة التي تبدأ بالعمل، نعمة الدعوة...
كالنعمة التي دعت شاول الطرسوسي دون أن يطلب أو يفكر. والمناخس التي كانت تنخسه دون أن يستجيب لها أولًا (أع 9: 1-6) والنعمة التي دعت بطرس وأندراوس وهما يصيدان السمك (مت 4: 18، 19) كذلك إنسان اسمه لاوي أو متى، كان جالسًا في مكان الجباية. لم يقل الكتاب إنه كان يصلي، أو في حالة روحية إنما كان في وسط المال والخزائن والظلم. وبدأت معه النعمة بعبارة "إتبعني" (مت 9: 9)
النوع الثاني هو حالة إنسان يبدأ وتعينه النعمة.
يريد والنعمة تعطيه قوة. تنضم إليه النعمة، وتشاركه وتسنده تعمل معه.
يبدأ الإنسان ثم يصرخ للرب قائلًا: اعني فلست قادرًا وحدي أن أعمل شيئًا. ويقول له الرب: لا تخف، أنا معك. ويمسك بيده ويقوده في الطريق... يبدأ بأن يلقي شباكه في البحر، ولو يسهر الليل كله دون أن يصطاد شيئًا. ثم تفتقده النعمة، وترشده أن يلقى شباكه في العمق (لو 5: 4- 6).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
المهم أن يشترك الإنسان في العمل مع النعمة.
سواء بدأ هو، ثم أعانته النعمة واشتركت معه. أو بدأت النعمة معه، واشترك هو في العمل معها...
نقول هذا، لأنه لا يمكن أن يكون الكسل هو مقدمة لمعونة الله. لا الكسل ولا النوم ولا التهاون ولا التواكل. بل العمل مع الله بكل جهد... أو بكل ما تمنحه النعمة من القوة...
ابدأ إذن بأية بداية، مهما كانت ضعيفة أو ناقصة أو ضئيلة. وثق أن النعمة ستفتقدك وتقويك وتعمل نعك. ولا تقل: سأنتظر لا أبدًا إلى أن تأتي النعمة وتعمل. إن بدايتك هي إشارة إلى النعمة أن تأتي...
ومع ذلك فكثيرًا ما تبدأ النعمة، حتى مع الذين لا يستجيبون.
مثل قول عروس النشيد صوت حبيبي. هوذا آت، ظافرًا على جبال وقافزًا على التلال" (نش 2: 8) ومثل قولها أيضًا "صوت حبيبي قارعًا: افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي. لأن رأسي قد امتلأ من الطل، وقصص من ندى الليل" (نش 5: 2) وكقوله أيضًا "هأنذا واقف على الباب وأقرع إن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي" (رؤ 3: 20).
إن ميدان عمل النعمة شامل، وله أمثلة كثيرة:
منها قول القديس بولس الرسول "ليس أننا كفاه من أنفسنا أن نفتكر شيئًا كأنه من أنفسنا، بل كفايتنا من الله.." (2كو 3: 5) إذن حتى الفكر الطيب، يقول عنه الرسول أن مرجعه هو الله وكذلك الكفاءة على العمل. فنحن لا نملك هذه الكفاءة، بل هي من نعمة الله علينا... يقول الرسول أيضًا:
"لأن الله هو العامل فيكم، أن تريدوا وأن تعملوا، من أجل المسرة" (في 2: 13).إذن فالإرادة الصالحة هي من عنده. وعملنا أيضًا مرجعه إليه، فهو العامل فينا.
بل إن الرسول يعتبر أن كل شيء حَسَنٌ فينا، قد أخذنا من الله أنعم به علينا. فيقول "أي شيء لك، لم تأخذه؟! وإن كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟!" (1كو 4: 7) لذلك فشعور الإنسان أن الخير الذي فيه يرجع إلى بشريته أو إلى ذاته هو شعور يؤدي إلى المجد الباطل والافتخار البشري! وهذا ترد عليه الآية القائلة "كل عطية صالحة، وكل موهبة تامة، هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار" (يع 1: 17)
نستنتج من هذا: أن كل عمل صالح، نعمله، إنما مصدره عمل النعمة فينا، أو على الأقل اشتركنا مع عمل النعمة.
يؤيد هذا قول الرب "بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئًا" (يو 15: 5) وقوله أيضًا "كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته، إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم أيضًا إن لم تثبتوا في" (يو 15: 4) وهذا حق. لأن عصارة الكرمة تجري في عروق الغصن وتعطيه حياة، وتعطيه قدرة على الإثمار. وهو من ذاته بدون الثبات في الكرمة - لا يستطيع شيئًا، بل يجف...
