الآن الخامسة صباحًا من يوم الجمعة، ومع بزوغ أول ضوء للصباح، كانت المدينة أورشليم قد استيقظت، لكيما يتمتع الوافدون إليها ببكور اليوم، وفي ذلك الوقت المبكر كانت أبواب الهيكل الأربعة والعشرين قد فُتحت على مصراعيها، وصار الهيكل يموج ببحور من البشر الذي أتوا من كل حدب وصوب ليقدموا عبادتهم ويُصعدوا محرقاتهم، وفي لحظات كان الزحام على أشدَّهُ في الهيكل، حتى إن الذين صحبوا أطفالهم اضطروا إلى حملهم فوق الأكتاف خوفًا من الأذى... البعض يتمتم بكلمات الصلوات والتضرعات والطلبات، والآخر يطلق عبارات الإعجاب بجمال الهيكل الذي فاق الخيال...
فقد بني سليمان الحكيم هذا الهيكل في الشهر الثاني من السنة الرابعة لملكه على جبل المريا -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- وقال يوسيفوس المؤرخ اليهودي إن الهيكل بُني بحجارة ضخمة، وتعرض للهدم على يد نبوخذ نصر. ثم أُعيد ترميمه بعد العودة من السبي، وأيضًا أُعيد إصلاحه وترميمه على يد هيرودس الكبير الذي حاول استمالة اليهود إليه، واشتغل في ترميمه آلاف من العمال المهرة، وأكمل خلفاء هيرودس العمل وتزيين الهيكل، ولذلك قال اليهود للمعلم أنه بُني في ستة وأربعين سنة، وشمل الهيكل أربعة ديارات، دُعيت الأولى "دار الأمم"، وسُمح للأمم بالدخول إليها، حتى إنك تجد فيها موائد الصيارفة وأقفاص باعة الحمام، ولم يسمح لغير المؤمنين بتجاوزها إلى الداخل، وفي هذا الدار مدرسة أو مجمع لعلماء الهيكل، وهو المكان الذي التقى فيه يسوع مع الشيوخ وسألهم وكان له من العمر اثني عشر سنة، وبهذه الدار غرف لسكنى اللاويين، ويحيط بها أروقة، وفي إحدى هذه الأروقة كان يخاطب يسوع الشعب.
والدار الثانية هي "دار النساء" ودُعيت هكذا لأنه لم يكن مسموحًا للنساء بتجاوزها إلى الداخل، وكانت النساء تدخلن هذه الدار لتقديم قرابينهن، وكان بها ثلاثة عشر صندوقًا للتبرعات، وفي إحدى هذه الصناديق وضعت الأرملة فلسيها، فمدحها المُعلّم لأنها أعطت كل ما تملك... وهي مرتفعة عن دار الأمم بمقدار تسع درجات، وكان يفصل بين الدارين جدار بارتفاع ذراع واحد، وقد أقاموا عليه عمودًا من الرخام كتبوا عليه باليونانية واللاتينية أن من جاوز هذا الجدار إلى الداخل من الأمم يُقتل.
والدار الثالثة هي "دار إسرائيل"، وهي مرتفعة عن دار النساء بمقدار خمسة عشر درجة، وفصل بينها وبين الدار الثانية جدارًا ارتفاعه ذراع واحد به ثلاثة أبواب، وهذه الدار خُصصت لذكور بني إسرائيل، أما الدار الرابعة فهي "دار الكهنة" وتقع شرق دار إسرائيل، وفيها مذبح المحرقة والمرحضة، ومن دار الكهنة يصعدون اثنيّ عشر درجة إلى القدس وقدس الأقداس، وفي مدخل الهيكل عمودان أحدهما باسم "ياكين" والآخر باسم "بوعز" ويبلغ ارتفاع كل منهما ستة أمتار، يعلوه التاج النحاسي الذي يبلغ ارتفاعه نحو متران ونصف. أما منظر الهيكل من الخارج بارتفاعه الشاهق فهو يشد الانتباه ويُبهر الأنظار، ويبرز من واجهة الهيكل أشواكًا من ذهب تمنع الطيور أن تحط على الواجهة لئلا تلوثها بفضلاتها. وطول القدس ستون قدمًا وعرضه ثلاثون، ويحوي مذبح البخور ومائدة خبز الوجوه والمنارة الذهبية. أما قدس الأقداس فمساحته مربعة وطول ضلعه ثلاثون قدمًا، وحوى في أحشائه تابوت العهد وفيه لوحي العهد وقسط المن وعصاة هارون، ويفصل بين القدس وقدس الأقداس حجابًا من سجف بلون أبيض علامة النقاوة، واسمانجوني رمز السمو، وأرجواني علامة المُلك، وقرمزي بلون الدم، وأمام الحجاب كان هناك حاجزًا عبارة عن سلسلة ضخمة من الذهب الخالص، لا يعبر منها إنسان إلاَّ رئيس الكهنة يوم عيد الكفارة فقط.
