وبعد جوستن الأول تولى جستنيان الأول (527-565) الخلقيدوني أيضًا الذي استهل حكمه بأعمال حسنة إذ شيَّد الكنائس وأقام الفنادق للسائحين والملاجئ للعجزة والأيتام والمستشفيات للمرضي وجدَّد بعض المدن ووزع أموالًا كثيرة، وأراد أن يعيد للإمبراطورية الرومانية مجدها ولهذا صمم على إعادة الوحدة للكنيسة كخطوة أولى، ولكنه فيما هو يسعى لهذه الوحدة ارتكب المذابح العتيدة والأخطاء القاتلة فأضعف الإمبراطورية كثيرًا، ومع أن زوجته " ثيؤدورة " كانت أرثوذكسية إلاَّ إنه خلع البطاركة والأساقفة الأرثوذكس، وعيَّن بطاركة دخلاء في الإسكندرية وأنطاكية والقسطنطينية، وحكم على الإكليروس الأرثوذكسي بالنفي، ولم يسمح أن يرتقى أحد للأسقفية إلاَّ إذا وقَّع على قرارات مجمع خلقيدونية فذاق الأرثوذكس على يديه الكثير والكثير...
وبعد نياحة الأنبا تيموثاوس الثاني (32) أقام الشعب "ثيؤدوسيوس" البابا رقم (33)، ولكن أصحاب عقيدة الطبيعتين أقاموا رئيس شمامسة يُدعى " داقيانوس " بطريركًا، وأوعزوا إلى الوالي فنفى البابا ثيؤدوسيوس إلى قرية مليج... ثار الأقباط ولجأوا إلى الإمبراطورة التي أخبرت زوجها بأن والي الإسكندرية نفى البابا ثيؤدوسيوس بدون علمه، ففرح الإمبراطور بهذا، ولكن لكيما يرضي زوجته منحها حرية التصرف في الأمر، فأرسلت رسلًا أعادوا البابا إلى كرسيه بعد أن تأكدوا أنه هو البابا الصحيح المرشح من قبل الكنيسة، وعندئذ ندم داقيانوس وأعترف بخطأه، فأبقاه البابا ثيؤدوسيوس رئيسًا للشمامسة على أن يُسام أسقفًا عندما يخلو كرسي أسقفي.
وكتب البابا يشكر الملك والملكة فأرسل الملك إليه يطلب منه قبول طومس لاون ومقابل هذا سيمنحه الرئاسة الدينيَّة والمدنيَّة أيضًا في الإسكندرية، وسيقيمه رئيسًا على جميع أساقفة افريقيا وإلاَّ فليخرج من البيعة ويذهب إلى حيث يشاء، ولما سمع البابا رسالة الملك رفض هذا العرض وقال "بالحقيقة أحرم طومس لاون ومجمع خلقيدونية وكل من يعترف به فهو محروم من الآن إلى لا بُد " وترك الإسكندرية وذهب إلى الصعيد يعلم الناس والرهبان ويثبتهم على الإيمان ويشجعهم على الصبر والجهاد (راجع تاريخ البطاركة - سيرة البابا ثيؤدوسيوس ص463)، فأرسل الملك إليه ثانية من يلاطفه ويدعوه للقاء الإمبراطور للمناقشة، فأخذ الأنبا ثيؤدوسيوس وفدًا معه إلى القسطنطينية حيث لاقاه الإمبراطور بالترحاب، والتقى معه ست مرات وأكرم وفادته، وأخيرًا طلب منه أن يقبل طومس لاون ومجمع خلقيدونية، وعندما رفض بشدة أمر بنفيه واعتقاله في قلعة ديركوس، وأضطهد رؤساء الأديرة الذين يؤازورنه بصلواتهم، وأمر مينا بطريرك القسطنطينية الخلقيدوني فأقام بولس التينيسي بطريركًا دخيلًا على الإسكندرية، الذي رغم اضطهاداته المريرة للشعب المصري حتى أنه القى البعض منهم في مستوقدات الحمامات (32) إلاَّ أن الشعب لم يقبله بل دعوه باسم " يهوذا الجديد"، فاشتكى للإمبراطور الذي أمر بغلق جميع الكنائس فصار الشعب في حزن وغم لمدة عام لا يجدون كنيسة يصلون فيها، وأخيرًا تشجعوا وبنوا كنيسة الأنجيليون وكنيسة قزمان ودميان، ولكن الإمبراطور أمر بالاستيلاء عليهما وتسليمهما للروم الأرثوذكس، وسعت الإمبراطورة ثيؤدورا الأرثوذكسية لدى الإمبراطور فعزل بولس التينيسي وعين زويل Zoil الذي. تولى كرسيه في حماية الجند وعزل سنة 551م، وتم تعيين ابوليناريس الذي منحه الإمبراطور السلطة المدنية بالإضافة للدينية فكانت سابقة خطيرة إذ حضر في ذي قائد وسط حراسة مشدَّدة، وفوجئ به الشعب يخلع ذيه العسكري ويرتدى زى البطاركة (33) واضطهد الشعب اضطهادًا مريرًا حتى أن كثير من الشعب هرب إلى الأديرة بصحراء الأسقيط.
