ج: أولًا: معنى الفلسفة: أول من أنشأ وأسَّس واستخدم مصطلح "الفلسفة" هو "فيثاغورث" في القرن السادس قبل الميلاد، عندما قال: "لست حكيمًا فإن الحكمة لا تضاف لغير الآلهة، وما أنا إلاَّ فيلسوف"(154). فكلمة "فيلسوف" أي مُحب الحكمة، وكلمة "فلسفة" Philosophy أي حب الحكمة، وفي اللغة اليونانية. وتبحث الفلسفة عن المعرفة وتفسير الوجود والعقل والقيم واللغة والاستدلال، ويشمل الأسلوب الفلسفي النقاش النقدي والاستجواب واستخدام الحجج المنطقية والعرض المنهجي، ويهتم الفيلسوف بمناقشة ما يدور حوله مثل:
هل هناك طريقة أفضل للحياة في هذا العالم؟
هل الأفضل أن يكون الإنسان عادلًا أو غير عادل، ولا سيما إذا كان ممكنًا له أن يهرب من العقوبة؟
هل الإنسان لديه إرادة حرة؟
فالفلسفة تهتم بدراسة الواقع والوجود والسلوك، وكافة المعارف الإنسانية، ونستطيع أن نقول أن مصطلح "الفلسفة" يشير إلى أي مجموعة معارف، وبهذا ارتبطت الفلسفة ارتباطًا وثيقًا بالعلوم الطبيعية مثل الفلك والطب والفيزياء والرياضيات، وأيضًا ارتبطت بالعلوم الدينية، والعلوم السياسية... إلخ.، فقد انتهجت الفلسفة التفسير العلمي للظواهر عوضًا عن الأساطير، فمثلًا قوانين إسحق نيوتن التي وضعها سنة 1687م دُعيت: "الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية"، وغالبًا لا يخلو عنوان رسالة دكتوراه من كلمة "فلسفة"، وتقول "د. أميرة حلمي مطر": "يتضح مما سبق كيف ارتبطت الخبرة العلمية بالتفسير العلمي عند فلاسفة اليونان الأولين، إلاَّ أن إنجازهم في العلوم التجريبية لم يتعارض مع ميلهم إلى النظر العقلي المجرد الذي ظهر بوضوح في العلوم الرياضية. فقد كشف البحث في تاريخ الرياضة عند اليونان عن تقدم عظيم الشأن خاصة في القرنين الخامس والرابع ق. م... ومما يُنسب لهؤلاء اختراعهم للأشكال الهندسية التي ترمز للأرقام الحسابية، فمثلًا المثلث يشير للرقم ثلاثة، والمربع للرقم أربعة..."(155).
وقسَّم "شيشرون" قديمًا الفلسفة إلى المنطق، والفيزياء، والأخلاق. وقسَّم المؤرخ "ديوجين لايرتيوس" الفلسفة إلى:
1- الفلسفة الطبيعية (الفيزياء): تدور حول المفاهيم التي لها علاقة بالطبيعة.
2- الفلسفة الأخلاقية: تشمل علم الأخلاق الذي يهتم بقضية الخير، والخطأ والصواب، والعدالة، والفضيلة.
3- الفلسفة الميتافيزيقية: أي "المنطق" والتي تهتم بدراسة سر الوجود، والسببية، والأمور اللاهوتية والمنطق.
