س616: هل الذي سأل السيد المسيح "رئيس"، ورئيس على ماذا (لو 18: 18)، أم أنه مجرد شاب (مت 19: 20)؟ وإن كان هذا الرئيس بهذا الكمال (لو 18: 21) فكيف نجد صدًا كهذا من السيد المسيح (لو 18: 22)؟ وهل كان بطرس صياد السمك الفقير محقًّا في قوله: "هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ" (لو 18: 28)، وكأنه صاحب فضل على السيد المسيح؟
ج: 1- هل الذي سأل السيد المسيح "رئيس"، ورئيس على ماذا (لو 18: 18)، أم أنه مجرد شاب (مت 19: 20)..؟ تتكامل الأناجيل معًا دون أدنى تناقض، فنجد القديس لوقا يصف هذا الرجل من جهة مركزه الديني، فقال أنه "رئيس" أي رئيس مجمع من المجامع اليهودية، أو رئيسًا بين اليهود مثلما كان نيقوديموس، ووصفه القديس متى من جهة الفئة العمرية فقال عنه أنه "شاب" (مت 19: 20) ووصفه القديس مرقس من جهة وداعته ونشاطه وشغفه بالتعلُّم فقال: "رَكَضَ وَاحِدٌ وَجَثَا لَهُ وَسَأَلَهُ" (مر 10: 17)، ولا يوجد أي تناقض بين الأناجيل الثلاثة، بمعنى أنه لم يثبت أو ينسب أحد الإنجيليين صفة لهذا الرجل مثل أنه "رئيس" أو "شاب"، وأنه "ركض وجثا" وجاء إنجيلي آخر ونفاها.
أما عن التساؤل: إن كان هذا الرئيس بهذا الكمال (لو 18: 21) فكيف يجد صدًا كهذا من السيد المسيح..؟ فيمكن تسجيل هذه الملاحظات عن هذا الشاب الغني:
أ– هذا الرجل عاش حياة مُستقيمة إذ حفظ الوصايا، كما أنه يؤمن بالحياة الأبدية، ولم ينكرها مثل الصدوقيين، ووصف هذا الرجل السيد المسيح بلقب المُعلِّم، وهو من أرفع الألقاب، لكن لم تصل معرفته بالمسيح لمستوى المعرفة الحقيقية أنه ابن اللَّه الوحيد الجنس المتأنس من أجل خلاص جنس البشر. ويقول "الأنبا غريغوريوس" أسقف عام الدراسات القبطية والبحث العلمي: "ويبدو من الأسلوب الذي تكلم به هذا الرئيس أنه كان مُخلصًا في سؤاله، ولم يكن خبيثًا ماكرًا يبغى الإيقاع بمعلمنا أو اصطياد تهمة يوجهها إليه كما كان يفعل أعداء مخلصنا ومناوئوه، كما يبدو أنه كان يحترم معلمنا احترامًا حقيقيًا لا ظاهريًا، ويثق فيه ثقة صادقة لا منافقة، إذ دعاه المعلم الصالح. وقد كان لقب "المعلم" أرفع الألقاب في المجتمع اليهودي وأكثرها دلالة على التكريم والتعظيم. ثم أنه نعته بأنه "الصالح" إيمانًا خالصًا بصلاحه له المجد، فضلًا عن أن السؤال الذي وجهه إليه كان يتضمن إيمانه بالحياة الأبدية في السماء، التي لم يكن يؤمن بها بعض فقهاء اليهود أنفسهم وعلمائهم، ولا سيما الصدوقيون الذي كان منهم كهنة ورؤساء كهنة" (390).
