معرفة في الأبدية
طالما نحن في هذا العالم، محاوطون بضباب هذا الجسد المادي، فلن نصل إلى معرفة كاملة بالله، إنما ننظر كما في مرآة في لغز. ولكن حينما نخلع هذا الجسد، فأرواحنا الشفافة التي على صورة الله ستعرف أكثر. وعندما ندخل في الملك المعد لنا، في ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر" (1كو2: 9). حينئذ سنعرف أكثر وأكثر... ولكن أترانا سنعرف في ذلك المجد كل شيء عن الله؟ محال. لأننا مخلوقات محدودة، والله غير محدود.
ومن المُحال أن المحدود يعرف كل شيء عن غير المحدود؟
كيف لهذا العقل المحدود، أو هذا القلب المحدود إن يعرف كل شيء عن الله غير المحدود. هنا وأتذكر بيت الشعر الذي قلته للرب في قصيدة "همسة حب":
لم يسعك الكون ما أضيقه كيف للقلب إذن أن يسعك؟
الذي سوف يحدث أن الله سيوسع قلوبنا وعقولنا لكي تتسع لمعرفة أكثر عنه، فتبهرنا تلك المعرفة العجيبة، ونقول لله كفانا كفانا، ما عدنا نحتمل أكثر... ونبقي وقتًا في دهش بسبب ما كشفه لنا. ثم نفيق، ولست أدري متى؟ وحين نقضي وقتًا نتمتع فيه بما عرفناه، ونتأمله، ونستطعم ما قد ذقناه وما أطيبه... يوسع الله قلوبنا وأفكارنا حتى تقوَى على احتمال المزيد من المعرفة، وهي "مريضة حبًا" (نش2: 5). ومع كل ذلك تبقى هذه العقول والقلوب البشرية محدودة بطبيعتها، لا تستطيع أن تتسع لغير المحدود.
بينما الله تبارك اسمه كما هو: غير المفحوص غير المدرك.
إذن متى سنعرف المعرفة الكاملة عن الله، لو كان ممكنًا أن نعرف؟!
يجيب المعلم الصالح بنفس قوله للآب عنا "هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك..." (يو17: 3).
إن كان هذا ما سيؤول إليه حالنا في السماء، ونحن نلبس الجسد الروحاني السماوي المقام في مجد" (1كو15). فماذا نقول إذن عن معرفتنا ونحن على الأرض؟!
ألا يخجلنا قول الرب لواحد من الاثني عشر رسولًا القديسين "أنا معكم زمانًا هذه مدته، ولم تعرفني يا فيلبس؟" (يو14: 9). وإن كان هذا هو حال معرفة الرسول عن الرب في تجسده، فماذا عن الله في مجد لاهوته؟ لا أستطيع أن أقول سوى الآتي:
إن الله يمنحنا من معرفته، ما يكفي لأن نؤمن به وأن نحبه.
ويكفي هذا الآن. أما ماذا ستكون عليه معرفتنا في الأبدية، فهذا ما لا أدريه.
كل ما أدريه أننا سوف ننمو في معرفة الله، بالقدر الذي تحتمله طبيعتنا البشرية، في تجليها، وفي المجد الذي يوهب لها.
لقد كشف لنا الله عن طريق الوحي أشياء كثيرة. وكشف لنا بتجسده أكثر وأكثر، حتى قال القديس يوحنا الرسول "الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الكائن في حضن الآب هو خبر" (يو1: 18). وحقًا أعطانا الابن الكثير من المعرفة عن الآب، ولا يزال الأكثر لا نعرفه. لذلك قال "عرفتهم... وسأعرفهم".
صدقوني أن صفة واحدة من صفات الله، لا يكفي عمرنا كله لمعرفتها.
ماذا إذن عن صفاته كلها...؟
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
بل حتى وصاياه لم نعرفها وندخل إلى أعماقها كما ينبغي. وفي ذلك يقول داود النبي "لكل كمال رأيت منتهى، أما وصاياك فواسعة جدًا (مز119). ومن جهة طرق الرب، يبتهل وهو النبي العظيم قائلًا: عرفني يا رب طرقك، فهمني سبلك" (مز119).
إننا نحاول حاليًا أن نعرف ما ينتسب إلى الله، لعلنا نصل إلى معرفة بعض الشيء عن الله نفسه...
نحب أن نعرف كتابه، ناموسة، وصاياه، التي تنير العينين من بعد" (مز19). ونتأمل لعلنا نعرف ما يمكن معرفته عن ملائكته التي هي أرواح مرسلة للخدمة (عب14:1). ونار تلتهب (مز4:104). نتأمل أيضًا سماءه، وأورشليم السمائية التي هي مسكن الله مع الناس (رؤ21). وفي كل ذلك يقول الحكيم منا "لا أعرف" وآخر ما يصل إليه يقول "أعرف بعض المعرفة" (1كو12:13).
إننا لم نعرف بعد الكون الذي خلقه الله، فكيف نعرف الله الذي خلق الكون؟!
لم نعرف المجرات والكواكب والنجوم بل حينما نعثر على جزء من صخرة من القمر أتى بها رواد الفضاء، ندرسها ونبحثها لنعرف ما هو تركيبها. فكيف نعرف إذن خالق هذا القمر.
بل الأرض التي نعيش عليها، لا نعرف ما يوجد في باطنها من أسرار، وما يوجد في أعماق البحار. ونظل ننقب ونحفر، لعلنا نعرف. وما نعرفه عن باطن الأرض هو "بعض المعرفة"!! فماذا نقول عن معرفتنا بالله؟!
بل فليعذرني القارئ إن قلت إننا حتى الآن لم نعرف أنفسنا؟ فما الذي نعرفه مثلًا عن الروح، عن كنهها، وعن مغادرتها للجسد؟ وما الذي نعرفه عن الجسد الروحاني الذي سنقوم به. فإن كنا لم نعرف الإنسان نفسه، ولم نعرف أسرارًا كثيرة عن الكون الذي نعيش فيه. هل في جرأة نقول إننا نعرف الله؟
ومع ذلك نقول: إننا هنا ننمو في المعرفة.
بعشرتنا مع الله واختبارنا له تنمو معرفتنا له. تمامًا مثلما قال له أيوب الصديق "بسمع الأذن سمعت عنك. والآن رأتك عيناي" (أي 5:42). ويشبه هذا ما قاله أهل السامرة.
في بدء الأمر دعتهم المرأة السامرية لرؤية المسيح قائلة "هلموا انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت". فلما أتوا ورأوا وآمنوا به قالوا للمرأة: "إننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن" (يو4) لقد كان ما رأوه أعمق بكثير في تأثيره العجيب عليها يشبه هذا إلى حد ما -والقياس مع الفارق- شعور ملكة سبأ عندما رأت سليمان. إذ يقول الكتاب "لم يبق فيها روح بعد" (1مل5:10)... يبقى أن أقول لك شيئًا عن علاقة معرفتنا لله بالدَّهْش والزُّهْد:
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/god-and-man/eternity.html
تقصير الرابط:
tak.la/p73d7rn