وقد اختلف هدف الفلسفة في بلاد الشرق عن بلاد الغرب، فكان هدف الفلسفة لدى الشعوب الشرقية، المصريين والبابليين والهنود تحقيق الفائدة والمتعة المادية الحياتية، مثل إعادة قياس الأراضي بعد إنحصار نهر النيل، وارتفاع الأهرامات، وطريقة بناء المعابد الضخمة، بينما سعت الفلسفة في بلاد الغرب نحو إستجلاء ألغاز الكون وأسراره، وقد جاء كبار فلاسفة اليونان إلى مصر وأعجبوا بحضارتها ونهلوا من علومها، ومن هؤلاء الفلاسفة العظماء طاليس، وفيثاغورث، وديمقريطس وأفلاطون وغيرهم. تقول "د. أميرة حلمي مطر": "فقد قدمت المدرسة الفيثاغورية أول بحث علمي في الفلك عام 523 ق.م واستطاع اليونان على مدى جيلين أو ثلاثة أن يستنتجوا من معلوماتهم في الفلك نتائج عن كروية الأرض ودورانها حول الشمس ونظريات أخرى كثيرة في الكسوف، وكذلك خلصوا علم الفلك من طابع الأساطير والتنجيم. عرف المصريون كيف يرسمون المثلث القائم الزاوية بواسطة حبل يعقدونه على ثلاث مسافات بنسبة 3: 4: 5 ولكنهم لم يضعوا النظرية التي توصَّل إليها فيثاغورس من أن مجموع زوايا المثلث تساوي قائمتين، وأن مجموع مربع الضلعين المكونين للزاوية القائمة يساوي مربع الوتر. يذكر ديمقريطس أنه (فيثاغورث) قد تفوق في الرياضيات على المصريين القياسين "عاقدي الحبال"..."(156).
ثانيًا: مدرسة الفلسفة الطبيعية (الأيونية) Natural Philosophy: قبل ظهور هذه المدرسة في آسيا الصغرى، وعندما كان الفكر اليوناني في المهد أو في مرحلة الطفولة برز بعض العظماء من المفكرين، مثل:
1- هوميروس: عاش في القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد، وكان شاعرًا فذًا ملحميًا ضريرًا أسطوريًا، ألف "الألياذة والأوديسة" تدور الألياذة حول حرب طروادة، والأوديسة تدور حول البطل المغامر أوديسيوس في أعقاب حرب طروادة، وقد حاول هوميروس أن يفهم الطبيعة وأن يفهم نفسه.
2- هزيود: الشاعر اليوناني الشهير في القرن الثامن قبل الميلاد، والذي تحدث عن الدين والأخلاق في جدٍ ووقار.
وبالطبع المجال لا يتسع للحديث عن مثل هذين العظيمين، ولكن نستطيع أن نقول أن نشأة الفلسفة كانت في "مقاطعة أيونيا" إحدى المستعمرات الإغريقية بآسيا الصغرى، ففيها وُلِدَت الفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد، حيث ظهر الاهتمام بالطبيعة وأصل الكون عن طريق مدرسة الفلسفة الطبيعية، أول مدرسة في تاريخ الفلسفة تبحث في الأسباب الطبيعية في الوجود بعيدًا عن الميافيزيقيا والماورائيات والظنون والتكهنات لرجال الدين، فأصبحت هذه المدرسة المقدمة الأولى لعلوم الطبيعة، الفلك والطب والفيزياء والرياضيات. ودعيت هذه المدرسة الطبيعية بالمدرسة المالطية نسبة إلى "مالطة"، وتقول "د. أميرة حلمي مطر: "ينتمي للمدرسة الملطية فلاسفة ثلاثة هم طاليس، وإنكسيماندريس، والكسيمانس، وقد تتلمذ اللاحق منهم على سابقه، واهتموا جميعًا بالبحث في الطبيعة وتلاقوا أيضًا في عنايتهم بالعلوم المعروفة في عصرهم وخاصة الرياضة (الرياضيات) والهندسة والفلك. وكانت لهم فضلًا عن ذلك اكتشافات ومخترعات أفادت فنون عصرهم. كذلك يجمعهم اتجاه واحد في الفلسفة هو الاتجاه المادي بمعنى أنهم تصوروا جميعًا أن الحقيقة العلمية والفلسفية للوجود لا بد أن تكون مادة:(157).
وبعد أن أُشتهرت مدرسة الفلسفة الطبيعية في مقاطعة أيونيا لحقتها مدرستان شهيرتان للفلسفة، وهي:
1- المدرسة الفيثاغورية: التي أسَّسها فيثاغورث عالِم الرياضيات الشهير الذي وُلِدَ في "ساموس" في مقاطعة أيونيا سنة 570 ق. م، ولنا عودة للحديث عنه بشيء من التفصيل.
