في الواقع أن داود النبي، كان في مزاميره يتكلم كثيرًا عن ضعفه ومذلته، وبخاصة أمام قوة أعدائه وجبروتهم...
ليس في هذا المزمور السادس فقط، وإنما في كثير غيره. فهم في آخر مزمور من مزامير صلاة باكر يقول:
"إن العدو قد أضطهد نفسي، وأذل في الأرض حياتي. أجلسني في الظلمات مثل اضطهد نفسي، وأذل في الأرض حياتي. أجلسني في الظلمات مثل الموتى منذ الدهر... أنقذني من أعدائي يا رب، فأنى لجأت إليك... بحقك تخرج من الشدة نفسي [مز142 (143)].
إنه لا يقف أمام الله خطورة أعدائه. أعداؤه اضطهدوه وأذلوا وأجلسوه في الظلمات مثل الموتى.
فماذا تستفيد أنت من هذه المزامير؟ كيف تطبقها في حياتك؟ وبأي معني؟ وماذا تعني بكلمة أعدائك؟
إما تطبقها في المعاملات، وأعداؤك هم خصومك وقاوموك. أو في حياتك الروحية، وأعداؤك هم الشياطين والأفكار والشهوات.
العدو -عدو الخير- اضهطد نفسي. أطال حربة علي مقاومته. وأجلسني في الظلمات. والظلمة هي التي أحبها الناس أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة" (يو3: 19). والذين يعيشون في هذه الظلمة، نهايتهم أن يطرحوا في الظلمة الخارجية (مت8: 12) حيث البكاء وصرير الأسنان (مت25: 30).
إنه الموت الروحي (لو15: 24) (رؤ3: 1)، الذي يقود إلى الموت الأبدي. وهو مصير الذين يجلسون في الظلمات، فيكونون مثل الموتى إلى الدهر.
هكذا يتكلم داود عن قوة أعدائه الذين أذلوه. ويقول عنهم في [مز19 (20)] " هؤلاء الأقوياء بخيل. ونحن باسم الرب ننمو".. أنا لست مثل هؤلاء الأقوياء، أصحاب المركبات -كما كان فرعون بمركباته- ولكنني باسم الرب أنمو، كما دخلت على جليات باسم رب الجنود (1صم17: 45).
وفي أول مزمور من مزامير الساعة السادسة، نقول مع داود " استمع يا الله صلاتي... فإن الغرباء قد قاموا على، والأقوياء طلبوا نفسي. ولم يجعلوا الله أمامهم " [مز53 (54)]...
هؤلاء الغرباء عن ملكوتك، والأقوياء بكل أسلحة عدو الخير. هؤلاء طلبوا نفسي ليهلكوها. ولم يجعلوك أمامهم. أما أنا فقد جعلتك أمامي في كل حين. لأنك عن يميني فلا أتزعزع (مز16: 8).
إن قوة أعدائي، أضع أمامها قوة الله.
يتابع داود حديثه عن قوة أعدائه فيقول في ثاني مزمور من مزامير الساعة السادسة " أرسل الله رحمته وحقه، وخلعي نفسي من بين الأشبال، إذ نمت مضربًا " [مز56 (57)]... خلص الله نفسه من بين الأسود، وهو مسكين نائم وهو مضطرب وخائف...
ويستطرد في نفس المزمور فيقول " أسنان أبناء البشر وسهام، ولسانهم سيف مرهف... نصبوا لرجلي فخاخًا، وأحنوا نفسي. حفروا قدام وجهي حفرة قدام وجهي حفرة، فسقطوا فيها".
إنني كلما أذكر قوة أعدائي يا رب، وتآمروا علي، إنما أذكر مع ذلك أيضًا تدخلك لإنقاذي.
سوف أنسى لسانهم الذي يتقولون به علي، في عنف السيف المرهف. وسوف أنسي الفخاخ التي نصبوها أمامي لكي يصطادوني بها وسوف أنسي الحفرة أمامي لأسقط فيها... ولكنني سأذكر فقط رحمتك التي جعلتهم يسقطون فيما حفروه لي من حفر...
