س605: كيف يترك الراعي التسعة والتسعين للمخاطر من أجل الاهتمام بالخروف الواحد (لو 15: 4)؟ ولماذا لم يعاقب الراعي الخروف الضال الذي شتَّ عوضًا عن أن يحمله على منكبيه فرحًا (لو 15: 5)؟ وإن كان مثَلي الخروف الضال (لو 15: 4-7) والدرهم المفقود (لو 15: 8، 9) يحملان نفس المعنى، فما هو الداعي للتكرار؟ وهل الدرهم الواحد يستحق كل ما فعلته هذه المرأة (لو 15: 8، 9)؟
ج: 1- كيف يترك الراعي التسعة والتسعين للمخاطر من أجل الاهتمام بالخروف الواحد (لو 15: 4)..؟ كان أحيانًا ينضم أكثر من قطيع ويتولى الرعاة الرعاية معًا، فإذا تعرَّض خروف للضياع يسعى راعيه ويَجْد في البحث عنه، بينما يتولى بقية الرعاة إعادة القطعان إلى القرية، ويظل الراعي الصالح يجوب السهول والوديان والتلال حتى يعثر على خروفه الضال فيحمله فرحًا ويعود به إلى القرية، فيشاركه أهل القرية فرحته. ويقول "القديس كيرلس الكبير": "فهل لأن ليس عنده اهتمام بالكثيرين قد أظهر الرحمة للواحد فقط؟ كلاَّ، فإن ذلك ليس لعدم اهتمامه بالكثيرين، فإن هذا مستحيل، ولكن بسبب أنهم في أمان وهم محروسون بيده المقتدرة، لذلك من الصواب أن تظهر الرحمة من نحو ذاك الذي ضلّ لكي لا ينقص شيء من العدد الغفير الكامل، بل أن يرد الذي ضلّ فإن المئة تسترد جمالها لذلك فالبحث عن الذي ضلَّ ليس احتقارًا لأولئك الذين لم يضلوا، بل هو فعل نعمة ورحمة وحب للجنس البشري، وهو عمل لائق بالطبيعة الإلهيَّة الفائقة لكي تمنحه لخلائقها الساقطة.
بل هيا بنا لنفحص الأمر بمساعدة مَثَل آخر أيضًا... فلنفترض أنه في بيت واحد يوجد أكثر من ساكن (عضو)، ويحدث أن أحدهم يسقط مريضًا فلمن يُستدعى الأطباء المعالجون؟ أليس لذلك الذي سقط مريضًا؟ ولكن استدعاء الأطباء للمريض لا يعتبر اهمالًا لبقية سكان (أعضاء) البيت، والأطباء يفيدون المريض بمهارتهم بحسب ما يحتاجه من وقت غايته، ولذلك بنفس الطريقة كان جديرًا باللَّه، بل وجديرًا جدًا، الذي يضبط الكل أن يمد يده المخلَّصة لذلك الذي ضلَّ بعيدًا" (337).
2- لماذا لم يعاقب الراعي الخروف الضال الذي شتَّ عوضًا عن أن يضعه على منكبيه فرحًا (لو 15: 5)..؟ لم يقصد هذا الخروف أن يشت عن القطيع ويبعد عن راعيه، ويعرّض نفسه لخطر الافتراس من الذئاب، ولكنه فعل هذا عن جهل وتحت إغراء بعض الحشائش التي جذبته بعيدًا، بينما عبر القطيع ورحل من المكان، والراعي الصالح يُدرك هذه الحقيقة ويعرف مدى المتاعب التي تعرَّض لها هذا الخروف، والمخاوف التي انتابته، ولأنه هو الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخراف، لذلك صعد إلى أعلى قمم الجبال يبحث عن خروفه الضال، فوجده منهكًا خائفًا مرتعدًا، فاحتضنه الراعي الحنون... ولأن هذا الخروف قد أُنهك في البحث عن راعيه وكلت أرجله ولم يقدر على مواصلة السير، حمله الراعي على منكبيه: "كَرَاعٍ يَرْعَى قَطِيعَهُ. بِذِرَاعِهِ يَجْمَعُ الْحُمْلاَنَ وَفِي حِضْنِهِ يَحْمِلُهَا وَيَقُودُ الْمُرْضِعَاتِ" (إش 40: 11) واستراح الخروف على منكبي راعيه شاعرًا بالحماية والأمان والسلام، قريبًا من قلب الراعي وأذنيه: "الرَّبُّ يَسْمَعُ عِنْدمَا أَدْعُوهُ" (مز 4: 3) وعينيه: "أَنْصَحُكَ. عَيْنِي عَلَيْكَ" (مز 32: 8) ويقول "القديس جيروم": "إن لم يضعني الراعي الصالح على ذراعيه ويردني إلى القطيع ثانية تبقى خطواتي التي تترنح، وكلما أقوم مجاهدًا أجد قدمي تهويان كثيرًا" (338).
