وبينما تحرك موكب الموت وهو يضم يسوع في أحشائه نحو قصر بيلاطس، صار يهوذا كثور هائج، وهو يرى نتيجة تصرفه الأحمق... تصوَّر سيده مصلوبًا على ربوة عاليه كأحد المجرمين، فلم يحتمل، وثارت داخله لجج الذكريات وإحسانات يسوع له، فصارت كنار حارقة تشعل جوفه... ربما كان يهوذا يتصوَّر أن معلمه سيصنع معجزة عظيمة ويخلص نفسه، وبهذا يدفعه دفعًا لإعلان قوته وجبروته وملكه، وربما تصوَّر أنهم سيؤدبونه ويطلقونه، وكل هذا لم يحدث... لقد سمح يهوذا للشيطان أن يُعمي بصيرته، أما الآن فقد انفتحت عيناه بدون إرادته على منظر البريء المُساق للموت، فلم يطق ولم يحتمل، ولاسيما أنه لوقته عاد من الهيكل بعد أن فشل في إلغاء الصفقة التي عقدها أول أمس...
لقد التقى في الهيكل بالكهنة وصرخ فيهم: هذه فضتكم خذوها... وأطلقوا ذاك البريء.
- ماذا تقول؟
- إنني أخطأتُ إذ سلمتُ دمًا بريئًا.
- هذه مشكلتك يا رجل... ماذا علينا؟.. أنت أبصر بأمرك. ألم تفعل هذا بكامل حريتك وإرادتك؟
- أخطأت... هوذا الفضة... أطلقوا البار.
- نحن لم نذهب إليك... أنتَ أتيتَ إلينا برجليك... أين كان عقلك؟!
- إنه برئ... برئ... لابد أن تطلقوه... لابد أن يُطلق... هوذا فضتكم... لا... لا تقتلوه.
- نحن لا نريد فضة ثمن دم... لتكن فضتك معك... ألاَّ يكفيك شرفًا أنك سلمت لنا ذاك المجدف الأثيم.
- كلاَّ... كلاَّ... إنه بار... إنه صادق، ويجب أن تصدقوه... لم يكذب قط، ولم يفتري قط.
وإذ ضاق به الكهنة ذرعًا زجروه: انصرف يا يهوذا... أغرب عن هذا المكان وإلاَّ تصرفنا معك.
يهوذا: كلاَّ... إنه برئ من جميع التهم... أنا أشهد ببراءته... فلماذا تحكمون عليه؟! ولما تقتلونه ظلمًا؟!!
- ألم تدينه أنت يا يهوذا منذ أمس وأول أمس، فماذا دهاك... ما الذي حوَّلك هكذا؟
وإذ دفعوه بعيدًا ألقى بالفضة في وجوههم، فتدحرجت قطع الفضة ترن على الأرض، ومع صدى الرنين ترددت أصوات الشياطين تبكته:
كيف ترد الفضة يا محب الفضة؟
كيف تتخلى عن المال يا عابد الأموال؟!
إنها محاولة يائسة بائسة يا يهوذا... أتريد أن تطوح بمسئوليتك عن الدم الزكي؟!.
وبينما انطلق يهوذا لم يجرؤ كاهن على لمس هذه الفضة لئلا يتنجس، فهي ثمن دم. ثم تجرأ أحد اللاويين من محبي الفضة، فجمعها ووضعها في أحد أركان الحجرة إلى أن يتم البت في أمرها، وتشاور الكهنة معًا: ماذا نفعل بهذه الفضة؟
قال أحدهم: لا يمكن أن ندخلها إلى خزينة الهيكل لأنها ثمن دم...
قال آخر: ولا يصح أن نقتسمها لأنها ثمن دمٍ.
قال ثالث: ولا يصح أن نوزعها على الفقراء والمحتاجين.
وقال رابع: ولا يصح أن نشتري بها بخورًا لأنها ثمن دمٍ.
عجبًا... إنهم لا يقبلون دخول الفضة إلى خزينة الهيكل ويحللون إهدار الدم الزكي.
وأخيرًا قال أحدهم: إن الغرباء الذين يأتون في الأعياد وتُقبض أرواحهم، بدلًا من أن يزاحموننا في مقابرنا نشتري لهم مقبرة خاصة بهم، ووجد هذا الاقتراح استحسانًا من بقية الأموات...
