إن الهدف الأعظم لكل التدبير الإلهي في تعامله مع الإنسان يتكشف لنا في قول بولس الرسول [ليكون الله الكل وفي الكل]. وهذا يتناغم تمامًا مع قول رب المجد:
"وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ" (يو 17: 3). وما دامت هذه هي مشيئة فادينا، أفلا يجدر بنا أن نسير وفقًا لهذا الهدف ونجعل من قراءة الكتاب المقدس دراسة يومية؟
إن كل الكتاب المقدس هو موحى به من الله ونافع لنا، إذًا لا يمكننا أن نستغنى عن أي جزء منه ولا أن نتغاضى عنه. وسفر نشيد الأنشاد من أعمق المصادر المعاونة لدارس الكتاب المقدس على وصوله إلى هذا الهدف الإلهي. ولئن احتج البعض بأنه صعب الفهم، أجبنا أن كل أعمال الله تتضمن هذه الصعوبة. فهل يستطيع الإنسان الضعيف أن يتفهم القوة الإلهية؟ أو أن يدرك أعمال الله ويفسرها؟ أو أن يعرف مدى العناية التي يبذلها كلي القدرة؟ إن حكمته تعلو علينا علو السماء عن الأرض. فهل نستغرب بعد ذلك إن وجدنا كلماته في حاجة إلى حكمة علوية لتفسيرها؟ فلنشكر الله على أن الاستنارة بالروح القدس موعود بها لجميع الذين يطلبونها - وبهذه الاستنارة ماذا يعوزنا بعد؟
والمفتاح الذي يفك ألغاز سفر النشيد هو العهد الجديد. فالكلمة المتجسد هو المفتاح للكلمة المكتوبة. ونجد يوحنا المعمدان يعلن صراحةً أن السيد المسيح هو العريس: "مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ، وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فرحًا مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ. إِذًا فَرَحِي هذَا قَدْ كَمَلَ." (يو 3: 29). وبولس الرسول يذهب إلى أبعد من هذا وُيَعَلِّم أن وحدة السيد المسيح بكنيسته وخضوعها له هما الأساس والنموذج لكل زوجية مُثْلَی.
وسليمان الملك العريس وكاتب هذا السفر هو رمز لربنا ملك السلام الحقيقي في مُلكه الآتي. وآنذاك لن يجد عروسه الكنيسة فحسب بل سيجد أيضًا شعبًا مستعدًا، سيجد رعاياه الذين سيملك عليهم في المجد. وعندها سيأتي إليه الملوك من أقاصي الأرض بكل غناهم ويبصرون مجده، وسيمتحنونه بأسئلة صعبة كما فعلت ملكة التيمن مع سليمان - وطوبى لأولئك الذين سيحظون بهذه الفرصة، فنظرة واحدة تكفيهم لمدى الحياة. ولكن ماذا ستكون الكرامة الملكية والطوباوية العليا للعروس! إنها ستكون إلى الأبد مع ربها وإلى الأبد على وعي بمحبته لها، فتشارك قلبه ومجده معًا. إذًا فدراسة نشيد الأنشاد سيفيدنا للغاية في إدراك أسرار النعمة والمحبة.
ومن الشيق أن نلاحظ مضادة هذا السفر لسابقه مباشرةً: فسفر "الجامعة" يؤكد "باطل الأباطيل الكل باطل" وبالتالي فهو مقدمة مُلِحَّة لنشيد الأنشاد الذي يوضح كيفية الوصول إلى البركة الحقيقية والرضى النفسي. وعلى هذا النمط يوضح لنا تعليم السيد المسيح في الأصحاح الرابع من يوحنا (يو 14) عجز الأشياء الأرضية عن إعطاء الرضى الداخلي المستمر. وهذا العجز يقابله تدفق البركات الناتجة عن حلول الروح القدس. لأن الروح القدس يكشف لنا عن السيد المسيح عريس النفس. "أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أيضًا. وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ" (يو 4: 13-14) - حياة مستديمة الفيضان.
← انظر كتب أخرى للمؤلفة هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ولتسهيل تفهم هذا السفر يجدر بالمتأمل فيه أن يقسمه إلى ستة أقسام:
1- حياة عدم الرضى ومداواتها - (نش 1: 2 - 2: 7).
2- فسخ التواصل ثم استعادته (نش 2: 8 - 3: 5)
3- فرحة التواصل اللامنقطع (نش 3: 6 - 5: 1)
4 معاودة فسخ التواصل واستعادته من جديد (نش 5: 2 - 6: 10)
5- ثمار الوحدة المتصلة (نش 6: 11- 8: 4)
6- التواصل في انطلاقه (نش 8: 5-14)
وفي كل من هذه الأقسام نجد أن المتحدثين هم: العروس. العريس. بنات أورشليم. وليس من الصعب معرفة المتكلم ولو أن هناك اختلافًا في استنتاج شخصيته في بعض الآيات. فالعروس تتحدث دومًا عن عريسها بكلمة "حبیبي"؛ والعريس يشير إليها بكلمات: حبيبتي، حمامتي؛ بينما تتحدث بنات أورشليم بمختلف العبارات. ففي الأقسام الأربعة الأولى يشرن إليها بقولهن: "یَا جَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ" (نش 1: 8؛ 5: 9؛ 6: 1). أما في القسم الخامس فهي "شولمیث" أو "عروس الملك" أو "بنت الكريم".
ولنلاحظ أن العروس هي المتحدث الرئيسي في القسمين الأول والثاني، واهتمامها مُرَكَّز على نفسها، ولكنها في القسم الثالث حيث التواصل اللامنقطع تكون المستمعة. وتطیل بنات أورشليم الحديث بينما يوجه إليها العريس أطول خطاباته. وهو -في هذا القسم- يدعوها "عروسه" لأول مرة وَيَسْتَحِثَّهَا على الأُلفَة في العمل معه. وتعود العروس لتكون المتحدث الأول في القسم الرابع. وبعد عودتها إليه من جديد يستفيض العريس معها في الحديث ولا يوبخها إطلاقًا. بينما تعترف بنات أورشليم -وتعترف هي معهن- بأنها العروس الملكية. وفي القسم الأخير يعلن العريس كونها كانت له منذ ولادتها(*) وليس فقط عند خطبتها، وهذا ما يعلنه الله بالضبط في (حزقيال 16).
_____
(*) توضيح من الموقع: كان مكتوبًا "ولايتها"، فتم تغييرها إلى "ولادتها" ليتضح المعنى (birth حسب النص الأصلي).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/iris-habib-elmasry/song-of-songs/introduction.html
Connection failed: SQLSTATE[08004] [1040] Too many connections