س617: كيف يدعو يسوع نفسه إلى بيت زكا دون أن يدعوه هو (لو 19: 5)؟ ولماذا ألزم زكا نفسه برد أربعة أضعاف لكل من ظلمه (لو 19: 8)؟ وكيف نال زكا الخلاص (لو 19: 9) قبل أن يفدي السيد المسيح الإنسان؟ وكيف يطلب ابن الإنسان ما قد هلك، وهل يوجد خلاص بعد الهلاك (لو 19: 10)؟
ج: 1- كيف يدعو يسوع نفسه إلى بيت زكا دون أن يدعوه هو (لو 19: 5)..؟ هذه هيَ المرة الوحيدة التي يدعو فيها يسوع نفسه إلى بيت مُعين لم يعتاد الدخول فيه مثل بيت مرثا ومريم، ولعازر، دعى نفسه لذاك البيت دون أن يسأل صاحبه عما إذا كان مُستعدًا أن يقبله أم لا؟ وهل البيت مُستعد أن يستضيفه ليبيت فيه مع أن الجموع تزحمه؟ ولا عجب، فالرب يسوع عالِم بالأفكار وخبايا القلوب ويعلم كم تجسَّم زكا من أتعاب نفسية لكي يراه، فليس من السهل أن رئيس عشارين غني جدًا مثل زكا أن يسلك مسلك الصبي، ويتسلق شجرة الجميزة، لم يعبأ بنظرات الناس له، لم تشغله انتقادات البعض وسخرية الآخر، فالناس لم يألفوا أن رجلًا غنيًا مثل زكا يركض ويتسلق شجرة الجميزة ويستقر على فروعها، غير مبالٍ بملابسه الثمينة التي ربما تلطخت بعصارة ثمرات الجميزة الملتصقة بالفروع. وفي اللحظة التي نظر فيها زكا ليسوع وجد يسوع ينظر إليه ويدعوه بِاسمه. يسوع هذا الذي رأى نثنائيل تحت شجرة التين (يو 1: 48) هو الذي رأى زكا فوق شجرة الجميزة، فعينه على كل واحد فينا، بل أن يسوع عرف مُسبقًا اشتياقات زكا وقلبه المُفعم بمشاعر الحب تجاهه، فناداه: "يَا زَكَّا أَسْرِعْ وَانْزِلْ لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ" (لو 19: 5) وتعبير " يَنْبَغِي" تعبير قوي استخدمه يسوع في الأمور الهامة والخطيرة مثل قضية الصلب والفداء، ويحمل في معناه "لا بد" و "حتمًا" و "لزامًا" و "يجب"، وكأن رب الكل كان في احتياج شديد أن يستريح في بيت زكا. نعم كان سيد الكل مشتاقًا لخلاص زكا وأهل بيته أكثر من اشتياق زكا لرؤياه. عرض السيد المسيح أن يبيت في بيت رئيس العشارين، خاطئ الخطاة، مُستهينًا بنقد الكتبة والفريسيين: "فَلَمَّا رَأَى الْجَمِيعُ ذلِكَ تَذَمَّرُوا قَائِلِين إِنَّهُ دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُل خَاطِئٍ" (لو 19: 7). ترك بيوت كهنة الهيكل الذي يعيشون في أريحا ويصل عددهم إلى نحو اثني عشر ألف كاهنًا، ودخل ليبيت في بيت رئيس العشارين.
وقد نال زكا أكثر مما يُريده أضعاف مضاعفة، فقد كان منزويًا وسط أوراق شجرة الجميزة جالسًا أو منبطحًا على أحد فروعها، منتظرًا موكب المسيا وهو في طريقه إلى أورشليم، وكل ما يصبو له أن يرى يسوع، ولم يطمع قط أن يسوع يراه أو يلتفت إليه، ففوجئ زكا بأن يسوع يوقف المسيرة التي تزحمه، وأن يناديه بِاسمه وكأنه يعرفه من زمن طويل ويُعلن اسمه لكل المرافقين موكبه، بل للعالم كله في كل زمان ومكان: "دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. أَنْتَ لِي" (إش 43: 1) (راجع إش 49: 2، يو 10: 3).. الذي سار ساعات طويلة ليلتقي بالمرأة السامرية، قصد أن يعبر هذا الطريق ليلتقي رئيس العشارين بل يخبره بأنه سيدخل بيته، وكم كانت فرحة زكا، ورقص قلبه طربًا، وكم استهان بما اكتنزه من مال إذ شبع وارتوى بالكنز الحقيقي الرب يسوع. وقد تحقق الوعد الإلهي مع زكا العشار: "هنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي" (رؤ 3: 20)، بل تحقق أكثر من هذا الوعد، إذ مدَّ يسوع يده المملؤة بركة وفتح الباب بنفسه لنفسه لأنه عرف اشتياقات زكا وعرف أيضًا ما سيُقدمه زكا عندما يتحرَّر من عبودية محبة المال، حتى أنه يُعطي نصف أمواله للمساكين وإن وشى بأحد يرد أربعة أضعاف. لقد تخطى زكا كل الحواجز ليرى يسوع، فاستحق أن يسمع اسمه من الفم المملوء بركة. ذلك الاسم الذي سبق أن تلوَّقته الألسنة في هزء وهزل وازدراء صار مضرب الأمثال، وكما أن ساكبة الطيب تُذكر في كل مكان يُكرز فيه بالإنجيل، هكذا يُذكر "زكا" الذي تسلق شجرة الجميزة إلى ملكوت السموات، لم يقف قصر القامة عائقًا وحائلًا في الطريق لرؤية يسوع، بل صار هذا القصر سبب نعمة وبركة لزكا العشار. ويقول "الدكتور القس إبراهيم سعيد": "ويقول فلاسفة التاريخ: لو كان أنف كليوباترا أطول أو أقصر مما كان، لمُسِخ جمالها (ولم يُعجب بها يوليوس قيصر ثم أنطونيو) فتغير معه تاريخ العالم! ومن يدري! ربما لو كان زكا طويل القامة -لا قصيرها- لما عرف التاريخ المسيحي عنه شيئًا. إن قصر قامته قد أصعده – وهو لا يدري – على قمة شجرة التاريخ" (393).