فلم يكن هناك مجال قط ليُوقِع الراعي العقوبة على هذا الخروف المسكين بعد أن أصابه ما أصابه من مخاطر ومخاوف. ويقول "القديس غريغوريوس النيزينزي": "الذي وضع حياته من أجل خرافه بحثًا عن الضال على الجبال والتلال... وإذ وجده حمله على كتفيه اللذين حملا خشبة الصليب... عندما وجد الراعي الخروف لم يعاقبه، ولا سحبه إلى القطيع (كما بالعنف)، بل وضعه على كتفيه، حمله برفق وضمه للقطيع" (339).. " لأَنَّهُ هُوَ إِلهُنَا وَنَحْنُ شَعْبُ مَرْعَاهُ وَغَنَمُ يَدِهِ" (مز 95: 7). ويقول "جورج آدم سميث" عن هذا الراعي الصالح: "إنه لا ينام بل يتكئ طوال الليل على عكازه يراعي غنمه ويرعاها لئلا تأكلها الضباع الصارخة في سكون الليل البهيم، وهو يتألم من ثلج الشتاء أحيانًا ومن قيظ الصيف تارة، من أجل خرافه المتناثرة، ولكل منها طابعه الخاص على قلبه، لذلك شبه الناس ملوك الأرض كالرعاة، والراعي يمثل العناية وضرب السيد المسيح به المثل في البذل والتضحية" (340).
فماذا فعل هذا الراعي الصالح من أجل خروفه الضال؟
أ– ثابر في البحث عن هذا الخروف الضال حتى وجده.
ب- فرح وابتهج عندما رأى خروفه الضال، فاحتضنه وحمله على منكبيه.
جـ- أتى به الراعي إلى مكان الأمان ودعى الأهل والجيران ليفرحوا معه.
د– أعلن فرحة السماء: "هكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارًّا لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ" (لو 15: 7).
ويقول "القديس أمبروسيوس": "لنفرح لأن الخروف الذي ضلَّ في آدم يرتفع على كتفي المسيح (لو 15: 4-7) اللذين هما ذراعا الصليب. هناك أُلقيت أحمال خطاياي، واسترحت على عنق ذلك النير النبيل" (341). وقد تصوَّر أحد الكتَّاب الأفاضل قصة الخروف الضال فكتب يقول: "كان لراعٍ مئة خروف وكلها مُطيعة وصالحة ومُستقيمة، وتبعته بتفانها الوديع، ولكن لما عدَّها مساء ذات يوم، وجد أن أحدها مفقود، وعرف رأسًا من هو الناقص، لأن الراعي الصالح يعرف كل خروف بِاسمه "العنيد" هرب مرة أخرى ظانًا أن سيده لا يقوده إلى المراعي الخضراء ومياه الراحة، فأراد أن يفتش عن أسرار الحياة تلقائيًا، ويتمتع بعيدًا عن أعين الرقباء، وفي عدم خبرته تاه في البرية، وسقط من علوٍ إلى الهوة، ولولا وجود شجيرات من العليق لوقع فوق الصخور وقُضي عليه. ولكنه تعلَّق بأغصان العليق فوق الهوة الفاغرة لابتلاعه، وسمع عواء الذئاب وأبناء أوي، وشعر خائفًا بالخطر، لأنه بعيد عن تلك الرعية المتضامنة، ولكنه لم يقدر أن يرجع الآن، لأنه صار أسير العليقة المؤلمة، وخيَّم الليل على البائس، فصرخ منذعرًا في الفضاء، فلم يرجع له غير