إن أول عبارة كان يقولها الرب، حين يلتقي بأحبائه هي "سلام لكم" (لو24: 36؛ يو20: 18). وقبل صلبه، لكي يعزى تلاميذه بأنه سيكون معهم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر، قال لهم "سلامي أترك لكم، سلامي أترك لكم، سلامي أنا أعطيكم" (يو14: 27).
كل مَن يوجد في حضرة الله، يشعر بسلام عميق.
يشعر باطمئنان داخلي، لوجوده مع الله. يشعر بالسلام الذي يشعر به البحارة حينما يصلون إلى الميناء، فيستريحون فيه. كذلك من يجد راحته في الرب، يشعر بسلام... مثال ذلك قول القديس أوغسطينوس للرب "ستظل قلوبنا في قلق، إلى أن تجد راحتها فيك".
في هذا السلام، يختفي كل خوف، وكل قلق واضطراب.
إن كانت حالة الوجود مع الله، تعني الإحساس بسكنى الروح القدس داخل القلب، فإن من ثمار الروح محبة وفرح وسلام (غل5: 22). ولا شك أن المحبة والفرح ينشئان سلامًا داخليًا... أخيرًا وجدتك يا رب، فامتلأ قلبي فرحًا، ولساني تهليلًا، وأصبح في قلبي سلام. سلام معك، إذ قد تصالحنا، ما دمت أنت موجودًا في وأنا فيك.
يفقد الإنسان سلامه بالخطية، فالخطية هي انفصال عن الله.
في حالة الخطية، يبتعد الإنسان عن الله، لا يشعر بالوجود معه، لذلك يفقد سلامه حقًا "لا سلام -قال الرب- للأشرار" (أش48: 22). هكذا حدث لآدم لما أخطأ، خاف، اختبأ، لأنه انفصل عن الله. وكان من قبل في سلام، وهو شاعر بالوجود في حضرة الله. وقايين أيضًا فقد سلامه، وأصبح قلقًا، وتائهًا وهاربًا في الأرض، لأنه انفصل بالخطية عن الله، كما قال "من وجهك أختفي، وأكون تائهًا وهاربًا في الأرض" (تك4: 14).
إن الوجود مع الله هو سلام الحقيقي، لذلك قال المرتل في المزمور "صرفت وجهك عني فصرت قلقًا" (مز30: 7). من أجل هذا كانت أعمق صرخة يوجهها المُصَلِّي إلى الله هي:
لا تحجب وجهك عني، لا تطرحني من قدام وجهك (مز50).
إن داود النبي، وهو شاعر بوجوده مع الله، كان يغني على المزمار والقيثار في فرح وتهليل، ويدعو الناس إلى مشاركته، فيقول "هلوا للرب يأكل الأرض. اعبدوا الرب بالفرح. ادخلوا دياره بالتهليل" (مز100: 1، 2). ولكنه لما أخطأ، ولم يعد يشعر بالوجود السابق في حضرة الله، قال "اشفني يا لرب فإن عظامي قد اضطربت، ونفسي قد انزعجت جدًا" (مز6). هذا الاضطراب وهذا الانزعاج، ما كان لهما وجود، وهو مع الله. فبالخطية يفقد الإنسان سلامه "الأشرار كالبحر المضطرب، لأنه لا يستطيع أن يهدأ، مياهه حمأة وطينًا. لا سلام، قال إلهي للأشرار" (أش57: 20، 21).
ولكن متى يرجع إلى الخاطئ سلامه؟
عندما يتوب، ويعود للوجود مع الله، يعود إليه سلامه...
لهذا عندما يتوب الخاطئ، ويتخلص من حمل خطاياه، ويسمع صلاة التحليل، ويشعر أنه قد اصطلح مع الله، وعاد إلى أحضانه مرة أخرى، حينئذ يشعر بالفرح وبالسلام...
كان فاقدًا سلامه لشعوره بأنه قد أحزن روح الله داخله، وانفصل عن الرب، وفقد العزاء الداخلي النابع من الوجود مع الله، ولم تعد له دالة معه، ولم يعد له وجه يستطيع أن يرفعه إليه. أم التوبة فقد استعاد كل هذا، ورجع إلى الله وإلى عِشرته.
