س1: ما هي جذور وصورة الصليب في التاريخ؟
ج:
جاء ذِكر الصليب في العهد القديم في الأحداث التالية:
1ـ في القرن العشرين قبل الميلاد عندما صَلبَ فرعون رئيس الخبَّازين كقول يوسف له "في ثلاثة أيام أيضًا يَرفع فرعون رأسك عنك، ويُعلّقك على خشبةٍ، وتأكل الطيور لحمَكَ عَنك" (تك 40: 19).
2ـ في القرن الخامس عشر قبل الميلاد عندما أمر الرب موسى بصلب رؤساء بني إسرائيل بسبب زنا الجماعة مع بنات موآب "فقال الرب لموسى خُذ جميع رؤوس الشعب وعلّقهم للرب مُقابل الشمس، فيرتَدّ حُمُوُّ غَضَب الرب عن إسرائيل" (عد 25: 4).
3ـ صَلبَ يشوع لملك عاي: "ومَلِك عاي علَّقه على الخشبة إلى وقت المساء" (يش 8: 29).
4ـ صلب يشـوع للملوك الخمسة بعد موتهم "وضَرَبهم يشوع بعد ذلك وقتَلهم وعلَّقهم علـى خَمْس خَشبٍ، وبقوا مُعلَّقين على الخشب حَتى المساء" (يش 10: 26).
5ـ موافقة داود على صلب سبعة من أبناء شاول بيد الجبعونيين انتقامًا من أبيهم الذي قتل كثير منهم، فقال الجبعونيين لداود "فلنُعطَ سبعة رجال من بنيه فنصلِبَهم للرب في جبعَةِ شاول مختار الرب. فقال الملك أنا أُعطيَ.." (2صم 21: 6 ـ 9).
6ـ عندما صدر أمر الملك داريوس ببناء بيت الرب قال عن المقاومين "وقد صَدَر مني أمْرٌ أنَّ كل إنسانٍ يُغَيِّر هذا الكلام تُسحَب خشبَةٌ من بيتِهِ ويُعلَّقُ مصلوبًا عليها" (عز 6: 11).
7ـ صلب الملك أحشويرش لبغثان وترش خصيا الملك لأنهما تآمرا عليه "فَفُحِصَ عن الأمر ووُجِدَ فصُلِبا كلاهما على خشبةٍ" (أس 2: 23).
8ـ صُلِب هامان على الصليب الذي أعدَّه لمردخاي: "فقال حَرْبونا، واحد من الخِصيان الذين بين يدي المَلِك: هوذا الخشبَة أيضًا التي عَمِلها هامان لمُردخاي الذي تكلّم بالخير نحو الملك قائِمَةٌ في بيت هامان، ارتفاعُها خمسون ذراعًا. فقال المَلِك: اصلِبوه عليها. فصَلبـوا هامـان علـى الخشبةِ التي أعدَّها لمردخاي" (أس 7: 9، 10).
9ـ صَلب أبناء هامان العشرة بعد قتلهم حسب طلب أستير "ويَصْلبوا بني هامان العشرَة على الخشبَةِ. فأمَر المَلِك أن يَعمَلوا هكذا" (أس 9: 13، 14).
10ـ صلب اسكندر بن هركانوس لثماني مائة فريسي.
وكان الصليب علامة اللعنة، ولذلك أوصى الرب إن حُكِم على إنسان مجرم بالقتل، وبسبب بشاعة جُرمه عُلِّق على الصليب فلا تبت جثته لليوم التالي "وإذا كان على إنسان خطية حَقُّها الموت، فقُتِل وعلَّقتَه على خشبةٍ. فلا تبت جُثَّتُهُ على الخشبةِ بل تَدفِنُهُ في ذلك اليوم. لأن المُعلَّق ملعون من اللَّه. فلا تُنجِّس أرضَكَ التي يُعطِيكَ الرب إلهُك أيضًا" (تث 21: 22، 23).
ووردت كلمة "صليب" في الأصل اليوناني بمسميّين الأول "أستاوروس" STAUROS، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وهي التي وردت في الأناجيل أثناء صلب السيد المسيح، وكذلك في بعض رسائـل بولس الرسول، والثاني بِاسم "أكسيلون" XYLON ومعناها: "خشبة" أو "شجرة" والمقصود بها خشبة الصليب، فقال بولس الرسول: "مَلعُون كل من عُلِّق على خشبةٍ" (غل 3: 13) وقال بطرس الرسول: "إله آبائنا أقام يسوع الذي أنتم قَتلتُموه مُعلِّقين إيَّاه على خشبةٍ" (أع 5: 30) "الذي حَمَل هو نفسُهُ خطايانا في جَسَدِه على الخشبَةِ" (1بط 2: 24) فمن قِبل شجرة معرفة الخير والشر سقط آدم ونفي من الفردوس وحُرِم من الأكل من شجرة الحياة، ومن قِبَل شجرة الصليب أعاد آدم الثاني الإنسان المطرود إلى الفردوس المفقود بل رفعه إلى الملكوت.