2- المدرسة الإيلية: نسبة إلى مستعرة "إيليا"، وأسَّس هذه المدرسة "أكسانوفان" الذي وُلِدَ بالقرب من أفسس في منطقة أيونيا، ولنا عودة للحديث عنه.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
![]() |
ثالثًا: أشهر فلاسفة المدرسة الطبيعية: من أشهر علماء هذه المدرسة طاليس، وأنكسمندريس، وأنكسيماس، وقد نقل إلينا "أرسطو" أفكار هؤلاء العظماء الثلاثة، وقد أرجع طاليس أصل الكون للماء، بينما أرجعه أنكسمندريس للآمتناهي، وأرجعه أنكسيماس للهواء أما أصل الكون عند هيراقليطس فهو النار... إلخ. ونتحدث قليلًا عن هؤلاء الفلاسفة الثلاث:
1- Thales طاليس (624 - 546 ق. م): وُلِدَ طاليس من أسرة نبيلة ذات أصول ملكية في مدينة "ميليت" (مليتوس) في مقاطعة أيونيا بآسيا الصغرى، وانشغل طاليس بالسياسة والأخلاق، وكان ذو علم غزير، ويُعد أول فلاسفة اليونان كقول "أرسطو" وأحد الحكماء السبعة الذين جاء ذكرهم في محاورة بروتاجوراس مع أفلاطون، فهو أول من أنشأ الفلسفة اليونانية، تميَّز بالحكمة، ودُعي "الحكيم" وآمن بالوحدانية رافضًا تعدد الآلهة، وعمل كمهندس حربي في خدمة ملك ليديا بآسيا الصغرى، فكان يستطيع أن يحدد مسافة بُعد السفينة عن الشط من خلال برج مرتفع، ووضع تقويمًا لحساب الزمن للملاحين، واعتقد أن الأرض تشبه قرصًا مسطحًا قائمًا على قاعدة، وتنبأ بكسوف الشمس الكلي الذي حدث في 28 مايو 585ق. م قبل وقوعه، وحاول تفسير المغناطيسية، وبرهن على أن الزوايا المرسومة في نصف دائرة هيَ بالضرورة قائمة، وتجوَّل في بلاد الشرق وجاء إلى مصر وأخذ منها علم المساحة وعلم الهندسة، وقدم تفسيرًا لظاهرة فيضان نهر النيل والترسبات التي كوَّنت دلتا نهر النيل، ولعل هذا الأمر هو الذي دفعه أن ينسب أصل الكون للماء، فالماء الذي كوَّن دلتا النيل في مصر هو الذي كوَّن العالم، فقال هذا نتيجة للتفكير المنطقي وليس نقلًا عن الأساطير، قال أن الماء عندما يتبخر يصير هواء، وعندما يتكثف ويتحجر يصير صخرًا، وأن النار تتولد من إحتكاك الأجسام التي كانت في الأصل ماءًا. كما أن نشأة طاليس على شاطئ البحر طبع في ذهنه أهمية الماء وعظمته. يقول "الدكتور محمد غلاَّب": "أن نشأة "طاليس" على شاطئ البحر ومشاهدته لتصاعد الأبخرة وأفاعيل الضباب ولمعان البرق وسماعه اصطحاب الرغود وتوالي إنهمار الأمطار المشتملة على سائل المياه وجامدها. كل ذلك قد أضرم شعلة الذهن الذكي الذي منحته السماء لطاليس وأيقظت فيه طبيعة التفكير والبحث عن أسرار كل هذه الظواهر الكونية الغريبة فلم يجد شيئًا يمكن أن يكون أصلها جميعها أقرب من الماء، لأنه لم يشاهد حوله كائنًا أعظم منه"(158).