الصدى. وبعد مدة أصاغ السمع لأنه صوتًا ناعمًا صوتًا بدأ من بعيد يناديه، ففهم رأسًا هذا الصوت المنادي، أنه صوت الراعي الصالح، الذي نادى بِاسم الضال فجاوبه الخروف المُرتبط بالشوك بكل قواه: النجدة النجدة... أنا هنا الضال البائس الشرير. خلصني اغفر لي عنادي. فهبط الراعي الصالح في هوة المخاطرة، وتعب وجذب الخروف الضال إليه، والعرَق نازل من جبينه، ولباسه ممزق بالشوك، ودمه نازف من الجراح. وأخيرًا رفع الخروف المرضوض على كتفيه وعاد به إلى الحظيرة، لاهثًا متعبًا من جراء مشقة عملية الانقاذ وبُعد الطريق، وإنما فرح رغم التعب، لأنه وجد الضال العنيد، وخلص الشرير النادم.
أيها الأخ، هكذا يطلبك يسوع، أنت الهارب في عنادك مع اللَّه، والمُعلق في شوك الخطية متدليًا فوق هوة الهلاك. والذئاب تعوي حواليك في الليل الدامس. فهل تسمع صوت الراعي الصالح، وهل تصرخ إليه يا رب نجني" (342).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- إذا كان مثلي الخروف الضال (لو 15: 4-7) والدرهم المفقود (لو 15: 8-10) يحملان نفس المعنى، فما هو الداعي للتكرار..؟ مثلي الخروف الضال والدرهم المفقود هما توأمان، لهما هدف واحد، فكل منهما يمثل صورة من المَثَل الآخر، والمَثل الثاني يشدّد على نفس معنى المَثَل الأول، ولذلك فصل بين المثلين لفظ التخيير "أو"، وتكاد تكون نفس المفردات المستخدمة في المَثلين واحدة:
|
مَثَل الخروف الضال |
مَثَل الدرهم المفقود |
(1) (2) (3) (4) (5) (6) (7) (8) (9) |
أي إنسان منكم له مئة خروف. وأضاع واحدًا منها. ألا يترك... حتى يجده. وإذا وجده. يدعو الأصدقاء والجيران قائلًا لهم. افرحوا معي لأنه وجدت خروفي الضال. في السماء. بخاطئ واحد يتوب. |
أية امرأة لها عشرة دراهم. إن أضاعت درهما واحدًا. ألا توقد... حتى تجده. وإذا وجدته. تدعو الصديقات والجارات قائلة. افرحن معي لأني وجدت الدرهم الذي أضعته. قدام ملائكة اللَّه. بخاطئ واحد يتوب. |
وتكرار المعنى أمر واضح جلي في تعاليم السيد المسيح، فتجده مثلًا يتحدث عن:
أ– الرقعة الجديدة على الثوب العتيق، والخمر الجديد في الزقاق العتيقة (مر 2: 21، 22).
ب– المملكة المنقسمة على ذاتها، والبيت المنقسم على ذاته (مر 3: 24، 25).
جـ- ملح الأرض، ونور العالم (مت 5: 13، 14).
د– طيور السماء، وزنابق الحقل (مت 6: 26 - 30).
هـ- البيت المبني على الصخر، والبيت المبني على الرمل (مت 7: 24 - 27).
و– حبة الخردل، والخميرة (مت 13: 31 - 33).
ز– الكنز الخفي في الحقل، واللؤلؤة كثيرة الثمن (مت 13: 44 - 46).
ح– نفقة بناء البرج، وتكلفة الحرب (لو 14: 28 - 32).
