هي قصة حب بدأها الله...
فقد أحب الله الإنسان من قبل أن يوجد. ومن أجل هذا أوجده...
أحبه حين كان في عقله فكرة، وفي قلبه مسرة...
كان الله وحده في الأزل، ومرت دهور طويلة وآباد، ولم يكن هناك إنسان، ولا كائنات أخرى... وكان من الممكن أن يستمر الأمر هكذا... ولكن الله شاء أن يخلق موجودات أخرى. خلق الملائكة أرواحًا (مز4:104). وخلق المادة ثم أراد أن يخلق كائنًا فيه الروح والمادة، وهكذا خلق الإنسان... خلق التراب أولًا، ثم نفخ فيه نسمة حياة (تك7:2)، فصرنا نحن... وأحبنا الله.
ومن حبه لنا، خلقنا على صورته، كشبهه ومثاله (تك26:1، 27).
لم نكن قد فعلنا شيئًا نستحق عليه هذا الحب، ولكنه أحبنا مجانًا، قبل أن نكون. لذلك بعد أن خلقنا، منحنا البركة والسلطة، وأراد أن ننمو ونكثر، ونملأ الأرض ونتسلط عليها، فقال: "أثمروا وأكثروا، واملأوا الأرض، وتسلطوا..." (تك28:1).
"تتسلطوا على سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى حيوان يدب على الأرض"... إذن كانت قصة حب وعطاء منذ البدء.
فأعطى الإنسان كل شيء. أعطاه العقل والروح، وأعطاه السلطان، وأصبح الإنسان سيد الأرض وكاهنها، نائب الله في إدارتها. وكما قال المرتل في المزمور "أخضعت كل شيء تحت قدميه. سلطته على أعمال يديك" (مز6:8). أراده أن يكون سيدًا لكل الخليقة الأرضية...
غير أن الإنسان وضع في الجنة، قبل أن تختبر إرادته، وقبل أن يثبت محبته لله. فكان لا بُد لهذه الإرادة أن تختبر...
وهكذا لما وضعه في الجنة، وضع له وصية أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر. أراد الله أن يختبر مدى طاعته ومدى محبته له. وهل إذا أغرته الحية، هل يرفض إغراءها متمسكًا بالله وصيته؟! أم أنه يفشل في الامتحان وينفصل عن الله...!
أحب الله الإنسان. ولكنه لم يرد أن تكون محبة من طرف واحد.
لا بُد أن تكون من الطرفين، من الله ومن الإنسان. فهل يثبت الإنسان أنه جدير بمحبة الله، وأنه يبادل الله حبًا بحب؟
ولكن الإنسان سقط في الاختبار. وما كان ممكنًا أن يأكل من شجرة الحياة وهو في حالة الخطية. لذلك أمر الله بحراسة شجرة الحياة بواسطة لهيب سيف الكاروبيم (تك24:3). إلى أن يطهر هذا الإنسان الخاطئ، ويخلصه، ويجعله أهلًا لأن يأكل من شجرة الحياة...
على أن محبة الله لم تكن بعيدة عن عدله، فعاقب الإنسان...
طرده من الجنة، لأنه في خطيئته لم يعد مستحقًا للسكنى فيها، بعد أن تفتحت عيناه، وفقد بساطته وطهارته وعرف أنه عريان... وعاقبه بالتعب والوجع، طالما هو في هذه الحياة الأرضية، لكي يتذكر في تعبه أنه أخطأ إلى الله. الرجل بعرق جبينه يأكل خبزه. والمرأة بالوجع تحبل وتلد أولادًا (تك16:3، 19). وعاقبه أيضًا بالموت... هكذا كان عدل الله...
ولكن عدل الله لم يكن بعيدًا عن محبته. ففيما هو يعاقب الإنسان، وعده بالخلاص...
فقال إن نسل المرأة يسحق رأس الحية (تك15:3).
ربما لم يفهم آدم وحواء معنى هذا الوعد الإلهي. ولكنهما فهما -على الأقل- أن الحية التي قدمت لهما الخطية يجب أن تسحق رأسها، فلا يجوز لهما أن يسمعا منها مرة أخرى. وفهما أنه سيقوم من نسل المرأة من يسحق رأس الحية. من هو؟ أو متى؟ ربما لم يعرفا... ولكن البشرية عاشت أعمارها وماتت على هذا الرجاء...
