س 31: يقول البعض إن كان التثليث عقيدة كتابية، فلماذا لم تكن واضحة في العهد القديم، ولماذا لم يعتنقها رجال العهد القديم؟
ج: كانت عقيدة التثليث مخفية في طيات أسفار العهد القديم، ولم تشاء الحكمة الإلهية الإعلان عنها في تلك العصور المبكرة، ولا سيما أن الشعب الذي كان يعرف الله حينذاك هو الشعب اليهودي فقط كقطيع صغير مُحاط بالشعوب الوثنية التي تؤمن بتعدد الآلهة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فلو تم الإعلان عن عقيدة الثالوث في هذه المرحلة المبكرة التي تمثل الطفولة الروحية للبشرية لقوى الشعور لدى اليهود بتعدد الآلهة، ولا ننسى أن الشعب اليهودي كان متأثرًا بعبادة الوثنيين، فمثلًا بعد خروجه من أرض مصر وغياب موسى عنه صنعوا عجلًا من ذهب وعبدوه قائلين: "هذه آلهتك يا إسرائيل التي أخرجتك من أرض مصر ".. لقد كان شعب إسرائيل متأثرًا بعبادة عجل أبيس ، وعلى مدار تاريخ بني إسرائيل كثيرًا ما سقطوا في عبادة الأوثان، حتى أن سليمان أحكم مَنْ على الأرض سقط في العبادات الوثنية تحت إغراء زوجاته الوثنيات، ولذلك لم يعلن الله عن عقيدة التثليث في العهد القديم.
ولكن عندما نضجت البشرية بالتجسد الإلهي، وعاينا بأعيننا الله متجسدًا ولمسناه بأيدينا، وسمعناه بآذاننا يحدثنا عن وحدانيته مع الآب، وأنه سيرسل لنا الروح القدس المنبثق من الآب. عندئذ انفتح ذهن البشرية وبدأت تقبل هذه العقيدة الإلهية، وجاءت قمة الإعلان في معمودية الرب يسوع، ومع هذا فانه كان هناك آيات كثيرة في العهد القديم عندما نتأملها نقف مواجهة أمام عقيدة التثليث والتوحيد، ومن أمثلة هذه الآيات ما يلي:
1ـ " في البدء خلق الله السموات والأرض" (تك 1: 1):
وهنا نلاحظ أن الفعل "برا" بالعبرية أي "خلق" بالعربية جاء في صيغة المفرد إشارة إلى وحدانية الله، بينما جاء الفاعل "ألوهيم" بالعبرية أي "الله" بالعربية في صيغة الجمع إشارة للثالوث القدوس، فألوهيم كلمة عبرية معناها الآلهة (ال يم في العبرية تفيد الجمع) ومفردها ألوه، وهيَ كلمة مشتقة من الاسم إيل ومعناها في العربية الأول أو المبتدأ أو القويم، وكلمة ألوهيم في اللغة العبرية تساوي في العربية "اللَّهمَّ" وهي تمثل نداء لله الواحد الجامع، فعندما نقول نحن: "اللَّهمَّ ارحمنا" فإننا ندرك معناها إذ نطلب الرحمة من الثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس، ولكن عندما يقولها الموحدون الذين يرفضون عقيدة التثليث فانهم يعجزون عن تفسيرها، لأنه ليس أمامهم إلاَّ الاعتراف بالتثليث أو السقوط في الشرك، وقد أدرك رسول الإسلام هذه الحقيقة، ولذلك أراد أن يكتب في الصحيفة التي حوت صلح الحديبة " بسم الله "، ولكن كفار قريش ضغطوا عليه وكتبوا "بسم اللهم".
وقد وردت كلمة ألوهيم في العهد القديم 2555 مرة منها 2310 تخص الثالوث القدوس، ولذلك جاءت الأفعال بصيغة المفرد، ومنها 245 تخص آلهة الأمم أي الأصنام، ولذلك جاءت الأفعال في صيغة الجمع. (راجع إيماننا الأقدس للمتنيّح الأنبا يوأنس مطران الغربية).
2ـ " وقال الله ليكن نور، فكان نور. ورأى الله النور أنه حسن" (تك 1: 3).
وقد جاء الفعل " قال " وبالعبرية " فايومر"، وكذلك الفعل " رأى " وبالعبرية "فايارى" في صيغة المفرد إشارة إلى وحدانية الله، وجاء الفاعل " الله " وبالعبرية "أيلوهيم" في صيغة الجمع إشارة للثالوث القدوس.
3ـ "وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا"(تك 1: 26).
والإشارة إلى الثالوث القدوس هنا واضحة في القول " نعمل"، " صورتنا كشبهنا "، وقد يتساءل البعض: لماذا لا يكون المقصود من الفعل " نعمل " ليس هو التثليث، لكن المقصود هو تشاور الله مع ملائكته؟
هذا التساؤل يكون صحيحًا لو أن الملائكة شاركوا الله في خلقة الإنسان، ولكن الحقيقة أن الخالق هو الله وحده، والإنسان خُلِق على صورة الله وحده "فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه"(تك 1: 27).
