س606: لماذا ترك الابن الأصغر بيت أبيه (لو 15: 12، 13)؟ وإن كان الأب في المَثَل يشير إلى اللَّه، فكيف يقول "كُورَةٍ بَعِيدَةٍ" (لو 15: 13) مع أن اللَّه كائن في كل مكان؟ وما هيَ المشاكل التي لاقت الابن الضال في غربته (لو 15: 14-16)؟ ولماذا لم يذهب الأب إلى ابنه مثلما ذهب السيد المسيح للسامرية، أو يرسل من يفتقده (لو 15: 13-16)؟
ج: 1- لماذا ترك الابن الأصغر بيت أبيه (لو 15: 12، 13)..؟ سئم هذا الابن الحياة في بيت أبيه، وظن أن العين الأبوية التي تراقبه تقيد حريته، وتصوَّر أن الوصايا الأبوية التي هيَ في صالحه تمثل قيودًا في يديه وأمال أُذنه إلى إغراءات عدو الخير لينطلق من هذا البيت ويحيا في حرية مُطلقة، وصوَّر له خياله الجامح حياة وردية بعيدًا عن بيت أبيه، يحيا في رغدة العيش، وقمة السعادة، مع صحبة من الأصدقاء، ويتصرف كما يحلو له. لقد سلّم نفسه للعاطفة ولم يعد يُحكّم العقل وتخلى عن حكمته، فحمله التيار إلى كورة بعيدة بعد أن استغل وضعه الاجتماعي وطيبة قلب أبيه، فلو كان فقيرًا، أو لو كان والده قاسيًا ما كانت تهيأت له هذه الفرصة للهجرة من بيت الحرية إلى كوخ العبودية مع خنازير الأرض. في العهد القديم، وفي ظروف خاصة كان الأب يُعطي أولاده جزء من الميراث وهو بعد حي يُرزق (طو 8: 24، سي 33: 20، 24). أما هذا الابن فهو الذي تجرأ وطلب نصيبه من الميراث من أبيه، كل الميراث الذي يخصه وليس جزءًا منه ولأن الأب لا يحب أن يظل ابنه معه رغمًا عنه، استجاب لطلبه بدون أي تردد، لكن كم كانت حسرته وهو يُسلّم ابنه الميراث الذي يخصه وهو يُدرك أنه سيهجر البيت إلى كورة بعيدة، فطلب الابن: "يَا أَبِي أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ" يحمل روح التمرُّد والعصيان والجنوح نحو التحرر والانفلات، وكأن يستعجل موت أبيه، ففي الطلب إهانة للوالد واستهانة بالأبوة، بعد أن فَقَدَ هذا الابن المتمرّد الهيبة الأبوية، وصار أبوه في نظره كشريك غير مرغوب فيه، بينما الأب في طيبته وحنوّه لم يرد طلب الابن العاق، ولم يجبره على الإقامة معه، ولم يحرمه من الميراث، بل أعطاه ثلث الميراث وترك الثلثين للابن الأكبر بحسب الشريعة الموسوية، وسريعًا ما جمع الابن الأصغر كل ما يخصه وانطلق إلى كورة بعيدة بحثًا عن السعادة الموهومة والحرية المنفلتة.
2- إن كان الأب في المَثَل يشير إلى الله، فكيف يقول " كُورَةٍ بَعِيدَةٍ" (لو 15: 13) مع أن الله كائن في كل مكان..؟ من المعروف أن المَثَل لا يتطابق مع الواقع في كل شيء من جميع الأوجه، لكنه يتشابه مع الواقع في بعض الأوجه. كما أنه يمكن أن يُؤخذ مفهوم " كُورَةٍ بَعِيدَةٍ" أي البُعد الفكري والذهني والسلوكي، فيقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": "لم يسافر الابن الأصغر إلى كورة بعيدة، فيرحل عن اللَّه مكانيًا، لأن اللَّه حاضر في كل موضع، وإنما يرحل عنه بقلبه، إذ يهرب الخاطئ من اللَّه ليبتعد عنه بعيدًا" (344). كما يقول "القديس أمبروسيوس": "الابتعاد الأعظم هو أن ينفصل الإنسان لا خلال المسافات المكانية وإنما خلال العادات، فلا يذهب إلى بلاد مختلفة بل يحمل اتجاهات مختلفة.." (345).
3- ما هيَ المشاكل التي لاقت الابن الضال في غربته (لو 15: 14-16)..؟ في الكورة البعيدة بذّر الابن الضال ماله بعيش مُسرف، وكما هجر بيت أبيه سريعًا هكذا أسرع في إنفاق ماله بدون تفكير، ولم يضع نصب عينيه المَثَل القائل: "خذ من التل يختل"، فتصوّر أن ماله الكثير لن ينفذ، ولكن سريعًا ما جاءت ساعة الإفلاس والاحتياج للقوت اليومي، ووجد هذا الابن نفسه أمام عدة مشاكل جسام:
أ– بدأ أصدقائه، كالذين طالما أقام لهم المآدب والولائم، ينفضون عنه.
ب- نفذ ماله وفرغ طعامه حتى أن الجوع بدأ يعضه ولا يجد قوت يومه.