ومن محبة الله للإنسان أنه تولاه بالرعاية، وهو خارج الجنة... ومنحه الوصايا التي تحفظ له نقاوة قلبه.
ذلك لأنه إن عمل بالوصايا، يصير طاهرًا ويسحق أن يصطلح مع الله. وهكذا أرسل له الأنبياء لإرشاده. وقبل كل هذا وضع فيه الضمير، الشريعة الداخلية التي يميز فيها بين الخير والشر. هذه الشريعة التي تقول "لا تزن". وقال في ذلك "كيف أفعل هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟!" (تك9:39). قال ذلك قبل موسى النبي بمئات السنين.
ومن محبة الله: لما فشلت ضمائر الناس في إرشادهم، أرسل إليهم الشريعة المكتوبة.
كان ذلك على يد موسى النبي، مكتوبة على لوحي الشريعة. "واللوحان هما صنعة الله، والكتابة كتابة الله منقوشة على اللوحين" (خر19:32)... ووصايا أخرى كثيرة أمر الرب موسى بكتابتها. "وكتب موسى هذه التوراة. وسلمها للكهنة بني لاوي حاملي تابوت عهد الرب..." (تث9:31).
غير أن الناس صاروا حرفيين في فهم الشريعة، ناموسيين، يهتمون بالحرف لا بالروح (2كو6:3)! فلخص لهم الله كل الشريعة في وصية واحدة هي الحب. وقال لهم:
"تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك" (تث5:6).
قال الرب هذا في العهد القديم. وكرره سيدنا يسوع المسيح في العهد الجديد، لما سئل عن الوصية العظمى في الناموس. فذكرهم بهذه الآية عينها "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك". ثم قال لهم: هذه الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء" (مت36:22-40).
ولكن لماذا أضاف محبة القريب إلى محبة الله؟ يشرح معلمنا القديس يوحنا الحبيب هذا الأمر فيقول:
"مَن لا يحب أخاه الذي أبصره، كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره؟! (1يو20:4).
وهكذا أرادنا الله أن نعيش بوصية الحب. نحبه لأنه هو أحبنا أولًا (1يو10:4). "ونحب بعضنا بعضًا. لأن المحبة هي من الله. وكل من يحب، فقد ولد من الله، ويعرف الله. ومن لا يحب، لم يعرف الله. لأن الله محبة" (1يو7:4، 8).
"الله محبة. ومن يثبت في المحبة، يثبت في الله، والله فيه" (1يو16:4).
وهذه المحبة التي أراد الله أن تربطنا به، هي محبة ليست بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق" (1يو18:3).
ولذلك ارتبطت محبة الله بحفظ وصاياه، كما قال الرب "إن حفظتم وصاياي، تثبتون في محبتي" (يو10:15). وبهذا قال الرب الإله في العهد القديم:
"يا ابني اعطني قلبك. ولتلاحظ عيناك طرقي" (أم26:23).
فإن أعطينا قلوبنا للرب، فبالضرورة سوف نلاحظ طرقه. أما ملاحظة طرقه، بدون القلب، فهي مرفوضة تمامًا. لأن الرب يريد تنفيذ وصاياه عن حب، ولا يريد منا مظهرية سلوكية... أما هو فإنه يحبنا حبًا كاملًا، إذ قيل عنه إنه "أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم حتى المنتهى" (يو1:13).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ومن حبه لنا، إنه دعانا أولاده.
وفي ذلك يقول القديس يوحنا الرسول "انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله" (1يو1:3).
وهو يعاملنا منذ البدء معاملة الأب للبنين، في كل ألوان الرعاية التي نحتاج إليها... هكذا حفظ يوسف في أرض مصر، وجعله أبا لفرعون، وسيدًا لكل بيته، ومتسلطًا على كل أرض مصر (تك8:45). وهكذا حفظ دانيال في جُبِّ الأُسُود، وأرسل ملاكه فسد أفواه الأسود (دا22:6). وحفظ الثلاثة فتية في أَتُّونِ النَّارِ، وأخرجهم منه سالمين، وقدمهم في ولاية بابل (دا25:3-30).
ومن محبته لنا، أراد أن نكون معه حيث يكون هو.
هو الذي قال لتلاميذه القديسين "إن مضيت وأعددت لكم مكانًا، آتي أيضًا وآخذكم إليَّ. حتى حيث أكون أنا، تكونون أنتم أيضًا" (يو3:14). وهو الذي وعدنا في الأبدية أن نكون معه في أورشليم السمائية، التي قيل عنها "هوذا مسكن الله مع الناس. وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعبًا. والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم" (رؤ3:21).