إن الشعور بالحرمان مع الله، قد يفعل ما هو أكثر من فقدان السلام. قد يوصل إلى الكآبة الدائمة، وإلى فقد الأعصاب، وإلى اليأس القاتل، وقد يؤدي إلى الانتحار كما حدث ليهوذا...
أما الرب -في وجوده معنا- فيعطي سلامًا لكل من يعتصم به، حتى لأدنس الخطاة...
انظروا إلى المرأة التي ضبطت في ذات الفعل، كيف كانت في خجل مميت وفي عار، وقد أمسك بها القاة لكي يرجمها بالحجارة... ولكنها لما وجدت في حضرة الرب، أعاد إليها. دافع عنها، وخلصها من الذين أدانوها ويريدون قتلها. وقال لها عبارته المملوءة عزاء "وأنا أيضًا لا أدينك" (يو8: 11)، فمضت من عنده بسلام، سلام من تخلص من الدينونة... كما قال أيضًا للخاطئة التي بلت قدميه بدموعها "مغفورة لك خطاياك... إذهبي بسلام" (لو7: 48، 49).
وفي الوجود مع الله، كما يشعر الإنسان بسلام من جهة دينونة خطاياه، يشعر أيضًا بسلام في ضيقاته ومخاوفه:
حتى إذا "تزعزعت الأرض، وانقلبت الجبال إلى قلب البحار" يصيح المرتل في ثقة "الرب إله القوات معنا، ناصرنا هو إله يعقوب" ويدعو الناس إلى مشاركته في فرحه قائلًا لهم "هلموا فانظروا أعمال الرب، التي جعلها آيات على الأرض" (مز46).
أليشع الذي كان يرى الله وعمله معه، لم يخف حينما كانت جنود الأعداء محيطة بالمدينة، أما تلميذه جيحزي فخاف، لذلك صَلَّى أليشع من أجله قائلًا: "افتح يا رب عيني الغلام فيرى".
نحن محتاجون أن يفتح الله أعيننا، لنرى وجوده معنا...
حينئذ نطمئن ونحيا في سلام، واثقين بعمله، وبأن قوة سمائية تحيط بنا، وبأن الله قد أرسل ملائكته لتحفظنا من كل شركة بلاعيم للبترول شرق القاهرة ومن كل ضربة، وأننا دائمًا في حمى الله الذي نشعر بوجوده معنا. وهكذا في كل مشكلة تصادفنا، نقول هذه العبارات الثلاث:
مصيرها تنتهي - ربنا موجود - كله للخير...
بالإيمان أن ربنا موجود معنا، نثق أن كل مشكلة لا بُد ستنتهي وأن "كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الرب" (رو8: 28). نضع الله بيننا وبين الضيقة، فتختفي الضيقة، ونرى الله وحده، في محبته وحنانه ورعايته.
وهكذا سلامنا لا ينبع من أسباب خارجية، وإنما من إيمان داخلنا، بوجود الله معنا لأجلنا.
الله الضابط الكل، الصانع الخيرات، الحافظ المعين المنفذ... إننا لا نفكر في الضيقة، بل في الله الذي يحلها. أما الذي يركز في الضيقات، ناسيًا وجود الله، فإنه يتعب.
وهذا واضح في الحياة، بأمثلة كثيرة:
أم يتأخر ابنها الصغير ليلًا، فتضرب جدًا، وتفكر في حوادث السيارات، وحوادث الخطف، وأذية الناس لابنها... وتقلق. ترى أين ابنها الآن؟ في المستشفى؟ أم مات؟ أم في بيت غريب..؟ على أن هذه الأم، لو فكرت في الله الذي "يحفظ الأطفال" (مز116) لا استراحت واطمأنت.
مثال آخر: اثنان يبيتان في مغارة في الجبل: أحدهما يفكر في الذئاب والثعابين والحيات والعقارب ودبيب الأرض، فيخاف ولا يقدر إن ينام، وينتظر شرًا وخطرًا في كل لحظة!! أما الآخر إذ يؤمن بوجود الله معه وحفظه له، يبيت مطمئنًا.
إن الظروف الخارجية واحدة، ولكن مشاعر القلوب تختلف!
فيفقد الإنسان سلامه، إن فقد شعوره بوجود الله معه.