حقًا إن بني حث كانوا أشرف من هؤلاء الكهنة، فعندما أراد إبراهيم أن يدفن أمهم سارة عرض عليه بنو حث أن يدفنها في أفضل قبورهم -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- قائلين " اسمعنا يا سيدنا أنت رئيس من الله بيننا. في أفضل قبورنا أدفن ميتك" (تك 23: 6) أما هؤلاء الكهنة فيرون أن أخوتهم من يهود الشتات لا يستحقون أن يُدفنوا في قبورهم.
طرح يهوذا الفضة في الهيكل وهام على وجهه لا يعرف إلى أين؟.. أخذ يسعى بقدمين غليظتين إلى حيث لا يدري... لقد لفته أفكاره المتشابكة كإكليل شوك، ففقد اتزانه، واضطربت ضربات قلبه حتى باتت مسموعة، وأخذ يركض بعض الشيء وهو يلهث، حتى وصل إلى منحدر بأحد أطراف جنوب المدينة عند التقاء وادي قدرون مع وادي هنوم...
هناك شجرة ضخمة على حافي المنحدر، هبت عليها نسمات الربيع الرقيقة فداعبت أوراقها الخضراء اللامعة المملوءة حياة، وإذ شعر يهوذا إنه يختنق، دفعه شيطانه للصعود أعلى الشجرة علَّه يلتمس منها نسمة حياة، فصعد وجلس في العلاء، ولكن ضميره الثائر أوقد له جحيمًا لا يُطاق: أنا المذنب... أنا المجرم... يا لحظك العاثر يا يهوذا... أتُسلم سيدك للموت..؟! اليد التي امتدت لك بالخير أتُدق بالمسمار..؟! الأرجل التي جالت أرض إسرائيل تصنع خيرًا أتُدق بالمسمار..؟! ماذا فعلتُ..؟! كيف فعلتُ..؟! لماذا فعلتُ..؟!
وثار يهوذا ثورة شيطانيَّة ضد نفسه، لم يقدر أن يلتمس لها عذرًا، ولم يقدر أن يصفح عنها، وإذ وصل إلى أقصى درجات الحقد على نفسهِ، أصدر حكمه السريع عليها بالشنق... نعم الشنق، ولم تشفق عليه شياطين اليأس وصغر النفس، إنما صارت تصرخ: تلميذ ساقط... عبد خائن... باع سيده بثلاثين فضة وإذ هي نحاس...
أخذ يهوذا يتحسَّس وسطه... نزع الحزام الحريري الثمين الذي اشتراه بالمال الحرام، وإذ ظن أن الموت يريحه من عذاب جحيم الضمير، لف طرف الحزام على رقبته، وربط الطرف الآخر في فرع من فروع الشجرة، وأطاح يهوذا بنفسه فتأرجح قليلًا، وإذ كان بدينًا، واكتظ جسمه الثقيل باللحم والشحم، انشق فرع الشجرة القوي عن الأصل وسقط، تمامًا كما انشق يهوذا عن جماعة القديسين وهوى... هوى وارتطم بالأرض التي افترشت ببعض الصخور الصغيرة والحصى، فانشقت بطنه، واندلقت أحشاؤه، وصارت دمائه بِركة رقصت حولها الشياطين رقصة الموت وهي تنتزع روحه من جوفه، وتزفها في سخرية وشماتة ما بعدها شماتة: أرأيتم مثل هذا التلميذ الخائن..؟! لقد عقد صفقة الهلاك ليُهلِك مُعلّمه، فهلك هو... حفر حفرة لمُعلّمه، فسقط فيها... هوذا الإنسان اللص السارق الذي خان الأمانة... هوذا المرائي الذي تظاهر بالحب وقلبه يفيض بالحقد تجاه مُعلّمه وبقبلة غاشة قد أسلمه... تبًا لك يا يهوذا يا اسخريوطي... دعوه... دعوه يجوز من بوابة الخيانة إلى باب الجحيم، وليتبعه طابور يهوذا كل عصر...