س: هل أخذ طاليس نظريته عن أصل الكون من التوراة؟
يقول "الدكتور محمد غلاَّب": "تؤكد الكتب العربية أن "طاليس" استوحى نظريته عن نشأة الكون من الماء ورجوع كل شيء إليه من تعاليم التوراة، أن الإله قد خلق كل شيء من الماء، وأن جميع فلسفته مستمدة من نور الوحي الإلهي، ولكن هذا غير صحيح، إذ لو كان طاليس قد ناله شيء من نور الوحي الموسوي لاهتدى إلى أن للكون مُنشئًا (خالقًا) عظيمًا"(159). وبعد أن أورد "د. محمد غلاَّب" رأي "الشهرستاني" الذي قال عن "طاليس" أنه قال: "إن للعالم مبدعًا لا تدرك صفته العقول من جهة جوهريته، وإنما يُدرك من جهة أثاره"(160). ثم عاد وشكَّك في شهادة الشهرستاني، فقال دكتور غلاَّب أن شهادته لا يُعتد بها لأنه في موضع آخر قال أن "أبيدوكل" (أمبادوقليس Empedocles) كان تلميذًا لداود النبي، بينما بينهما أكثر من خمسة قرون (راجع الفلسفة الإغريقية جـ1 ص113). والحقيقة أن ليس معنى خطأ الشهرستاني في معلومة أو أكثر يعني أن جميع أقواله فاسدة، ثم أن طاليس كان يؤمن بالوحدانية، ومن الجائز أن ما وصله هو جزء من أفكار التوراة، وليس الكل، ولذلك فإن الاحتمال ما زال قائمًا أن يكون فلاسفة اليونان أخذوا من الأسفار المقدَّسة.
2- Anaximander أنكسمندريس (610 - 547 ق. م): وُلِدَ في مدينة "ميليت" بأيونيا، نفس المدينة التي وُلِدَ فيها طاليس، بل أنه تتلمذ على يد طاليس، وتولى رئاسة المدرسة الملطية بعد وفاة معلمه طاليس، وقال أنكسمندريس أن الأرض عبارة عن جسم اسطواني يسبح في الفضاء، نسبة ارتفاعه إلى عرضه كنسبة 1: 3، واهتم بعلم الجيولوجيا والبحث عن أصل الكائنات الحية ولا سيما الإنسان من خلال الحفريات، وافترض أن الإنسان تولَّد من الرطوبة على شكل أسماك، ولذلك حرَّم الفيثاغوريون أكل الأسماك من هذا المنطلق، وبذلك وضع أنكسمندريس البذرة الأولى لنظرية النشوء والإرتقاء قبل "تشارلز داروين" بنحو 25 قرنًا، وفسَّر الرعد على أنه نتيجة لإنطلاق الهواء من السُحب بعد أن كان الناس يظنون أن الإله زيوس يهز صولجانه، ووضع كتابًا في الطبيعة لم يتبقَ منه سوى شذرة واحدة. كما أنه يُعد أول جغرافي في العالم وضع خريطة للعالم القديم مُظهرًا اليابس والبحار، فاستخدم الملطيون هذه الخريطة في الملاحة، واخترع آلة الظل "المزولة"، وأرجع أصل الكون إلى "اليهم" أو "اللامتناهي" أو "اللانهائي" حيث أن كل الأشياء تخرج منه وإليه تعود ثانية، وخالف معلمه طاليس الذي أرجع أصل الكون إلى الماء، مستبعدًا أن يكون الكون قد تكوَّن من مادة واحدة، كما خالف تلميذه "أنكسيمنديس" الذي أرجع أصل الكون للهواء، و"هيراقليطس" الذي أرجع أصل الكون للنار. ومن منجزات "أنكسمندريس" نظرية "العدالة والنظام"، فيقول عنه "د. محمد غلاَّب": "قرَّر هذا الفيلسوف أن كل كائن يشتمل على عناصر هذا النظام، فإذا تمشى مع طبيعة العدالة الكونية ظل حيًّا، وإذا انحرف عن هذه العدالة كانت عناصر النظام نفسها سبب تفكيكه كما كانت منشأ تكوينه. فبينما اقتصر البحث الفلسفي لدى "طاليس" على المادة تطرَّق "أنكسمندريس" إلى عنصر الخلود العادل، وجاءت نظريته العدالة والنظام كمقدمة لنظرية العقل العام الذي يتولى تنظيم وضبط كل شيء، أو بالخالق الأوحد، والمهندس الأعظم عند "أناجزاجور" ثم سقراط ثم أفلاطون"(161).