جـ- حلَّت مجاعة في تلك البلدة التي احتضنت هذا الابن العاصي، وتفشَّت المجاعة وشملت كل سكان البلدة، فمن يحتمل الآخرين في وقت المجاعة؟! فحتى الوالدين لا يحتملون فلذات أكبادهم ولا الزوج يحتمل زوجته، ولا الزوجة زوجها، ولا الأم رضيعها، فكل واحد يقول: "نفسي، ونفسي فقط"، حتى قال الأشرار إذا جاء الطوفان فضع ابنك تحت قدميك.
د– التصق هذا الابن بأحد سكان الكورة، فأرسله ليرعى الخنازير، ومن شدة جوعه شارك الخنازير أكل الخرنوب، بل أنه كان يشتهي أن يشبع ولا يجد كفايته من أكل الخنازير، وهذه هيَ طبيعة الحياة بعيدًا عن اللَّه، فالإنسان لن يجد شبعه قط خارج بيت الأب.
وأمام هذه المشاكل وغيرها من مشاكل نفسية، وقد انحدر إلى درجة أقل من درجة العبيد، اشتاق إلى الأحضان الأبوية، واشتهى لو أنه يعيش كأجير في بيت أبيه، فكما واجه هذا الابن الضال جوعًا جسديًا، هكذا عانى من الجوع الروحي بصورة أعمق وأشد، فالمصدر الوحيد للشبع الروحي هو اللَّه لأن الروح جُبلت على صورة اللَّه ومثاله، فمتى ابتعدت النفس عن اللَّه وهربت من أمام وجهه فإنها تدخل في فراغ روحي رهيب، ومجاعة روحية شديدة لا يشبعها كل ممتلكات العالم وإغراءاته، فيقول "القديس أمبروسيوس": "فإن من يبتعد عن كلمة اللَّه يصير جائعًا، لأنه "لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ الله" (لو 4: 4). بالابتعاد عن الينبوع نعطش، وبالابتعاد عن الكنز نفتقر، وبالابتعاد عن الحكمة نصير جهلاء، وبالابتعاد عن الفضيلة نموت. إذًا كان طبيعيًا (لهذا الابن) أن يحتاج، لأنه ترك اللَّه الذي فيه كنوز الحكمة والعلم (كو 2: 3)، وترك أعماق الخيرات السمائية، فشعر بالجوع أولًا إذ لا يوجد ما يُشبع الانسان الضال، الانسان يصير في جوع دائم عندما لا يُدرك أن الطعام الأبدي هو مصدر الشبع" (346).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
4- لماذا لم يذهب الأب إلى ابنه مثلما ذهب السيد المسيح للسامرية، أو يرسل من يفتقده (لو 15: 13-16)..؟ لقد سار المسيح نحو ست ساعات، حتى تعب من المسير، وجلس على بئر يعقوب، منتظرًا المرأة السامرية في تلك الساعة، وقد أرسل تلاميذه جميعهم ليشتروا طعامًا أو قل لتهيئة اللقاء مع السامرية، حتى لا تجد حرجًا في اعترافاتها. وانتشلها الرب يسوع من قاع الرذيلة ورفعها إلى مستوى الكارزة المبشرة بالخلاص. كانت المرأة السامرية غريبة عن شعب اللَّه، ولم تعرف اللَّه المعرفة الحقيقية، ولم تعش من قبل في بيت الآب، ولم تتمتع بمحبة وحنو وقبلات الآب، بينما هذا الابن الضال عاش في بيت الأب مُتمتعًا بالحب الأبوي والرعاية والاهتمام، فقد وُلِدَ وها ملعقة ذهب في فمه، وقد تعامل مع أبيه ويعرف كل كبيرة وصغيرة عن أبيه وعن البيت الذي يعيش فيه. إذًا هذه المرأة السامرية المتغربة عن شعب اللَّه كانت في احتياج شديد لمن يفتقدها يعرفها الطريق والينبوع الحقيقي، وهذا ما فعله الرب يسوع العالِم بكل الأمور، أقنوم الحكمة. أما هذا الابن الأصغر فلم يكن في احتياج لمن يعرّفه على أبيه وعلى بيت الأب، إنما كان في احتياج شديد أن يرجع إلى نفسه ويعيد حساباته. كما أن دور اللَّه واضح في قصة الابن الضال وعودته، فهو الذي دبَّر أمر المجاعة، إذ سمح بها، فلم يجد هذا الابن من يوفر له قوت يومه. كما أن روح اللَّه القدوس هو الذي بكت هذا الابن الضال، وبعث فيه روح التوبة والندم، مع الرجاء والأمل، فالتوبة هيَ عمل إنساني بدافع إلهي، ولهذا صرخ إرميا قديمًا: "تَوِّبْنِي فَأَتُوبَ لأَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ إِلهِي" (إر 31: 18). وإن كان الشيطان يعمل ولا يهدأ، بل يبذل قصارى جهده ليقتنص أولاد الملكوت ويصيرهم أبناء له، فإن روح اللَّه القدوس دائب العمل على انتشار نفوس بني الملكوت من هوة الجحيم، ليعيدها إلى بيت الآب، وصوت اللَّه يرن في الآفاق من جيل إلى جيل: "ارْجِعُوا إِلَيَّ يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ فَأَرْجِعَ إِلَيْكُمْ" (زك 1: 3).
_____
(344) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص386.
(345) المرجع السابق، ص386، 387.
(346) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص287.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/606.html
تقصير الرابط:
tak.la/424kpxv