وتحققت في يهوذا نبؤة داود " فأقم أنت عليه شريرًا وليقف شيطان عن يمينه. إذ حُوكم فليخرج مذنبًا وصلاته فلتكن خطية. لتكن أيامه قليلة ووظيفته ليأخذها آخر" (مز 109: 6- 9).. " لتصر دارهم خرابًا وفي خيامهم لا يكن ساكن" (مز 69: 25).. ولم يجد يهوذا من يبكيه... حقيقة لو كان سيده هنا لبكاه... حسرة عليك يا تلميذ الحمل..!! ما أعظمها خسارة... إنها خسارة لا تُعوَّض.
واحسرتاه عليك يا تلميذ الحبيب..!! كم هو عظيم حزن سيدك عليك؟!
يا للخسارة الفادحة..!! تلميذ صنع المعجزات وطرد الشياطين يسقط هكذا!!
يا للهول!! تلميذ كان من الممكن أن يكسب الآلاف للملكوت تنتهي حياته هكذا!!
دعونا نبكي يهوذا، وكل يهوذا يبيع سيده، من أجل حفنة تراب، أو شهوة جامحة، أو شهرة عمياء... إن منظر يهوذا غارقًا في دمائه لهو أقوى إنذار لكل من هو قائم لئلا يسقط...
وبعد أن سقط تلميذا كهذا من جماعة القديسين، لن نندهش كثيرًا إذا رأينا في أي مجتمع كنسي عضوًا يبيع نفسه للشيطان، ولم يعد عجيبًا إذا رأينا نجمًا لامعًا يتعرض للأفول لأجل عناده.
وسرعان ما انتشرت الأخبار... حادثة... حادثة انتحار، وليست حادثة قتل، فالحبل الحرير الملفوف على الرقبة وفي طرفه الآخر فرع الشجرة المكسور يشهدان بهذا، وليس أحد يجرؤ أن يدَّعي أن التلاميذ هم الذين قتلوا يهوذا جراء خيانته، لأنهم يعيشون لحظات لا تسمح لهم بهذا... إنهم يفرُّون لحياتهم من الموت... نعم إنهم هاربون من الموت.
ولو تساءل أحد: إن كان يهوذا ندم إلى هذه الدرجة على خطيته فلماذا لم يَخلُص مثلما خَلص بطرس؟
والحقيقة أن هناك بونًا شاسعًا بين الاثنين:
1- رتب يهوذا لخطيته في هدوء وإصرار، ولم يكترث بكل إنذارات مُعلّمه... لقد بيَّت النية على الخيانة، وارتكب الذنب مع سبق الإصرار. أما بطرس فقد باغتته الخطية، وبسبب الخوف والضعف البشري سقط.
2- قلب يهوذا مُفعم بالخيانة. أما قلب بطرس فهو مُفعم بالحب لسيده، فخطية يهوذا صدرت من قلب شرير استراح للشر وتلذَّذ به. أما خطية بطرس فهي خطية ضعف من قلبٍ محبٍ يسعى أن يكون مُخلصًا وأمينًا لسيده.
3- رأى يهوذا أن يسوع لابد أن يموت، ورأى بطرس أن يسوع لابد أن يعيش.
4- ارتضى يهوذا أن يهجم الغوغاء على مُعلّمه ليقبضوا عليه في قسوة وشراسة وكان يُحرّضهم. أما بطرس فلم يطق أبدًا أن يرى ملخس يمد يده في قسوة ويمسك بسيده.
5- حزن يهوذا على نفسه وعلى مظهره الذي بات قبيحًا كتلميذ خائن، وكانت ثمرة هذا الحزن الموت. أما بطرس فخزن لأنه جرح حبيبه، وكانت ثمرة هذا الحزن حياة.
6- ندم يهوذا دفعه بعيدًا عن يسوع. أما ندم بطرس فقد ألقى به في أحضان يسوع.
7- ندم يهوذا كان خاليًا من روح الرجاء، فولَّد اكتئابًا ويأسًا، ورغبة عارمة في قتل النفس. أما ندم بطرس فامتزج بروح الرجاء، فولَّد في النفس مرارة، وفي العين دمعًا، وفي القلب انكسارًا ولوعة.
8- لقد أحبَ يسوع هذا وذاك... أحبَ يهوذا وعاتبه مرات بلغة الحب، وأحبَ بطرس وتدخل في حل مشكلته التي كادت أن تودي بحياته، واستفاد بطرس دون يهوذا بمحبة المُعلّم.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/with-him/loss.html
تقصير الرابط:
tak.la/qqg5z6w