طفل في ميدان عام، يموج بوسائل المواصلات، لا يخاف ما دام يشعر بأن يد أبيه ممسكة بيده. أما إن شعر أنه وحده، وأباه ليس موجودًا، فإنه يصرخ في فزع. هكذا نحن في شعورنا بوجود الآب السماوي معنا. وهكذا بطرس على الماء، في شعوره بيد المسيح ممسكه بيده...
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
إن نظرت إلى البحر تخاف. أنظر إلى عصا موسى...
حينئذ تطمئن، وتشعر بقوة إلى جوارك هي قوة الله العاملة مع موسى وعصاه، وإذ تتأكد من وجود الله وعمله، تتذكر قول موسى "الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون".
بكل اطمئنان وسلام قلبي، كان الشهداء يتقدمون إلى الموت، غير مفكرين في العذابات، إنما كان يفكرون في الوجود مع الله في الأبدية فيمتلئون سلامًا.
في الوجود مع الله قوة وشجاعة وعدم خوف...
إن القديس بولس الرسول، الذي يشعر بوجود الله معه وفيه، الذي قال "بل المسيح يحيا فيَّ" (غل2) والذي قال "وأوجد فيه" (في3) وهو أيضًا قال عبارته الخالدة "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في4: 13). كان يشعر بقوة معه، أو بقوة الله معه...
لذلك كان بكل جرأة يشهد لكلمة الله، وكانت لكلماته قوة. وفيما هو يتكلم عن البر والدينونة والتعفف، ارتعب فيلكس الوالي، الذي كان بولس أسيرًا أمامه! (أع24: 25).
وإيليا النبي، الذي كان أيضًا يشعر باستمرار بوجوده في حضرة الله، وكان يقول "حي هو رب الجنود الذي أنا واقف أمامه" (1مل18: 15). إيليا هذا، استطاع بكل الشجاعة، يوحنا المعمدان بكت هيرودس.
بنفس الشجاعة دانيال النبي، صعد إلى علية منزله، وفتح نافذته المطلة على أورشليم، وسجد لله العلي، ولم يخف الأسود... إن كان آله موجودًا في كل مكان، فهو موجود أيضًا بلا شك في جُبِّ الأُسُود، يستطيع أن يحمي وأن ينقذ...
الذين يشعرون بالوجود مع الله، لا يخافون حتى من الشياطين...
إن حياة القديس الأنبا انطونيوس مثال واضح لذلك... بل له مقالة عن ضعف الشياطين. الذين لهم وجود مع الله، ليس فقط لا يخافون الشياطين، بل يطردونهم، لأن الله أعطاهم سلطانًا على قوة العدو، وكما قال الرسول "قاوموا إبليس فيهرب منكم" (يع4: 7).
جميلة عبارة "يهرب منكم"..! منظر رائع نرى الشيطان يهرب من إنسان! ولكنه الإنسان الذي يكون الله موجودًا معه. كما كانت تهرب من داود النبي الشياطين التي تحارب شاول، ذلك لأن داود حل عليه روح الرب. وكان الرب معه، وبوجوده معه تخافه الشياطين...
إن الوجود مع الله، وجود في حالة البر والقداسة...
وهذه القداسة تخافها الشياطين. إن مجرد ذِكْر اسم القديسة يوستينة، جعل الشيطان يهرب، فآمن كبريانوس الساحر...
كل إنسان يشعر بوجوده حضرة الله، لا يستطيع أن يخطئ، والشرير لا يمسه. مثلما كان يقول يوسف الصديق "كيف أخطئ، وأفعل هذا الشر العظيم أمام الله"؟!
الإنسان الموجود مع الله، يسكن فيه روح الله، وبسناه فيه، تظهر ثمار الروح في حياته، ومنها الصلاح أي البر، ومنها الفرح والسلام...
لذلك إن أخطأ إنسان، بدلًا من أن نبحث الأسباب الخارجية التي دعته إلى الخطية، علينا أن نسأل سؤالًا واحدًا وهو: هل الله موجود في حياة هذا الإنسان أم لا؟
إن كان الله موجودًا في حياته، تكون حياته برًا وفرحًا...
وتكون حياة محبة وسلامًا. بل تكون حياته هي صورة لملكوت الله على الأرض...
ما أجمل الوجود مع الله. إنه متعة الروح هنا على الأرض. وهو أيضًا نعيمها الأبدي في السماء.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/being-with-god/peace.html
تقصير الرابط:
tak.la/mwns3y7