وفي هذا الصباح الباكر ضرب الكهنة بالأبواق الفضية ثلاث مرات يعلنون بدء خدمة الصباح، فقد ظلت النار مشتعلة على المذبح طوال الليل في ذبيحة المساء، وها الآن يجب أن تظل مشتعلة طوال النهار في تقدمة الصباح، وينبغي ألا تطفأ... تقدم أحد الكهنة الذين وقعت عليهم القرعة لأداء خدمة هذا اليوم، فقبض على الحمل الوديع، وأرقده أرضًا وبجرة واحدة من الشفرة الحادة صار دم الحمل يتدفق في الإناء الذهبي الذي أمسك به كاهن آخر شريك في الخدمة، فأسرع وسكبه على حجارة الهيكل، لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة...
وفي هذا الوقت ترى عددًا كبيرًا من الكهنة واللاويين ينظفون الهيكل من كل ذرة تراب علقت بالجدران التي كُسيت بخشب الأرز المغشي بالذهب ومنقوش عليها قثاء وبراعم زهور ونخيل وكروبيم، والمنارة الذهبية أو مذبح البخور، بينما وقف أحد الكهنة يرفع البخور أمام مذبح البخور...
عجبًا يا ربي... لقد بني لك شعبك هيكلًا بهذه العظمة والمجد والبهاء، وهوذا رب الهيكل قائم يحاكمونه...
عجبًا يا ربي... كم من الذبائح قدم شعبك، وهم لا يدرون أن كل هذه الذبائح إنما تشير للذبيح الأعظم الذي وضع ذاته في أيديهم منذ سويعات، ولن تمر ساعات أخرى حتى يُذبح على الصليب ويقطر دم الحمل قطرة قطرة...
أما المحلات التجارية فقد فتحت أبوابها من الصباح الباكر لتلبي طلبات الوافدين، وهوذا أصحابها يرتبون ويعرضون بضائعهم بصوُّر مغرية، فاليوم هو أهم أيام السنة من الناحية التجارية، وعلى هذه المحلات إغلاق أبوابها قبل غروب الشمس، استعدادًا لعيد الفصح العظيم، وصارت الشوارع تموج بالبشر منذ الصباح الباكر، والقلوب فرحى، والوجوه مستبشرة بهذه الأيام المقدَّسة، ولا يعكر الصفو إلاَّ رؤية جنود الاحتلال وهم يستعرضون قوتهم، حتى وإن كانوا يحفظون الأمن والنظام، لكن الشعب لا يطيق رؤيتهم، ولاسيما بجوار الأماكن المقدَّسة، فإنهم يرسمون أمام أعينهم سلطة وسطوة واستعمار روما، فأثاروا لديهم مكامن الاشتياقات لمجيء المسيا الذي سيُحرّرهم من روما، ويجعل أورشليم سيدة ممالك الأرض كلها... إنهم يمنُّون أنفسهم بأيام المسيا الرائعة ويطوّبون من يعيش ليراها، وهم لم يدركوا أن المسيا قد جاء، وهوذا هو قائم يُحاكم في قصر رئيس كهنتهم.
وفي هذا الصباح الباكر أيضًا بدأ أعضاء مجمع السنهدريم يتدفقون على بيت رئيس الكهنة، متجهين إلى صالة الاجتماعات، وكل منهم يأخذ مكانه سريعًا، أما حنان وقيافا فلم يذوقا النوم في هذه الليلة السعيدة الغبراء، وسريعًا ما حضر كل أعضاء المجمع، بالإضافة إلى لفيف من الكهنة وحرس الهيكل، وكأن هناك احتفالًا عظيمًا أو مظاهرة ضخمة... اجتمعوا لكي يقرّروا ما سبق أن أصدروه منذ ساعات قليلة من خلال جلسة غير قانونية.
قال حزائيل ليهورام: متى يعود إلى هذا المجلس مجده؟!