النعمة تعمل في البشر، ولكن هناك وزنات متفارته:
هناك من أعطى وزنة واحدة، ومن أعطى إثنين، ومن أعطى خمسًا (مت 25: 14) "كل واحد على قدر طاقته". إذن المواهب تتنوع، وليست واحدة في عددها. وإنما "كما قسم الله لكل واحد مقدارًا من الإيمان" (رو 12: 3) ولذلك "لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا" (رو 12: 6)
عطايا النعمة ليست واحدة للجميع. لأن الرب "أعطى البعض أن يكونوا رسلًا، والعض أنبياء، والبعض مبشرين، والبعض رعاة ومعلمين" (أف 4: 11) وهكذا أيضًا من جهة المواهب "أنواع مواهب موجودة، ولكن الروح واحد" (1كو 14: 4) فإنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد. ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة... هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه، قاسمًا لكل واحد بمفرده كما يشاء" (1كو 14: 8-11)
وبهذا يختلف مقياس كل إنسان، وتختلف قامته الروحية...
والمفروض في كل إنسان أن يصل إلى ملء قامته.
سواء كانت هذه القامة صغيرة أم كبيرة. وكمثال لذلك: لنفرض أن أمامنا أنواعًا من الأواني متفاوتة في حجمها وسعتها، وهي جميعًا ممتلئة تمثل البشر الذين قيل لهم "امتلئوا بالروح" (أف 5: 18) فالكل تساعده النعمة على الإمتلاء، مع تفاوت الوزنات. الكل يمتلئ حسب طاقته، وحسب قامته، وحسبما قسم الله لكل واحد نصيبًا من الإيمان...
كلنا أعضاء في جسد واحد (1كو 12: 12) ولكن ليس كل إنسان رأسًا، ولا الكل عينًا، ولا الكل ذراعًا. يتنوعون جميعهم حسب تدخل النعمة، وحسب ما تعطيه من مواهب ومن قدرات. ولكن المفروض أن يمتلئوا، كل منهم حسب طاقته.
ولنعلم أن صاحب الوزنتين الذي ربح وزنتين، نال نفس المكافأة والبركة مثل صاحب الخمس وزنات الذي ربح خمس وزنات (مت 25: 20-23)
لهذا فيما نتكلم عن النعمة الإلهية، ينبغي أن نذكر إلى جوارها الإرادة البشرية.
والإرادة البشرية تقوم بأعمال هي حرة فيها. فإن اتحدت إرادة الإنسان مع عمل النعمة فيه، تكون نتيجتها الخير فيما يعمل. أما إذا أنحرفت إرادته وانفصلت عن قصد النعمة فيه. فما أسهل أن يضيع ويهلك.
لذلك فإن عبارة (كلمة بالنعمة) التي يقولها البعض، ليست عبارة دقيقة.
لو كان كل شيء بالنعمة، ما أخطأ أحد، وما هلك أحد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يكون الإنسان مسلوب الإرادة تسيره النعمة كما تشاء!! وهذا خلاف الواقع، وخلاف الإرادة الإلهية التي تركت للإنسان الحرية فيما يعمل...
إن اتحاد الإنسان مع عمل النعمة فيه، هو اتحاد اختياري.
ولذلك يبعد أن أعطى الله للشعب الوصايا في سفر التثنية، قال له: أنظر، قد جعلت اليوم قدامك الحياة والموت، والبركة واللعنة فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك، إذ تحب الرب إلهك وتسمع لصوته وتلتصق به" (تث 30: 19، 20).
لو كانت النعمة تعمل كل شيء، ما كان هناك لزوم ليوم الدينونة.
وإنما المحاسبة تدل على حرية الاختيار، وعلى أن النعمة لم ترغم أحدًا على سلوك معين. ربما تدفعه إلى الخير. ومع ذلك تبقى إرادته حرة، مثلما حدث مع لوط وأسرته. دفعهم الملاكان إلى خارج سدوم لإنقاذهما. وعلى الرغم من هذا، إلا أن إمرأة لوط اختارت لنفسها الهلاك فهلكت، وصارت "عمود ملح" (تك 19: 26).
النعمة إذن تعمل. ولكن يتوقف عملها على مدى استجابة الإنسان أو رفضه لها...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/grace/kinds.html
تقصير الرابط:
tak.la/vabc77j