3- Anaksimans أنكسيمانس (588 - 524 ق.م): وُلِدَ "أنكسيمانس" مثل سابقية في مدينة "ميليت" (مليتوس) بأيونيا، وبذلك أنجبت لنا هذه المدينة الثلاثة العظماء من مدرسة الفلسفة الطبيعية، وتتلمذ على يد صديقه "أنكسمندريس"، وأرجع أنكسيمانس أصل الكون إلى "الهواء"، مخالفًا سابقيه طاليس الذي أرجع أصل الكون إلى "الماء"، وأنكسمندريس الذي أرجع أصل الكون إلى "اللامتناهي" وهنا تظهر عبقرية المفكر وحريته، فقال أصل الكون الهواء لأنه يمثل عنصر الحياة لكل الكائنات الحيَّة، وقال أن ما دعاه أنكسمندريس "اللانهائي" هو الهواء اللانهائي الذي تسبح فيه الأرض، والأرض على شكل قرص المنضدة المعلَّق في الهواء، كما قال أن "النفس" هيَ أيضًا هواء، وأشار إلى الآلهة يمكن أن تتوالد من الهواء، وأن الهواء هو الذي يحفظ للعالم توازنه، وهو أول من قال أن النجوم تدور في الفلك، واكتشف أن القمر يستمد نوره من الشمس، وعلَّل اختفاء الشمس بأن هناك جبالًا شاهقة تحجبها عن الأنظار، ودوَّن "أنكسيمانس" فلسفته في كتاب لم يتبقَ منه سوى شذرة واحدة، جاء فيها:
" إن الجوهر الأول واحد لا نهائي ولكنه محدَّد الكيف، أنه الهواء، منه نشأت الأشياء الموجودة والتي كانت والتي سوف تكون، ومنه أيضًا نشأت الآلهة وكل ما هو إلهي وتفرع باقي الأشياء"(162). واعتبر "أنكسيمانس" أن الكون كائن حي يتنفس الهواء فقال: "لأن النفس فينا هو مبدأ كياننا ووحدتنا كذلك الهواء يحوي العالم كله... يصف الهواء بقوله أنه يختلف عن العناصر المختلفة بواسطة حركتي التخلخل والتكاثف، وعندما يتخلخل فأنه يتحوَّل إلى نار وإذ تكثَّف صار ماءًا، وإذا تكثَّف الماء أكثر يتحوَّل إلى تراب، وإن زاد تكثفه صار صخرًا. ووصف أنكسيمانس الأرض بأنها تطفو على الهواء كدائرة مسطحة وكذلك الكواكب كما قال بعدد لا نهائي من الأكوان"(163).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
رابعًا: تقييم الشهيد يوستين لآراء الفلاسفة المتعارضة: قدم الفيلسوف يوستين عرضًا رائعًا لآراء الفلاسفة، ثم خلص إلى أن هؤلاء الفلاسفة الذين لم يستطيعوا أن يتفقوا على رأي وفكر واحد، يعجزون تمامًا عن أن يقدموا لنا طريق الخلاص، فقال: "وسوف ترون مدى سخافة فكرهم اللاهوتي... نبدأ أولًا بطاليس من مليتوس (Thales of Miletus) ذلك الدارس الرائد في مجال الفلسفة الطبيعية الذي ادعى أن أصل كل الأشياء الماء، وعلَّم أن كل الأشياء جاءت من الماء وأنها تعود أخيرًا جميعها إلى الماء. ثم شخص آخر من مليتوس أيضًا يُدى أناكسيمندر (Anaximander) قال أن مبدأ الأشياء... هو اللا محدود الذي منه نشأ كل شيء وإليه يعود كل شيء. ثم جاء ثالث من مليتوس أيضًا يُدعى أناكسيمينس (Anaximenes) الذي ظن أن الهواء هو الأصل الذي منه نشأ كل شيء وإليه تنحل كل الأشياء. أما هيراكليتس (Heraclitus) وهيباسيوس (Hippasus) كلاهما من ميتابونتس (Metapontus) فقالا أن النار هيَ العلة الأولى التي منها يأتي كل شيء وإليها ينتهي كل شيء. ثم أكد أنكسجوراس من كلازومناي (Anaxagoras of Clazomenae) أن