2- لماذا ألزم زكا نفسه برد أربعة أضعاف لكل من ظلمه (لو 19: 8)..؟ لقد نال زكا الوعد بالخلاص كقول السيد المسيح: "الْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهذَا الْبَيْتِ" (لو 19: 9)، ولكن نوال الخلاص لا يعفي الإنسان من تصحيح الأخطاء التي ارتكبها، فإن اختلس الإنسان شيئًا ثم قدم توبة عن هذا الفعل الشنيع، فدليل صدق توبته أنه يرد ما قد سلبه مع تقديم الاعتذار الواجب، وقد قضت الشريعة على أن من يختلس شيئًا يرد ما اختلسه إلى صاحبه ويضيف عليه الخُمس (عد 5: 6، 7)، وإذا سرق بهيمة حمار أو ثور أو شاة، وضُبط والبهيمة حية في يده يعوّض صاحبها بالضعف (خر 22: 4)، أما إذا كان قد بدَّد ما سرقه ولم يعترف بذنبه، ثم ثبتت التهمة عليه بأنه يعوض على الثور بخمسة ثيران، وعوضًا عن الشاة بأربعة من الغنم (خر 22: 1). وقد حسب زكا نفسه ضمن هذه الفئة الأخيرة، بل فاق في تعويضه هذه الفئة: "فَوَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ وَإِنْ كُنْتُ قد وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ" (لو 19: 8). وفشل المال أن يكون حائلًا بين زكا والملكوت، بل بمهارة بالغة ورقي وتسامي استخدم المال كفنان بارع في إعداد مسلكًا إلى الملكوت. قال أحد القديسين عنه: "فماله لم يمنعه من الوصول إلى العتبة الملوكية، ينبغي مدحه أبلغ مدح لأن ماله حمله إلى عتبة الملكوت. من هنا نفهم أن المال لم يكن عائقًا، بل كان عونًا له لكسب مجد المسيح. علينا أن لا نبذر ما نملكه في العيش الرغيد، بل أن نهبه لأجل الخلاص. ليس هناك إثم في المقتنيات، أما الذين لا يعرفون كيف يستعملونها فهم أثمة. عند الأحمق المال تجربة الرذيلة، أما عند الحكيم فهو لمساعدة الفضيلة. لبعضهم يكون فرصة للخلاص، وللآخرين يكون علة للدينونة" (موعظتان 95-96 على زكا) (394).
ولك يا صديقي أن تتصوَّر مدينة أريحا التي شهدت التغيير الجذري في حياة رئيس العشارين، قبل أن يتحرَّر من عبودية المال المُرة، وبعد أن عُتِق من هذه العبودية بيد قوية وذراع رفيعة. كان قبلًا يقسو ويتجبر على كل من يتقاعس في دفع الضرائب التي تقرَّرت عليه جزافًا، فربما كان يعتدي على البعض بالضرب، وعلى البعض بالزج في غياهب السجن، فكرهه الناس من كل قلوبهم وتحاشوا اللقاء به، ولكن بعد أن نال زكا حريته وقد فتح بيته، بل قلبه لكل من سبق وظلمه أو سلبه أو قسى عليه أو وشى به، فتح يده بالعطاء، ليس ليعيد المال المسلوب فقط بل أربعة أضعاف، كم فرحت المدينة وتهللت وسبحت اللَّه الذي غيَّر زكا إلى هذه الدرجة بعد أن دخل يسوع إلى حياته وبيته. حقًا أن تغيُّر رئيس عشارين هذه المدينة كان الحدث الأكبر الذي شهدته أريحا منذ سقوط أسوارها على يد ابن نون وحتى يوم زكا هذا.
