(20)
وإذن، حيث أنه توجد مثل هذه المماثلة وهذه الوحدة في الثالوث القدوس، فَمَنْ يمكنه أن يفصل الابن عن الآب أو يفصل الروح عن الابن أو عن الآب نفسه؟ وَمَنْ تصل به الجرأة حتى يقول أن أقانيم الثالوث غير متماثلة فيما بينها، ومختلفة في الطبيعة، أو أن الابن جوهر غريب عن الآب، أو أن الروح غريب عن الابن.
ولكن بأية طريقة يمكن أن تحدث هذه الأمور؟ فإن كان أحد أيضًا يسأل ويبحث قائلًا: كيف حينما يوجد الروح فينا، يُقَال أن الابن فينا؟ وحينما يكون الابن فينا، فكيف يُقَال أن الآب فينا؟ وعندما يكون الثالوث حقًا ثالوثًا، فكيف يفهم أنه واحد. أو لماذا حينما يكون فينا، يُقَال أن الثالوث موجود فينا؟ فعلى هذا أن يفصل أولًا الشعاع عن النور، أو يفصِل الحكمة عن الحكيم، أو فليخبرنا كيف تكون هذه الأمور.
ولكن إن كانت هذه الأمور من غير الممكن أن تحدث، فإن توجيه مثل هذه الأسئلة عن الله يكون جرأة جنونية. لأن الألوهة لا تُسَلَّم لنا بواسطة براهين كلامية بل بالإيمان مع التفكير بتقوى ووقار. فإن كان بولس قد ذكر بالصليب المخلص “لا بكلام الحكمة بل ببرهان الروح والقوة” (1كو 2: 4) وقد سمع في الفردوس “كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها” (2كو 12: 4)، فَمَنْ يستطيع أن يتكلم عن الثالوث القدوس نفسه؟
ومع ذلك فيمكننا أن نعالج هذه الصعوبة أولًا، بالإيمان، وبعد ذلك باستعمال ما سبق أن ذكرناه من أمثلة أي: الصورة والشعاع، والينبوع والنهر، والجوهر والرسم. وكما أن الابن هو في الروح الذي هو صورته الخاصة(22)، هكذا الآب أيضًا في الابن. لأن الكتاب الإلهي، لكي يعالج عَجْزنا عن شرح وفهم هذه المعاني بالكلمات، قد أعطانا مثل هذه الأمثلة، حتى بسبب عدم إيمان هؤلاء المتجاسرين، يمكننا أن نعرض بأكثر وضوح، وإن نتكلم بدون التعرض لخطر (الضلال)، وإن نفكر بطريقة مشروعة، وإن نؤمن بقداسة(23) واحدة مستمدة من الآب بالابن في الروح القدس. لأنه كما أن الابن هو وليد وحيد(24) هكذا أيضًا الروح -إذ هو مُعْطَى ومرسل من الابن- هو نفسه واحد وليس كثيرين، وليس واحدًا من كثيرين، بل هو نفسه وحيد. إذن، كما أن الابن -الكلمة الحي- هو واحد، هكذا فإن القوة الحيوية والعطية التي بها يقدس ويضيء، ينبغي أن تكون واحدة كاملة وتامة، وهي التي يُقَال عنها أنها تنبثق من الآب، لأنها من الكلمة، الذي يعترف أنه من الآب، وهي التي تشرق وترسل وتُعْطَى. فالابن يُرْسَل من الآب، لأنه يقول: “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد” (يو 3: 16). والابن يُرْسِل الروح فهو يقول: “ان ذهبت أُرْسِل المعزي” (يو 16: 7). الابن يمجد الآب قائلًا: “أيها الآب أنا مجدتك” (يو 17: 4)، بينما الروح يمجد الابن، لأنه يقول ذاك يمجدني (يو 16: 14). وبينما يقول الابن: “ما سمعته من الآب فهذا أقوله للعالم” (يو 8: 26)، فإن الروح يأخذ من الابن لأنه يقول: “لأنه يأخذ مما لي ويخبركم” (يو 16: 14)(25). الابن أتى باسم الآب. ويقول الابن: “الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي” (يو 14: 26).