قال "هيرودوتس": "إن أول من أستخدم الصليب هم الفينيقيون الذين استخدموا طريقة الموت صلبًا" (Herodatus 3: 125) وقال البعض أن الفرس هم أول من اخترعوا طريقة الموت صلبًا، ومن الثابت من الكتاب المقدس أن المصريين استخدموا الموت صلبًا منذ القرن العشرين قبل الميلاد، واستخدمها اليهود من القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وكانت فلسفة الصلب أن المُجرِم لو مات على الأرض فإنه سينجسها بآثامه، ولذلك يتركونه يموت في الهواء، وتنهش الطيور الجارحة جسده، وانتقلت عقوبة الصلب إلى الرومان ولكنهم اقتصروها على العبيد، والقتلة، وقطّاع الطريق، وقراصنة البحار، ومثيري الفتنة، والقادة الرومان الذين تعرضوا للهزيمة في المعارك، والأشخاص الذين لا يتمتعون بالجنسية الرومانية، وعندما كان أحد القادة الرومان يحاصر مدينة وتقاومه، فإنه كان يُهدّد سكانها بحكم الصلب فيسرعون بتسليم مدينتهم خوفًا من هذه الميتة البشعة.
وعندما قاوم أهل صور الاسكندر الأكبر ورفضوا تسليم مدينتهم، فلكيما يمعن في معاقبتهم وإذلالهم بعد أن أخذ مدينتهم أمر بصلب ألفين من خيرة الرجال المدافعين عن المدينة (Cartius Rufus Historia Alexandri 4: 4,17) (1) كما يذكر أريان Arrian أن الإسكندر الأكبر عندما افتتح الهند صَلبَ الأمير الهندي "موزيكانوس" في بلده، ومعه كل البراهمة (رجال الدين الهندوسي) الذين حرَّضوا الشعب الهندي على مقاومته، وفي ثورات العبيد قام سبارتكوس Spartacus بصلب أسير روماني أمام العبيد رفقائه كمثال عملي لما سيحدث لهم لو كفّوا عن القتال وفشلت ثورتهم، وفعلًا بعد أن فشلت هذه الثورة حكم "بومبي" على ستة آلاف عبد منهم بالصلب، حتى سيج "كراسوس" القائد الروماني الطريق من كيبوا إلى روما بالصلبان، وحكم أوغسطس قيصر سنة 139 ـ 132 ق.م. على مئات من عبيد صقلية بالصلب بعد تمرُّدهم عليه، وعند موت هيرودس الكبير حكم "فاروس" حاكم سوريا على ألفين من الثوار بالصلب. أما ما حدث في أورشليم سنة 70م فقد كان أمرًا يفوق الوصف، فبسبب المقاومة الشديدة لليهود حكم تيطس الروماني بصلب الآلاف منهم، حتى غطّى التلال التي تحيط بالمدينة بغابة من الصلبان، فكانوا يصلبون كل يوم خمسمائة رجلًا من أشداء المدينة، ويقول يوسيفوس المؤرخ اليهودي: "إن عقوبة الصلب أُوقفت بسبب ندرة الأخشاب التي اُستخدمت في صنع الصلبان والمتاريس والسلالم للصعود للتلال" وعندما أدرك المدافعون (اليهود) أنه لا جدوى من استعطاف الرومان سلّموا أنفسهم، وقام الجنود الرومان بجلدهم أولًا، وبعد أن عذّبوهم بأنواع مختلفة من العذاب، وقبل أن يموتوا صلبوهم عند أسوار المدينة. وتأسف تيطس على هؤلاء لأن عددهم كان يزيد كل يوم حتى وصل إلى خمسمائة شخص في اليوم الواحد. أمَّا الجنود فأنهم بوحشية وكراهية قدَّموا هؤلاء الأسرى ودقوا المسامير في أجساد الذين أسروهم وصلبوهم في أوضاع مختلفة على صلبان متنوعة، وكان عددهم عظيمًا فلم يكن لدى الجنود مكان يسمح بصلبان أخرى بل لم يعد لديهم صلبان لأجساد الأسرى (Antiquitates 17: 295 - De Bello Judico S. 449 - 51)(2).