أما عن التساؤل: كيف نال زكا الخلاص (لو 19: 9) والمسيح لم يفدي الإنسان بعد..؟ فيجيب "الأنبا غريغوريوس" أسقف عام الدراسات القبطية والبحث العلمي: "على أن الخلاص في قول يسوع "اليوم قد صار الخلاص". ليس معناه أن زكا قد حصل على الخلاص كاملًا قبل موت المسيح وعمل الفداء الذي كان لا بد منه ليتم الخلاص التام، وإنما معناه أن زكا بتوبته الصادقة المقبولة قد استحق الخلاص وصار ضامنًا له بوعد المسيح إياه، حتى إذا مات المسيح الفادي تم بموته الخلاص الكامل... " لَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ" (أع 4: 12) (395).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- كيف يطلب ابن الإنسان ما قد هلك، وهل يوجد خلاص بعد الهلاك (لو 19: 10)..؟ بعد أن سقطت البشرية جمعاء متمثلة في آدم الأول رأس جنسنا البشري صار العالم عالمًا هالكًا، إذ أن جميع البشر الذين في صلب آدم سرى عليهم حكم الموت الأبدي، حكم الهلاك، وفي ملء الزمان تجسَّد ابن اللَّه الكلمة الوحيد الجنس ليرد آدم وبنيه إلى الفردوس مرة أخرى، فجاء ابن اللَّه الحي ليُخلص ما قد هلك، وخلاص زكا وأهل بيته هو تحقيق لغاية التجسُّد والفداء. يقول "متى هنري": "الحالة المحزنة لبني البشر أنهم قد هلكوا، فعالم البشر كله -نتيجة السقوط- أصبح عالمًا هالكًا، كما يُعد المسافر هالكًا إذا ضل طريقه في البرية، والمريض يُعد هالكًا حين يصبح مرضه غير قابل للشفاء... القصد الكريم لابن الإنسان: لقد "جاء لكي يطلب ويخلص".. جاء من السماء إلى الأرض (وهيَ رحلة طويلة) لكي يطلب ما قد هلك (جاء يطلب الضال والمفقود) ويعود به ثانية (مت 18: 11-14) ويخلص من فُقِد، والذي أوشك على الهلاك. لقد تعهد الرب يسوع بالقضية -قضية الإنسان الهالك- بعد أن أُغلقت لأنه كان قد " فُقِد" جاء الرب يسوع إلى هذا العالم المفقود لكي يطلب ويخلّص" (396).
ويقول "دكتور وليم باركلي": "عندما نتأمل في كلمة "هلك" نجد أنها لا تعني في العهد الجديد " مُدان أو دينونة " بل تعني أن الشيء في موضع غير موضعه وينبغي رده إلى مكانه الأصلي. وهلاك الإنسان معناه البُعد عن اللَّه، لكنه عندما يرجع إلى اللَّه يرجع إلى وضعه الأصلي الذي يجب أن يكون عليه طائعًا اللَّه بين جماعته وفي وسط عائلة الآب" (397).
ومن سمات إنجيل لوقا اهتمامه بالعشارين الخطاة، فمثلًا:
أ– حدثنا القديس لوقا عن العشارين الذين: "جاءوا إلى يوحنا المعمدان ليعتمدوا" (لو 3: 12).
ب- حكى عن دعوة السيد المسيح للعشار الذي " ترك كل شيء وتبع يسوع" (لو 5: 27، 28).
جـ- أخبرنا أن العشارين: "بَرَّرُوا الله مُعْتَمِدِينَ بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا" (لو 7: 29)، ومعنى " بَرَّرُوا الله" أي أنهم اعترفوا أن اللَّه بار والإنسان خاطئ.
د– أخبرنا أن العشارين كانوا: "يدنون منه ليسمعوه" (لو 15: 1) حتى أن الكتبة والفريسيين تذمروا عليه: "قَائِلِينَ هذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ" (لو 15: 2) ومن تفسيرات مَثل الابن الضال أنه يشير للعشارين والخطاة، أما الابن الأكبر فإنه يشير للكتبة والفريسيين.
هـ- حكى لنا عن الفريسي والعشار، وكيف خرج مُبررًا دون الفريسي (لو 18: 9-14).
و– حكى لنا عن قصة خلاص زكا رئيس العشارين وأهل بيته (لو 19: 1-10) وسجل العبارة الخالدة: "لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" التي توضح الهدف الأساسي لإنجيل لوقا كله، كما أنها تعلن رسالة أعظم معلم عاش على وجه الأرض عبر التاريخ البشري كله. أنه الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخراف.
_____
(393) شرح بشارة لوقا، ص456.
(394) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص448.
(395) الكتاب المقدَّس جـ 4 - تفسير إنجيل القديس لوقا، ص206، 207.
(396) التفسير الكامل للكتاب المقدَّس جـ 1 العهد الجديد - الأناجيل الأربعة، ص522، 523.
(397) ترجمة القس مكرم نجيب - تفسير العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص308.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/617.html
تقصير الرابط:
tak.la/rjsh3v6