وأيضًا قال الرب "أيها الآب، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا..." (يو24:17).
وكما نكون معه، هو أيضًا يكون معنا.
واسمه عمانوئيل، تفسيره الله معنا (مت23:1). هو الذي قال ليعقوب وهو هارب من يد أخيه عيسو "ها أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب، وأردك إلى هذه الأرض" (تك15:28). وهو الذي قال ليشوع بن نون "لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك. كما كنت مع موسى أكون معك. لا أهملك ولا أتركك" (يش5:1).
إنها قصة حب: في اختيار الله أحباء له على الأرض.
سار معهم، وائتمنهم على أسرار، وكان يسمع لهم ويقبل شفاعتهم، ويهتم بهم، ويمنحهم القيادة للشعب والقوة في العمل.
ما أجمل ما قيل عن أخنوخ "وسار أخنوخ مع الله. ولم يوجد لأن الله أخذه" (تك24:5). وما أجمل دعوة الله لإبرام ومباركته له بقوله "أباركك وأعظم اسمك. وتكون بركة" (تك2:12). وأيضًا ما أجمل قوله عن موسى النبي "أما عبدي موسى فليس هكذا. بل هو أمين في كل بيتي. فمًا إلى فم وعيانًا أتكلم معه. لا بالألغاز، وشبه الرب يعاين" (عد7:12، 8).
وهي أيضًا قصة حب في الرعاية.
لَقَّب نفسه بالراعي، ودعانا غنمه وخرافه. وقال في ذلك "أنا أرعَى غنمي وأربضها -يقول السيد الرب- وأطلب الضال، وأسترد المطرود، وأجبر الكسير، وأعصب الجريح" (حز15:34، 16).
وقال أيضًا في العهد الجديد "خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني. وأنا أعيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد. ولا يخطفها أحد من يدي" (يو27:10، 28).
وقد تغنَّى داود النبي بهذه الرعاية، فقال "الرب يرعاني فلا يعوزني شيء. في مراع خضر يربضني. إلى ماء الراحة يوردني. يرد نفسي، يهديني إلى سبل البر" (مز23).
رعاية الله للشعب في البرية، ترينا محبة الله واهتمامه وعنايته:
الرعاية من حيث الإرشاد في الطريق، بالسحابة في النهار، وعمود النار بالليل. وكان الرب يسير أمامهم (خر21:13، 22).
الله الذي شقَّ البحر الأحمر، ومَهَّد فيه طريقًا يعبرون منه، الذي فجَّر من الصخرة ماء، الذي أرسل لهم المن والسلوى طعامًا.
الله الذي اعتنى بإيليا وأرملة صرفة صيدا أثناء المجاعة (1مل17). والذي اعتنى بمصر خلال المجاعة في السبع سنوات الجفاف...
إن قصة رعاية الله، تحتاج إلى كتاب خاص يشرح محبته.
لكن أعظم ما في قصة حب الله للبشرية هي عملية الفداء.
هذه التي فيها "أنا هو الراعي الصالح. والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف" (يو11:10). وقال في شرح ذلك "ليس لأحد حب أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" (يو13:15). وقال أيضًا "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يو16:3).
وقد تَغَنَّى القديس يوحنا الرسول بهذا الحب فقال "في هذا هي المحبة. ليس أننا أحببنا الله، بل إنه هو أحبنا، وأرسل ابنه كفارة عن خطايانا" (1يو10:4).
وقال القديس بولس الرسول في ذلك "ولكن الله بين محبته لنا، لأننا ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" (رو8:5).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
بل أن الله بين عمق محبته لنا إذ مات عنا...
ويشرح بولس الرسول عمق هذه المحبة فيقول (رو6:5-10): "ونحن بعد خطاة، مات المسيح لأجلنا"، "لأجل الفجار"... "فإنه بالجهد يموت أحد لآجل بار" أما أن يموت الكامل القدوس، البار لأجل الآثمة... فهذا حب عميق عجيب حقًا...
لذلك نحن "نحبه لأنه أحبنا قبلًا"... ومات عنا...
إننا نخجل من هذا الحب... كيف نخطئ إلى مَنْ أحبنا؟!
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/god-and-man/love-story.html
تقصير الرابط:
tak.la/6kcng84