4ـ "وقال الربَّ الإله: هوذا الإنسان قد صار كواحدٍ منا"(تك 3: 22).
جاء الفعل "قال" في صيغة المفرد إشارة لوحدانية الله، و"كواحد منا" إشارة واضحة للأقانيم الثلاثة.
5ـ "هلمَّ ننزل ونبلبل هناك لسانهم"(تك 11: 7).
فالأسلوب يدل على أن هناك شخصًا يخاطب آخر، ولا يمكن أن يكون المقصود أن الله يخاطب الملائكة، لأن نزول الله وبلبلته للألسنة هيَ في الحقيقة إبداع للغات جديدة، والملائكة لا يشاركون الله في الإبداع. إذًا لا مناص من أن أحد الأقانيم يخاطب الأقنومين الآخرين.
6ـ "فأمطر الربُّ على سدُوم وعمورة كبريتًا ونارًا من عند الرب من السماء" (تك 19: 24).
وهنا إشارة خفية لأقنومين من الأقانيم الثلاثة الأقنوم الأول واضح من قوله: "فأمطر الرب" والأقنوم الثاني واضح من قوله: "من عند الرب".
7ـ "وقال الله أيضًا لموسى: هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه إله آبائكم، إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب أرسلني إليكم"(خر 3: 15).
فقولـه: "يهوه إله آبائكم" إشارة للوحدانية، وقوله: "إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب" إشارة للأقانيم الثلاثة.
8 ـ البركة في العهد القديم: "يباركك الربُّ ويحرسك. يضئ الربُّ بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الربُّ وجه عليك ويمنحـك سلامًا. فيجعلون اسمي على بني إسرائيل، وأنا أباركهم" (عد 6: 24 ـ 27).
وتظهر الوحدانية هنا في قوله "اسمي"، و"أنا أباركهم" ويظهر الثالوث القدوس من تكرار الرب ثلاث مرات، ومن الواضح أن المقصود بـ "يباركك الرب ويحرسك" أقنوم الآب، لأن الآب هو مصدر كل بركة وحارس الكل، والمقصود بـ "يضئ الرب بوجهه عليك ويرحمك" أقنوم الابن، والدليل على هذا قول "الرب يسوع" عن نفسه: "النور قد جاء إلى العالم"(يو 3: 19)، وقال أيضًا "أنا هو نورُ العالم" (يو 8: 12) "ما دمت في العالم فأنا نور العالم "(يو9: 5)، والمقصود بقوله: "يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا" أقنوم الروح القدس مانح السلام والمعزّي والمريح والمعين والشفيع.
9ـ قول داود النبي: "روح الرب تكلم بي وكلمته على لساني"(2 صم 23: 2)، فنجد فيها أقنوم الروح القدس "روح الله "، وأقنوم الآب "الله " وأقنوم الابن " كلمته ".
10ـ قال "المرنم": "بكلمة الرب صُنِعت السموات، وبنسمة فيه كل جنودها" (مز 33: 6).
ففي هذه الآية نرى فيها أقنوم الابن "كلمة الرب" وأقنوم الآب "الرب" وأقنوم الروح القدس "بنسمة فيه".
11ـ "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك... مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج"(مز 45: 6، 7).
وهنا نجد أقنوم الابن الجالس على العرش والممسوح من الآب ويلقبه بلفظ الجلالة "يا الله " وأقنوم الآب الماسح الابن "مسحك الله "، وقد تمت المسحة بالروح القدس.
12ـ "قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك" (مز 110: 1). فداود النبي الذي يعتقـد ويؤمن بوحدانيـة الله يذكر هنا أقنومي الآب "الرب" وأقنوم الابن " لربي ".
13ـ "يا رب... أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب "(مز 139: 1، 7) ويذكر هنا داود النبي أقنوم الآب " يا رب "، وأقنوم الروح القدس "روحك"، وأقنوم الابن " وجهك " لأن الابن هو صورة الآب.
14ـ "أنت إلهي. روحك الصالح يهديني في أرض مستويةٍ "(مز 143: 10).
وهنا نرى أقنوم الآب "إلهي" وأقنوم الروح القدس "روحك".
15ـ" لما ثبَّت السمَوات كنت هناك أنا. لما رسم دائرة على وجه الغمر... كنت عنده صانعًا"(أم 8: 27 ـ 30).
فعندما ثبت "الآب" السموات كان هناك "الابن" خالقًا لأن الآب خلق كل شيء بالابن، ووهب الحياة بروحه القدوس.