ب- لم يدري هذا الرجل معنى الصلاح كصفة إلهيَّة، فنعت بها السيد المسيح وهو لا يدرك هويته وشخصيته، بل ظن أنه مجرد مُعلم، ولم يخطر على باله أنه أمام ابن اللَّه الحي. ويقول "القديس كيرلس الكبير": "ها أنت ترى كيف برهن المسيح أن ذلك الرجل ليس حكيمًا ولا مُعلمًا رغم أنه رئيس مجمع اليهود وكأنه يقول له: "إن كنت لا تؤمن أنني أنا اللَّه ورداء الجسد قد جعلك تضل، فلماذا تدعوني بأوصاف تليق فقط بالطبيعة الفائقة (الإلهيَّة) وحدها، بينما أنت لا تزال تعترض أنني مجرد إنسان مثلك ولست فائقًا على حدود الطبيعة البشرية..؟ فإن صفة الصلاح بالطبيعة توجد في الطبيعة التي تفوق الكل، أي في اللَّه فقط، وهو (الصلاح) الذي لا يتغيَّر، أما الملائكة ونحن الأرضيون فنكون صالحين بمشابهتنا له أو بالحري باشتراكنا فيه، فهو الكائن الذي يكون، وهذا هو اسمه (انظر خر 3: 14، 15) وذكره الدائم إلى كل الدهور، أما نحن فإننا نوجد ونأتي إلى الوجود بأن نصير مشتركين في من هو كائن حقًا، لذلك هو صالح حقًا، وهو الصلاح المُطلّق، أما الملائكة والبشر -كما قلت- هم صالحون فقط بصيرورتهم مشتركين في الإله الصالح، لذلك فلنطبع الصلاح على أنه الصفة الخاصة باللَّه وحده الذي فوق الكل، وهو متصل جوهريًا بطبيعته، وهو صفته الخاصة. وكأنه يقول له: "فإن كنت لا أبدو لك أنني اللَّه حقًا، فأنت قد نسبت إليَّ عن جهل وحماقة الخصائص والفضائل التي للطبيعة الإلهيَّة، في نفس الوقت الذي تتخيل أنني مجرد إنسان، أي من لم يلبس الصلاح أبدًا، ولا صفة الطبيعة غير المتغيَّرة. بل يحصل على الصلاح فقط موافقة الإرادة الإلهيَّة". إذًا فهذا هو مغزى ما قاله المسيح" (391).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
جـ- وثق هذا الشاب ثقة زائدة بنفسه، فظن أنه يستطيع أن يرث الحياة الأبدية، بإمكاناته الشخصية، ولم يدرك أن كل كنوز الأرض تعجز عن أن تهب لنا ملكوت السموات.
د– أراد هذا الرئيس أن يقبض على "الغنى" بقبضته، وبالقبضة الأخرى يملك ملكوت السموات، وعندما وجهت له الدعوى للتخلي عن قبضة الغنى مضى حزينًا لأنه كان ذا أموال كثيرة. ويقول "الدكتور القس إبراهيم سعيد": "طلب المسيح من ذلك الشاب أن يبيع كل ماله لأن حبه للمال كان نقطة الضعف فيه، لذلك طلب المسيح إليه أن يترك كل شيء يتوسط بينه وبين المسيح. كان ذلك الشاب "كاملًا" من جهة مطاليب (حرف) الناموس، لذلك قصد المسيح أن يدربه على روح الناموس، وأن يفحصه على محك الرحمة "بع ووزع" وأن يزنه بميزان المحبة والولاء، فقال "اتبعني".. فلما سمع ذلك حزن لأنه كان غنيًا جدًا. نفذ كلام المسيح كالسهم إلى قلب ذلك الشاب، فأصاب منه موضع الداء -حب المال- فلم يقوَ لسانه على الكلام، فبرهن بحزنه على أن المال أقرب إلى قلبه من المسيح. مسكين هذا الشاب (الغني) "حزن لأنه كان غنيًا" كان حزنه هذا نتيجة صراع عنيف بين نفسه الشريفة التي تطلب الحياة الأبدية، وبين قلبه الممسك بالمادة... "حزن لأنه كان غنيًا جدًا"!! هل الحزن إذًا حليف الغنى؟؟ ياليته كان فقيرًا!! أين هذا الشاب من موسى الذي "حسب عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر"؟ هذا (الشاب) رأى المسيح بالعيان، لكن موسى رأى عن بُعد بالإيمان" (392).
(راجع أيضًا مدارس النقد - عهد جديد جـ 4 س378، جـ 6 س522).
_____
(390) الكتاب المقدَّس جـ 4 - تفسير إنجيل القديس لوقا، ص198.
(391) دكتور نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص586، 587.
(392) شرح بشارة لوقا، ص447، 448.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/616.html
تقصير الرابط:
tak.la/kbj8dwy