وعندما تنيح البابا ثيؤدوسيوس بعد أن أمضى ثمان وعشرين سنة في سجنه صنع البطريرك الدخيل وليمة عظيمة لعله يستميل الأقباط إليه، ولكنه ظل مرفوضًا منهم... تشتَّت الأساقفة الأرثوذكس ومُنِعوا من دخول الإسكندرية وأنطاكية فاحتار الشعب إذ كيف يقيمون بطريركًا لهم، فأشار إليهم والي الإسكندرية أريستوماخوس الذي كان يحب المصريين بالتوجه إلى أحد الأديرة خارج الإسكندرية كأنهم ينوون الصلاة ويقيمون بطريركًا لهم في السر، وفعلًا توجه الشعب إلى دير الزجاج وأحضروا ثلاث أساقفة فأقاموا البابا بطرس الرابع رقم (34) الذي انتقل بعد سنتين، فأقاموا بعده البابا دميانوس رقم (35)، وفي هذا العصر قام القديس يعقوب البرادعي برسامة نحو مائه ألف كاهن وشماس وعشرين أسقفًا في سوريا ومابين النهرين وكان من المدافعين العظماء عن عقيدة الطبيعة الواحدة.
ومما يذكر لجستنيان أنه بفضل الإمبراطورة ثيؤدورة والأنبا ثيودورس أسقف قيصرية أصدر مرسومًا أدان فيه ثلاث من أقطاب النسطورية وهم ثيؤدوريت أسقف كورش وثيؤدورس أسقف مسبستيا (الميصة) وهيبا أسقف الرها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وهذا ما سُمى في التاريخ بالفصول الثلاثة، ولنا عودة لهذا الموضوع أثناء الحديث عن مجمع القسطنطينية الثاني وهو ما يدعوه الأخوة الكاثوليك بالمجمع المسكوني الخامس، وقضى جستنيان الأول على الوثنية كما بنى دير سانت كاترين (* كان دير سانت كاترين تابعًا للكنيسة المصرية فاستولى عليه جستنيان وحوَّله إلى قلعة حربية للدفاع عن حدود مصر، ووضع حوله حامية بيزنطية، وأحضر الإمبراطور لها قبيلة مسيحية من اليمن لخدمة هذه الحامية، فعاش بعض الجنود البيزنطيين كرهبان في الدير، وعندما دخل العرب مصر أمَّنوا رهبان الدير، وفيما بعد أسلم عدد كبير من القبيلة اليمنية وهم العرب العاملون في الدير اليوم) في سينا وكان يدعى سابقًا دير الاستحالة (من استحالة الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمه Transubstantiation) وبنى أيضًا الحصن في كل من دير الأنبا انطونيوس، ودير الأنبا بولا، ولكنه كان متمسكًا بمجمع خلقيدونية وفشل في إحلال السلام في ربوع البلاد بل حدثت في عصره قلاقل ومذابح، وجعل لمصر حاكمان إحداهما على الإسكندرية والوجه البحري والآخر على صعيد مصر بهدف التخفيف عن كاهل الحاكم الواحد، ولكن هذا الأمر أدى إلى التنافس والصراع بين الحاكمين، وضعفت الإدارة والسيطرة على البلاد وحمايتها.
_____
(32) أورده رشدى واصف في تاريخ الكنيسة القبطية فيما بعد خلقيدونية ص33 - Maspero: Histore des Patriarches,d, Alexandrie, P.144
(33) أورده رشدى واصف في تاريخ الكنيسة القبطية فيما بعد خلقيدونية ص34 - Hardy: Christan Egypt.P.145
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/catholic/justinian-i.html
تقصير الرابط:
tak.la/55q9j32