16ـ "مَنْ صَعِدَ إلى السموات ونزل؟ مَنْ جمع الريح في حفنتيه؟ مَنْ صرَّ المياه في ثوبٍ؟ من ثبت جميع أطراف الأرض؟ ما اسمه؟ وما اسم ابنه إن عرفت؟ "(أم 30: 4)، وهنـا نجـد الإشارة لوحدانيـة الله لأنـه يذكـر الأفعال بصيغة المفرد "صعد" و"نزل "، و"جمع "، و"ثبت" ثم نجد الإشارة للثالوث القدوس فيشير للآب "ما اسمه"، ويشير لأقنوم الابن "وما اسم ابنه".
وجاء في بعض التقاليد اليهودية أن معلمي اليهود اعتادوا أن يلقوا هذه الآية على مسامع تلاميذهم في صورة أسئلة ليتبينوا من الإجابة عليها مبلغ اعتقادهم في الله جلَّ شأنه، فيقولون لهم: من صعد إلى السموات ونزل؟ فيجيبونهم: الخالق. ثم يسألونهم: من جمع الريح في حفنتيه؟ فيجيبونهم: الخالق. ثم يسألونهم: من صرَّ المياه في ثوب؟ فيجيبونهم: الخالق. ثم يسألونهم أيضًا: من ثبَّت جميع أطراف الأرض؟ فيجيبونهم: الخالق. ثم يسألونهم: وما اسمه؟ فيجيبونهم: يهوه العظيم. ثم يسألونهم أخيرًا: وما اسم ابنه؟ فيجيبونهم في وقار قائلين: هذا سر يفوق العقول (القمص ميخائيل مينا ـ علم اللاهوت جـ 1 ص 177).
17ـ في رؤيا إشعياء النبي، رأى: "السيد جالسًا على كرسي عال ومرتفعٍ، وأذياله تملًا الهيكل. السَّرافيم واقفون... وهذا نادى ذاك وقال: قدوس، قدوس، قدوس رب الجنود. مجده ملء كل الأرض" (إش 6: 1 ـ 3).
فالإشارة للوحدانية واضحة في أن الجالس على العرش واحد لا أكثر، والإشارة للتثليث واضحة في تثليث التقديس... قدوس أيها الآب... قدوس أيها الابن... قدوس أيها الروح القدس. أو بتعبير آخر قدوس وجودك يا الله... قدوس عقلك وحكمتك يا الله... قدوس حياتك يا الله... وفي نفس الرؤية نجد إشارة أخرى للتوحيد والتثليث "ثم سمعت صوت السيد قائلًا من أرسل ومن يذهب من أجلنا " فالوحدانية واضحة في "صوت السيد" والتثليث واضح في "من أجلنا".
18ـ "أنا هو. أنا الأول وأنا الآخر... لم أتكلم من البدء في الخفاء. منذ وجوده أنا هناك والآن السيد الرب أرسلني وروحه"(إش 48: 12، 16).
فالمتكلم هنـا أقنوم الابن، ويظهر أقنوم الآب من قوله: "من وجـوده" أي منذ وجود الآب أي من الأزل، والأقنوم الثالث واضح في قوله: "وروحهُ".
19ـ "روح السيد الـرب علىَّ. لأن الرب مسحني لأبشـر المساكين "(إش61:1).
والإشارة هنا للثالوث القدوس واضحة، فأقنوم الروح القدس "روح السيد الرب "هو الذي مسح الابن، وأقنوم الآب هو "السيد الرب"الذي مسح الابن بروحه القدوس، وأقنوم الابن هو الممسوح من الآب بالروح القدس "مسحني".
20ـ "ها أيام تأتي، يقول الرب، وأقيم لداود غصن برّ، فيملك ملك وينجح، ويجري حقًا وعدلًا... وهذا هو اسمه الذي يدعونه به: الربُّ برُّنا"(إر 23: 5).
وهنا نرى أقنوم الآب يتكلم " وأقيم " وأقنوم الابن الذي أشار إليه " هذا هو اسمه... الربُّ برُّنا ".
21ـ في رؤيا "دانيال" عاين الآب والابن: " كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن الإنسان آتى وجاء إلى القديم الأيام، فقرَّبوه قدامه. فأعطى سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة... سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض" (دا 7: 13، 14). فأقنوم الابن هو " مثل ابن الإنسان" في حالة تجسده، وهو الذي تتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة وسلطانه، أبدي وملكوته أبدي، وأشار إلى أقنوم الآب بـ"القديم الأيام".
22ـ قال الرب لهوشع: "وأمَّا بيت يهوذا فأرحمهم وأخلصهم بالرب إلههم "(هو1: 7).
فالمتكلم هو أقنوم الآب والمخلص هو أقنوم الابن الرب إلهنا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/trinity-and-unity/old-testament-vague.html
تقصير الرابط:
tak.la/jr8r6zx