_____
(22) “صورته الخاصة”: لقد سبق أثناسيوس واستعمل هذه التشبيه عن الابن. وهو الآن يستعمله عن الروح، ويضيف مجموعة من الآيات المماثلة ليبين كيف أن رسم الابن يوجد كما في الروح. واستعمال التشبيه هو أقدم من أثناسيوس، لن غريغوريوس العجائبي في: “اعترافه” يتحدث عن الروح على أنه صورة الابن. بل في الحقيقة ربما يرجع هذا التشبيه إلى إيريناوس، انظر Haer. IV. Viii. 4، ونجد أن ديديموس يأخذ هذا التشبيه في كتابه عن الثالوث de Trin II 504 B وانظر أيضًا Ps. Basil Adv-Eun. V 724 c، etc. واستمرار استعمال هذا التشبيه يتضح من ظهوره في كتابات يوحنا الدمشقي (القرن الثامن) “كتاب في الإيمان الأرثوذكسي De Fid. Orth.”. ونلاحظ أن ما يقوله أثناسيوس هنا يكمل ويؤيد الحقيقة التي سبق أن ذكرها في القسم السابق أن الروح يمكن أن يرى في الابن.
(23) كما أن وحدة الطاقة (القوة energia) تستلزم وحدة الجوهر، لذلك فلو أن هناك انقسامًا في الجوهر حسب تصور التروبيكيين فهذا يستلزم تعدد الطاقات (القدرات). ويجد أثناسيوس في هذه الحقيقة تعليلًا لتعليمه اللاهوتي عن النعمة الإلهية الواحدة للثالوث الواحد.
(24) “وليد وحيد” (Gennyma) لا يجد القديس أثناسيوس أية صعوبة في استعمال هذه الكلمة - عن المسيح رغم أن الأريوسيين اتيوس Aetius ويونوميوس Eunomius يستعملونها كمرادفة لكلمة مخلوق أو مصنوع. ويقول القديس أثناسيوس في C. Ar. III 4 (ضد الأريوسيين 3: 4) أن طبيعة الابن هي نفسها طبيعة الآب “لأن الوليد ليس مغايرًا لأنه هو صورته وكل ما هو للآب هو للابن..”.. “لأن الشعاع هو أيضًا نور ليس ثانيًا بالنسبة للشمس ولا هو نور مختلف، ولا بمجرد المشاركة فيها، بل هو وليد كامل وخاص بها. ومثل هذا الوليد هو بالضرورة نور واحد، ولا أحد يستطيع أن يقول أنهما نوران. ولكن الشمس والشعاع هما اثنان، فنور واحد ينبعث من الشمس ويضيء بشعاعها كل الأشياء”.
(25) “يأخذ من الابن”: على غير ما يحاوله بعض المفسرين خطأ من الاستناد إلى هذه الآية لكي ينسبوا أصل الروح الأزلي إلى الابن مع الآب، فإننا نجد أن القديس أثناسيوس هنا يشرح هذه الآية على أنها تشير فقط إلى مجرد إرسال الروح القدس من الابن، إذ هو يقارن بين ما سمعه الابن من الآب وتكلم به (في يوحنا 8: 26)، وبين ما يسمعه الروح القدس من الابن ويتكلم به، كما يقول الرب يسوع في الفقرة التي اقتبس منها هنا القديس أثناسيوس عن علاقة الروح بالابن “لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به.. لأنه يأخذ مما لي ويخبركم” (يو 16: 13، 14). وعلى ذلك فإن الآية التالية التي يقول فيها كل ما للآب فهو لي تنحصر هنا في فعل الأخبار بما يسمع، لأن الرب يكمل قائلًا: “لهذا قلت أنه يأخذ مما لي ويخبركم” (يو 16: 15).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/maurice-tawadrous/holy-spirit-to-serapion/from-through-in.html
تقصير الرابط:
tak.la/y6g6xnb