بل إن داود يشرح مدي عنف أعدائه وإحاطتهم به كالنار، فيقول في مزمور 117 (118) [من مزامير الغروب]:
"أحاطوا بي احتياطا واكتنفوني... أحاطوا بي مثل النحل، والتهبوا كنار من شوك...
وماذا كان موقفك يا داود أمام كل هذه الخطورة؟
يقول " دفعت لأسقط، والرب رفعتني".
"يمين الرب صنعت قوة، فلن أموت بل أحيا، وأحدث بأعمال الرب".
لن أتحدث عن ضعفى، ولا عن قوتهم، بل عن عمل الرب معي، وإنقاذه وخلاصه.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وهكذا فإن داود يختم حديثه عن قوة أعدائه وهجومهم القاسي عليه، بتلك الأنشودة الجميلة:
"قوتي وتسبحتي هو الرب، وقد صار لي خلاصًا".
ونحن نتذكر هذه العبارة العميقة في دلالتها، وننشدها في أسبوع الآلام، متذكرين في كل ما تعرض له السيد المسيح من آلام وضيقات، إنها صارت لنا قوة وخلاصًا، نسبح الرب بها، لأنه هو قوتنا وخلاصنا.
نتذكر لداود أيضًا مزمورًا من مزامير صلاة الغروب، يقول فيه: "لولا أن الرب كان معنا، حين قام الأعداء علينا، لا بتلعونا ونحن أحياء، عند سخط غضبهم علينا " [مز123 (124): 2، 3].. هل إلى هذه الدرجة كنت ضعيفًا أمامهم يا داود؟ وإلي هذه الدرجة كانوا أقوَى منك؟!
يجيب " مبارك الرب الذي لم يسلمنا فريسة لأسنانهم"... كأنهم وحوش مفترسون إذن؟! نعم، ولكن انكسر ونحن نجونا. عوننا باسم الرب الذي صنع السماء والأرض"..
وكأن داود يقول: ارحمني يا رب فإني ضعيف. أنا مثل عصفور صغير ومسكين، واقع بين فخاخ الصيادين. لو لم تدركني رحمتك، لوقعت في أيديهم. صياد واحد يقدر علي بالأكثر عدد من الصيادين!!
يقول للرب أيضًا في مزمور من مزامير صلاة النوم:
"بصوتي إلى الرب صرخت... أبث لديه ضيقي، عند فناء روحي مني. وأنت علمت سبلي. في الطريق التي أسلك أخفوا لي فخًا. تأملت عن يمين وأبصرت. فلم يكن من يعرفني. ضاع المهرب مني، وليس من يسأل عن نفسي. فصرخت إليك يا رب " [مز141 (142)].
هذه الصلاة هي صراخ نفس في ضيقة، أمامهم فخاخ العدو وليس من مهرب، وليس من يسأل عنها. المعين الوحيد هو الله.
إذن طريق القديسين ليس سهلًا. إنه الطريق الكرب، والباب الضيق، وهجمات العدو، وكثرة العثرات والمتاعب والأحزان. وهكذا يصرخ داود إلى الرب في نفس المزمور " نجني من الذين يضطهدوني، فإنهم قد اعتزوا أكثر مني". إنه هنا يعترف بضعفه، وبأن أعداءه أقوي منه. لذلك يقول. صرخت إليك يا رب: نعم وأصرخ وأقول: ارحمني يا رب فإني ضعيف...
لقد مسحه الله ملكًا. ولكن الملك لم يكن سلطة وعظمة وكرامة. وإنما " كثيرة هي أحزان الصديقين.." (مز34: 19).
وقد أحس داود بكل هذه الضيقات التي تحيطه من كل جانب، كما أحس أيضًا بكثرة الأعداء في حياته، فقال:
"أكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب" (مز69: 4).