وكان القانون الروماني يدعو الثوار بأنهم عصابات أو لصوص، وأحيانًا كان الثوار يتقدمون للصلب وهم ينشدون الأغاني الوطنية كما حدث مع ثوار مقاطعة "Cantabrians" بشمال أسبانيا، الذين ظلوا يرددون أناشيد الانتصار وهم معلَّقون بالمسامير على الصلبان، وفي الوقت نفسه تركت لنا الآثار ما يشير للسخرية بالمصلوب، فقد حفر صبي صغير على حجر جيري صورة شخص مصلوب له رأس حمار وكتب: "الإله الذي يعبده الكسيمانوس" ورسم آخَر شخص يحمـل صليبًا ولسانه يتدلى من التعب (راجع الصلب والصليب حقيقة أم خرافة ص 60، 61).
في البداية كانوا يربطون يدي المصلوب بالقائمة الأفقية للصليب، ويسمرون القدمين، فكان المصلوب يستغرق وقتًا طويلًا حتى يموت، ولا سيما أنهم كان يُثبّتون قطعة خشب على القائمة الرأسية يدعونها "السرج" ليرتكز عليها المصلوب، فيستطيع أن يتنفس، ولكنه يموت من العطش والنزيف والجوع والتهابات الجروح، فكان المصلوب يظل أحيانًا لمدة أسبوع كامل مُعلَّق على الصليب حتى تنتهي حياته، وفي هذا يُترك لنهش الطيور الجارحة والحيوانات الضارية، ويقول المؤرخ الروماني "Horace": "كانت النسور تسرع من جثث الماشية والكلاب والصلبان حاملة لحم الموتى إلى أعشاشها لكي تطعم صغارها" (Satires 14. 77)(3).
ثم تطورت عملية الصلب إلى تسمير القدمين وأيضًا الرسغين وذلك للتعجيل بموت المصلوب، فكان المصلوب يمكث فترة قد تصل إلى ثلاثة أيام، ولذلك كانوا أحيانًا لا يثبتون "السرج" فيعاني المصلوب آلامًا رهيبة في عملية التنفس تنتهي بموته. أما إذا أرادوا إنهاء حياة المصلوب خلال ساعة واحدة فأنهم يكسرون ساقيه فيتعرّض لنزيف حاد يُؤدي بحياته.
وكان المصلوب قبل تنفيذ حكم الصلب يُسلِّمونه للجلاّدين فينزعون عنه ثيابه، ويشدون وثاقه إلى عمود صغير ليأخذ جسمه وضع الانحناء، ويجلدونه بالسياط الرومانية المضفورة من أوتار الثيران، ويتكون السوط من ثلاثة فروع ينتهي كل فرع بقطعتين من العظم أو الرصاص، وكان الجَلد يبعث السرور في أنفس الجنود الرومان الذين يستعبدون الشعوب ويذلونهم في شخص المحكوم عليهم بالصلب، فكان يقوم بعملية الجَلد غالبًا اثنان من الجنود الأقوياء اللذان يحرضا بعضهما البعض لينالا من المحكوم عليه بالصلب حتى إن أمكن تنغرس قطع الرصاص أو العظم في الأحشاء وتقطع الأمعاء، ولذلك كان كثيرون يموتون من مجرّد الجلدات، أما الإنسان الشقي فيمتد به العمر فيعلقون في رقبته لوحة مدوَّن عليها سبب موته باختصار إن كان قتل، أو خيانة، أو فتنة... إلخ، ويحمل المصلوب الخشبة الأفقية ويخرج بها إلى خارج المدينة، والجنود يحرسونه ويحرصون على أن يسيروا به في أشد الشوارع ازدحامًا، ويصلبونه على تل مرتفع ليكون عِبـرة لجميع الناظرين إليه، ومن حق الجنود اقتسام ثياب المصلوب، ولأن يسوع الناصري كان شخصية هامة جدًا لذلك تولى حراسته وهو في طريقه للجلجثة عدد كبير من الجنود مع قائد المائة، ولكن الذين قاموا بعملية الصلب واقتسموا ثيابه هم أربعة جنود فقط.