الجزئيات المتجانسة هيَ أصل كل الأشياء. وبعد ذلك جاء أرخلاوس (Archelaus) ابن أبوللودوروس وهو رجل أثيني ليقول أن الهواء غير المحدود بكثافته وندرته هو أصل كل الأشياء. أن جميع هؤلاء الرجال شكلوا تسلسلًا بدأ بطاليس واتبعوا جميعهم ما أسموه الفلسفة الطبيعية. وإذا تتبعنا مدرسة فكرية أخرى لوجدنا أن فيثاغورس من ساموس (Pythager as of Samos) ابن منساركوس يعتبر أن الأرقام بتناسبها وتناغمها وبالعناصر الناتجة عنها هيَ أساس كل شيء، وفي نظامه يعلم وحده الأرقام وثنائيتها غير المحدودة. أما أبيقور من أثينا ابن نيوكلس، فقد علَّم أن العلة الأولى للكائنات هيَ الأجسام التي يدركها العقل... ومن جهة أخرى أكد أمبيدوكليس من أجريجنتم ((Empedocles of Agrigentum ابن مينون، أنه يوجد أربعة عناصر وهيَ النار والهواء والماء والتراب، وقوتان رئيسيتان: الحب وهو قوة الوحدة، والكراهية التي هيَ قوة الانفصال. ويمكنكم أن تدركوا بسهولة مدى الارتباك الموجود بين من تدعونهم حكما ومعلميكم الدينيين. فالبعض يقول أن الماء هو مبدأ كل الأشياء وآخرون يعتقدون أنه الهواء وغيرهم النار، في حين يوجد من يدعي أن عناصر أخرى غير تلك المذكورة قبلًا هيَ العلة الأولى للأشياء. هؤلاء الرجال قد قالوا هذا بالفعل وجميعهم استخدموا حججًا مخادعة لإثبات تعاليمهم الخاطئة، وحاول كل واحد منهم أن يُظهِر نظريته أكثر قبولًا من نظرية غيره. هل لكم أن تقولوا لي أيها السادة اليونانيين كيف يستطيع من يبحث عن الخلاص أن يأتي إلى هؤلاء الفلاسفة ليتعلم منهم الدين الحقيقي في حين لا يقدر الفلاسفة أنفسهم على أن يتفقوا فيما بينهم على شيء بل يناقضون آراء بعضهم البعض في خلافاتهم الفلسفية؟" (نصح لليونانيين ف 3، 4) (164).
حقًا أنني أتعجب كثيرًا، لأن ما كان مطروحًا للبحث في القرن الثاني الميلادي، وتناوله بالفحص والتمحيص بعض الآباء الأولين مثل يوستين وبنتينوس وإيرينيئوس وأكليمنضس السكندري وأوريجينوس، ما زال مطروحًا للبحث في القرن الواحد والعشرين، وأيضًا تناوله بالفحص والتمحيص بعض الآباء المعاصرين مثل الأنبا غريغوريوس أسقف عام الدراسات القبطية، ودكتور رشدي حنا عبد الشهيد ودكتور موريس تاوضروس وغيرهم.
_____
(154) أورده يوسف كرم - تاريخ الفلسفة اليونانية، ص36.
(155) الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، ص47.
(156) الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، ص24، 25.
(157) الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، ص50.
(158) الفلسفة الإغريقية، جـ 1 ص30.
(159) المرجع السابق، ص31.
(160) المرجع السابق، ص31.
(161) الفلسفة الإغريقية، جـ 1 ص42.
(162) أوردته د. أميرة حلمي مطر - الفلسفة اليونانية تاريخًا ومشكلاتها، ص55.
(163) المرجع السابق، ص55.
(164) النصوص المسيحية في العصور الأولى - القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد، ص333 - 335.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/656.html
تقصير الرابط:
tak.la/46fssy5