يهورام: لقد صار مجلسًا بلا سلطة، ففقد كرامته... منذ عشرين عامًا سلب منا الرومان سلطة إصدار حكم الإعدام... لقد مُنعنا من الاجتماع في "الجازيت" الدار المخصصة للسنهدريم، ولا يجوز إصدار حكم الموت على أحد خارج دائرة الجازيت هذه.
حزائيل: عندما احتل الرومان دولتنا منذ نحو ستين عامًا (سنة 63 ق.م) وجدوا أنها دولة عريقة لها قوانينها ودستورها وشرائعها ومحاكمها ومجمع السنهدريم الذي هو فوق الكل... حينئذ تركونا ندبر شئون أمتنا، وكان لمجلسنا الموقر الحكم في الأمور بحسبما ترى الشريعة والعدالة. إلى أن جاء اليوم الأغبر عندما نزع هؤلاء الغُلف من المجلس سلطة أحكام الإعدام، في السنة الحادية عشر من حكم أرخيلاوس بن هيرودس الكبير.
يهورام: إنني أذكر ذلك اليوم يا خزائيل وكأنه اليوم... لبسنا المسوح، وذرينا الرماد على رؤوسنا، وبكينا بمرارة، لأنه قد زال قضيب الحكم من يهوذا قبل أن يأتي المسيا " لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون (رجل السلام) وله يكون خضوع الشعوب" (تك 49: 10).
ولم يدرِ يهورام ولا حزائيل أن الداخل عليهم الآن هو هو شيلون رجل السلام... دخل يسوع يمسك به جنديان، والإعياء وآثار التعذيب الوحشي واضحان عليه، ووقف أحد الأعضاء يعرض التهم الموجهة ليسوع: هذا هو الناصري المُجدّف الذي ادَّعى أنه ابن الله، وهو يصر على أقواله...
أخذ الجالسون يهزون رؤوسهم ويتحسَّسون ذقونهم علامة الاستحسان.
نظر أحد الشيوخ إلى يسوع بخبث زائد، مُريدًا أن يُثبّت التهمة عليه، فالخوف كل الخوف من تراجع يسوع عن شهادته، عندئذ تكون الطامة الكبرى... سأل يسوع وكأنه يريد أن يستفسر: إن كنت أنت المسيح فقل لنا.
فالسؤال في ظاهره: قل لنا إنك أنت المسيح لنؤمن بك، أما في باطنه: قل لنا لنقتلك.
وكتموا أنفاسهم، ربما غيرَّ يسوع رأيه تحت وطأة العذابات...
وقال حنان في نفسه: هل كانت تلك العذابات ضرورية..؟! هل هذا وقتها..؟! ألاَّ صبرًا يا آل يعقوب...
وأجابهم يسوع فاضحًا نواياهم الخبيثة: إن قلت لكم إنني المسيح لا تصدقون. وإن سألتكم لا تجيبوني ولا تطلقونني.
ولم يرد أحد على ما قاله المعلم، ولم يناقشوه فيما يقول، ولم يجرؤ أحدهم على القول إننا على استعداد أن نصدقك، أو اسألنا ونحن نجيبك... بل استمروا في خبثهم ليثبتوا عليه التهمة فسألوه: أفأنت إذًا ابن الله؟
ومريح التعابى أراحهم وقدم لهم ما يشتهون على طبق من الفضة: أنتم تقولون إني أنا هو... هكذا أنا هو كما تقولون تمامًا... لم يتخاذل يسوع أمام جلاديه، ولم يهادنهم ولم يداهنهم...
وضحك قيافا ضحكته الساخرة، واهتزت عمامته باهتزاز رأسه، وقد تنفس الصعداء وقال: ألم أقل لكم إن الأسير العنيد لن يُغيّر رأيه، ولا يقبل نصحًا ولا إرشادًا ممن هم أكبر منه وأعلم بالأمور.
وهمس أحد الأعضاء: لو كان هذا الاتهام صحيحًا فلماذا تركوه كل هذا الوقت..؟! أليس بهذا يثبتون على أنفسهم أنهم غير أمناء على مصالح هذه الأمة؟!
نظر قيافا إلى الأعضاء وسألهم: وما رأيكم الآن؟
وهكذا كانت المحاكمة الثالثة سريعة لهذه الدرجة، وبدأ أخذ الأصوات في إدانة يسوع، فأجمع الكل على ذلك، باستثناء حفنة صغيرة جدًا جدًا، منهم نيقوديموس، ويوسف الرامي، وسمعان الأبرص، وإناس.