كان هناك صلبان للعامة وهي ما عُرفت بِاسم "كروكس هوميليس" حيث تبلغ القائمة الرأسية ستة أقدام تكفي أكثر الرجال طولًا مع جعل الركبتين في وضع منحني، وكان هناك صلبان للشخصيات البارزة وهي ما عُرفت بِاسم "كروكس سيليموس" وكانت القائمة الرأسية أكثر طولًا، والصليب أكثر فخامة. أما شكـل الصليب فكان له ثلاث أشكال أولها على شكل T (Crus Commissa) والثاني على شكل عارضتين متقاطعتين (Thecrus immissa) وهو الذي صُلِب عليه السيد المسيح، ولذلك وضعوا فوق رأسه علته مكتوبة: "هذا هو ملك اليهود" بالعبرية واليونانية واللاتينية. أما النوع الثالث فأخذ شكل X (Crux decusta) ويدعى "صليب أندراوس"، لأنه صُلِب عليه أندراوس الرسول، وجرت العادة على صلب الرجال ووجوههم للجماهير، أما النساء فكن يُصلبن وظهورهن للجماهير، ومن النساء اللاتي اعتلين خشبة الصليب "مورا" عروس الشماس المصري "تيموثاوس" الذي صُلِب أيضًا نتيجة تمسكهما بالكتب المقدَّسة التي في حوزتهما.
قال خطيب روما الشهير "شيشرون" عن عقوبـة الصليب: "هي من أخسّ وأقسى العقوبات، وكان لا يُنفّذ (الصلب) إلاَّ في أشر المجرمين وألد الأعداء، ولذلك لكي تطول مدة عذابهم. لذلك كان كل من يُصلَب من البشر يتمنى الموت بأقصى سرعة، لكن هيهات أن تتحقق أمنيته. ومن ثم كان يرزح تحت آلامه المبرحة يومًا أو أكثر من يوم، حتى يقبل إليه الموت وينقذه" (4) وقال أيضًا شيشرون عن تأثير عقوبة الصلب على الناس: "العدو المخيف الذي يرعب كل الناس الصالحين هو الصلب والتعذيب الذي يرافقه" (philippicae 3: 21)(5) كما قال: "يجب ألا ترد كلمة الصليب على شفاه مواطني روما، بل يجب ألا تخطر على بالهم، أو تمر أمام عيون خيالهم، أو تطرق مسامعهم" (6) وأخيرًا قال: "يجب أن يبعد الصالب واسم الصليب ليس فقط من أجساد الرومانيين بل من أفكارهم وأعينهم وآذانهم. لأن كل هذه الأشياء ليس وقوعها فقط بل إمكان وقوعها وانتظاره وذكره مما يعيب كل روماني وحـرّ"(7).
وقارن سقراط بين الهرب من الصلب، وبين الحكم المستبد، فتساءل قائلًا: "إذا قُبض على رجل بجريمة التآمر على الحرية ومحاولة تنصيب نفسه حاكمًا وطاغية وهو ما يجعله عرضة للتعذيب بقطع جسده وحرق عينيه وتعذيب زوجته معه ثم أولاده بعذابات متنوعة، ثم بعد ذلك يُصلب أو يُحرق. والسؤال هو: هل هذا الرجل أكثر سعادة إذا هرب أم إذا استطاع أن يصبح طاغية ويعيش حتى آخِر يوم في حياته يحكم؟" (Gorgias , 473 - C)(8). وناقش تلميذه أفلاطون نفس الفكر في كتابه الجمهورية. كما قارن الشاعر والفيلسوف "سنيكا" Seneca بين موت الصليب والموت الآخَر فقال: "موت كل عضو على حدة، أو أن تنسكب الحياة قطرة قطرة، هل هذا أفضل أم الموت مرة واحدة؟ هل يوجد شخص يرغب حقًا في أن يُعلّق على خشبة اللعنة، يموت في بطء ويتشوّه كيانه المشوّه والجروح القبيحة على كتفيه وصدره (نتيجة الجلدات) ومنه تخرج نسمة الحياة مع كل شهقات الألم"(9). والمؤلف اليوناني "مانيتو" Manetho في كتابه "تفسير الطالع والحظ" وصف عقوبة الصلب قائلًا: "عقوبة تؤدي إلى شد أعضاء الجسم والخشبة هي المصير الأخير، تدق في أجسادهم المسامير، حتى تجيء النهاية المرة، طعام رديء للطيور آكلة اللحوم والنسور، والكلاب المتوحشة الجائعة" (Apotelseomatic a, 4: 198)(10).
_____
(1) الصلب والصليب حقيقة أم خرافة ص 78.
(2) الصلب والصليب حقيقة أم خرافة ص 32.
(3) المرجع السابق ص 73.
(4) عوض سمعان ـ كفارة المسيح ص 149.
(5) الصلب والصليب حقيقة أم خرافة ص 67.
(6) جوش مكدويل ـ برهان يتطلب قرارًا ص 243.
(7) القس شنوده حنا ـ الصليب ص 24.
(8) الصلب والصليب ـ حقيقة أم خرافة ص 34.
(9) المرجع السابق ص 36.
(10) المرجع السابق ص 54.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/cross/origins.html
تقصير الرابط:
tak.la/d76tw62