وهل اقتصر الأمر على بغضة هؤلاء لك، ومشاعرهم الرديئة من نحوك؟ كلا، بل قادتهم البغضة إلى الاعتداء. وهكذا يقول:
"على ظهري جلدني الخطاة، وأطالوا إثمهم " [مز128 (192)].
هذا هو داود، الذي يقف قوتهم أمام الله كمسكين: أعداؤه قد اعتزروا أكثر منه، هو ليس في مثل قوتهم، كما أن عددهم أكثر من شعر رأسه. وقد اضطهدوه إثمهم. طالت به المدة، وهو يجلد على ظهره... حقًا، إنه يقف أمام الله كضعيف يطلب معونته، ويقول له ارحمني يا رب فإني ضعيف.
ولكنه وهو واقع تحت اضطهاد هؤلاء الخطاة له، يؤمن تمامًا -وبالخبرة- إن الله سيخلصه منهم ويقضى عليهم، فيقول:
الرب صِدِّيقٌ هو، يقطع أعناق الخطاة.
بل يقول أيضًا " الرب لا يترك عصا الخطاة تستقر على نصيب الصديقين " [مز124 (مز125)]. يمكن أن يتعرضوا لضربات هذه العصا من الخطاة. ولكنها لا تستقر عليهم، أي لا يستمر الأمر هكذا، فلابد أن يتدخل الرب، وينزع هذه العصا.
ولكن متى ينزعها الرب؟ قد يتركها فترة طويلة، من الألم المرير الواقع من هؤلاء الخطاة الذين يضطهدوني " " كثر على ظلم المتكبرين " " كلَّت عيناي من إنتظار أقوالك، متي تعزيني؟" (مز119) إلى أن يصرخ فيقول:
"كادوا يفنوني على الأرض.." (مز119: 87).
وفي ترجمة أخري " لو لا قليل لأفنوني من الأرض"...
هذا هو داود الذي كان يقول في المزمور " ارحمني يا رب فإنى ضعيف".
وأنت أية تأملات تجول في ذهنك، خلال ما يقوله داود عن ضعفه في المزامير؟
يمكن أن تقف في حروبك الروحية صارخًا إلى الله من قوة جنود الشر الروحية، التي اعتزَّت أكثر منك...
جنود الشيطان الذين اضطهدوك بلا سبب، وأطالوا إثمهم وكادوا أن يفنوك من على الأرض... تصرخ إليك من الأفكار القاسية الملحة، التي تريد إسقاطك، وتطلب لنفسك لتهلكها... وتقول في كل ذلك " ارحمني ياربي فإني ضعيف".
سواء إن كنت محاربًا بخطية، وأنت غير قادر على مقاومتها أو إن كنت في ضيقة، وأنت غير قادر على الخروج منها... في كلتي الحالتين تقول مع داود " ارحمني يا رب فإني ضعيف".
إن داود بعد الخطية الكبرى التي وقع فيها (2صم 11)، شعر بضعفه بالأكثر. في الأول كان يقال عنه إنه " جبار بأس" (1صم 16: 18). وغنت له النساء بالرقص والدفوف والفرح قائلًات " ضرب شاول ألوفة وداود ربوات" (1صم 18: 6، 7).. أما الآن فلم تهزمه ألوف ولا ربوات، بل امرأة واحدة".. ووقع في الخطية، وانذل...
في الواقع إنه كما أذلته الخطية، كذلك نقول إنه استفاد أيضًا من هذا الذل.
لهذا نراه يقول في المزمور الكبير "خير لي يا رب أنك أذللتني، حتى أتعلم حقوقك ". مز119: 71). فما هو الخير الروحي الذي حصل عليه؟
أولًا بدأ يشعر بضعفه، وهذا لون جميل من أتضاع النفس. وهكذا يقول في مزموره السادس " إرحمني يا رب فإني ضعيف " ضعيف، وفي حاجة إلى رحمة من الله.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/do-not-rebuke-me-in-your-anger/david.html
تقصير الرابط:
tak.la/7sm67rn