وهكذا أراد قيافا بهذا الاجتماع سد ثقوب ثوب الظلم الذي ارتداه، وقد أظهر من عريه أكثر مما ستر، فأي قضية وُضع فيها قرار الإدانة قبل نظرها كمثل تلك القضية..؟! كم كان السنهدريم ألعوبة في يدي حنان وقيافا يسخرانه لأغراضهما الخبيثة..؟! حقًا إنهم يصوّرون العدالة بامرأة معصوبة العينين وبيدها ميزان، في العدالة تجد الرقة إذ لها قلب امرأة، وإذ هي معصوبة العينين فلا تحابي بالوجوه... أما مجلس السنهدريم فبماذا نصوّره وبما نشبهه..؟! أنشبههه بغراب ينعق، أم نشبههه بذئب ينشب مخالبه في جسم الفريسة وهو يسألها هل أنت بريئة؟.. ألست أنت مُدَانة؟!
وكان القصد أيضًا من هذه الجلسة إعداد الأوراق لإحالة القضية لجهة الاختصاص أي السلطات الرومانية، لأنه ليس للسنهدريم سلطة لإصدار حكم الإعدام على أحد، فكل ما فعلوه للآن كان بقصد الوصول إلى قرار موحَّد يقدمونه إلى الحاكم الروماني الذي في يده السلطة الحقيقية... فلماذا كل هذه العذابات التي جاز فيها المتهم البريء؟..!! تُرى لو أفرج عنه بيلاطس هل كانت هذه القيادات الدينية ستقدم اعتذارها لهذا الإنسان البار، أم أنها كانت ستعيد كرَّتها ثانية وثالثة؟..!! على كل فإن المحاكم الرومانية تختلف عن اليهودية، فما يُحرّمه الآخر ويعتبره جرمًا قد يُحلّله الآخر، فمثلًا جرائم التجديف وكسر السبت التي توجب القتل بالنسبة للمحاكم اليهودية لا تهتم بها المحاكم الرومانية، والثورة على السلطة الرومانية التي تُجرّمها المحاكم الرومانية، ترى فيها المحاكم اليهودية إنها ضرب من البطولة، ولذلك فإن أشد ما كان يخشاه قيافا هو ألاَّ يقتنع بيلاطس بالتهم الموجهة للأسير، فيطلق سراحه، وتكون الطامة العظمى، فتصير أواخر السنهدريم أشرَّ من أوائله.
ومع أن بيلاطس قد أعطى وعدًا بالتعاون في هذا الأمر، ولكنه غير مأمون الجانب، ولاسيما أن الجو بينه وبين القيادات اليهودية ملبّد بالغيوم، ولهذا فكَّر حنان مع قيافا في دفع مظاهرة ضخمة تضم كل الحاضرين مع من يمكن تحريكه من الشعب للضغط على بيلاطس...
وتحركت المظاهرة تحيط بيسوع موثقًا ولا يكاد يُرى... إنه موثق مثل الذبيحة " أوثقوا الذبيحة بربط إلى قرون المذبح" (مز 118: 27).. كل من يراهم يظن أنه موكب ديني من طقوس الاستعداد لاحتفالات الفصح، لأنه ضم رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين وحرس الهيكل، وانضم إليهم الكثيرون وهم لا يعلمون إلى أين يذهبون، وساروا مسافة تتعدى الكيلومتر إلى قلعة أنطونيا الواقعة شمال الهيكل.
ولنا أن نتساءل لماذا قُدم يسوع لبيلاطس:
"1- لكي يصدر الحكم بموته بطريقة شرعية حسب دستور البلد كمستعمرة رومانية.
2- لو لم يقدم للمحاكمة الرسمية لتحوَّل الأمر إلى شغب ولم يكن يُصلب، إذ هذا من حق الوالي وحده، إنما لرجمه المشاغبون ولم تتحقَّق النبؤات.
3- ربما خشيت القيادات اليهودية الدينية من ثورة الشعب عليهم، لذلك حسبوا أن محاكمته الرسمية تعطيهم شيئًا من الشرعية، وضبط الشعب إن انقلب عليهم.
4- لكي يصبغوا موته بصبغة العار والفضيحة، فكان الصلب مستخدمًا عند الرومان، وهو أكثر أنواع الموت خزيًا، فقد أرادت القيادات أن تفسد سمعته تمامًا وتطمس كل شهرته" (16).
_____
(16) المرجع السابق ص 1165.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/with-him/council.html
تقصير الرابط:
tak.la/g3pa22f