ومع هذا فإن المَثَلين ليسا متطابقين تمامًا، فمثلًا:
أ– في المَثَل الأول ضلَّ الخروف الضال بسبب جهله، فهو أطاع نفسه عن جهل، بينما في المَثَل الثاني الدرهم المفقود أضاعه غيره.
ب- المَثَل الأول يركز على دور الراعي الصالح أقنوم الكلمة الذي تجسد ليرد الإنسان آدم الأول ونسله إلى رتبته، بينما يركز المَثَل الثاني على عمل الروح القدس من خلال الكنيسة التي تبحث دائمًا عن ابنها الذي فُقِد.
جـ- نسبة الخروف الضال 1% بينما نسبة الدرهم المفقود 10%.
4- هل الدرهم الواحد يستحق كل ما فعلته هذه المرأة (لو 15: 8، 9)..؟ عندما فقدت هذه المرأة الدرهم حزنت عليه، فأوقدت سراجًا، وكنست البيت، واجتهدت في البحث عنه، وعندما كنست فإنها أزاحت التراب المتراكم على الدرهم، فانعكس نور السراج على الدرهم، فأبرقت صورة الملك المنقوشة عليه، مُعلنًا عن وجوده، وكم كانت فرحة المرأة بعودة الدرهم المفقود، فهل هذا الدرهم الواحد يستحق كل ما فعلته هذه المرأة..؟ نعم وبلا أدنى شك أنه يستحق:
أولًا: إن الدرهم المذكور هنا لم يُذكَر في أي مكان آخر في العهد الجديد، فالمقصود به العملة اليونانية "الدراخمة" وقد صُكت عليها صورة الإمبراطور، فهذا الدرهم يحمل صورة الملك، ولا يصح أن تختلط صورة الملك بركام الأرض وترابها، فطبيعة الدرهم ليست من طبيعة الأرض. قال بولس الرسول: "يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ" (غل 4: 19) (راجع أيضًا 2 كو 3: 18).
ثانيًا: الدرهم يساوي أجرة عامل طوال اليوم.
ثالثًا: كانت الفتاة المقبلة على الزواج يعطونها عشرة دراهم تحتفظ بهم في غطاء الرأس لا تقترب إليها إلاَّ في حالة الاحتياج الشديد، فربما كان هذا الدرهم المفقود واحدًا من تلك الدراهم العشرة، فعندما فقدته حزنت عليه كمن فقدت خاتم زواجها، أو على الأقل شوهته. وإن كان الراعي الصالح اهتم بالخروف الضال بالرغم من أنه يمثل 1% فقط من عدد القطيع، لكن رجوعه يعيد للعدد "مائة" رونقه وجماله، فإن هذا الدرهم يعيد للدراهم العشرة رونقها وجمالها وكمالها، وكم كانت فرحة المرأة بالدرهم المفقود، وضعته على راحة يدها وضمته في دفءٍ وحنان، وهكذا كانت مشاعر الراعي بعودة الخروف الضال.
قال أحد علماء اليهود: "لم يوجد شيء جديد مثل هذا الذي علَّم به يسوع أن يبحث اللَّه عن الإنسان بهذه الصورة" (343).
ومَثَل الدرهم المفقود له جانبه الرمزي، فالمرأة تمثل الكنيسة المستنيرة التي تملك السراج أي مواهب الروح القدس، والدراهم العشرة رمز لأولادها الذين استلمتهم كوديعة من عريسها المسيح، والسراج هو نور الروح القدس، ويظهر في المَثَل مدى مثابرة واجتهاد الكنيسة في البحث والتنقيب عن ابنها المفقود، ومدى فرحتها بعودة المفقود.
_____
(337) ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص514.
(338) أورده القس أنجيليوس جرجس - يوميات مع كلمة الحياة - إنجيل لوقا، ص342.
(339) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص379.
(340) أورده وليم باركلي - تفسير العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص261.
(341) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص385.
(342) أورده عبد المسيح وزملاؤه - المسيح مخلص العالم - تفسير إنجيل لوقا، ص264، 265.
(343) أورده وليم باركلي - تفسير العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص263.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/605.html
تقصير الرابط:
tak.la/5h397hd