س604: لماذا نطق السيد المسيح بهذه الأمثلة الثلاثة، الخروف الضال، الدرهم المفقود، والابن الضال (لو 15)؟ ولماذا اختلف تناول القديس لوقا مَثَل الخروف الضال (لو 15: 4-7) عن القديس متى (مت 18: 12، 13)؟
ج: 1- لماذا نطق السيد المسيح بهذه الأمثلة الثلاثة، الخروف الضال، الدرهم المفقود، والابن الضال (لو 15)..؟ لم يجد العشارون الخطاة قلبًا يتسع لهم ويحتويهم، إنما وُجِدوا من مجتمع يرفضهم ويحكم عليهم، وهم قد عجزوا عن تجديد أنفسهم، فكأنهم حُرموا من رحمة الأرض والسماء، يعيشون مُبغضين في حياتهم ويموتون بلا رجاء، فكان الخطاة والعشارون يدنون من يسوع الحنون يستمتعون بتعاليمه السامية التي أعجبوا بها، وهو كان يقبلهم ولم يرد أحد منهم، يستجيب لدعوة أي واحد منهم مثل لاوي الذي صار القديس متى، وزكا العشار، والمرأة الخاطئة يجلس معهم ويأكل، ويتحاور، ويفتح قلبه لهم. ويقول "دكتور عزت زكي": "لقد جذبهم اللَّه بسحر شخصيته، وحلاوة تعاليمه التي تستثير المشاعر، وأمثاله الحية الفائضة التي تبعث الرجاء في القلوب البائسة، ولقد كان العشارون... هم أكثر طوائف اليهود انحطاطًا، فعاملهم المجتمع بكل كراهية واحتقار، وكان الرومان يطلقون أيديهم، في جمع الأموال كما يشاءون ويروق لهم، يسددون لسادتهم ما يستحق لهم، ويكدسون الباقي لأنفسهم، وأن صورة زكا، تُلقي الأضواء على هذه الحقيقة، ولقد عملت جاذبية يسوع الساحرة، في اجتذاب هذه الطبقة المنبوذة إليه... ويقول "أوسترزي": { إن العين تستقر مرة بعد أخرى، على هذه الصورة التي أمامنا، ولها كل الحق في ذلك المنظر الذي سبى القلوب. صورة يسوع في مركز الدائرة، وقد أحاط به العشارون والخطاة. إنه الإنجيل، في قلب الإنجيل... وياله من أمر يدعو للتأمل، أن يشعر الخطاة في أنفسهم بالجاذبية الخفية ليسوع، ما أعظم هذا التأثير الفريد الذي تحدثه شخصيته، في قلوب المضطربين والمتألمين؟! وما أعظم سلامه الذي يفوق كل عقل؟! }" (330).
وأما الكتبة والفريسيون فلم يرق لهم هذا: "فَتَذَمَّرَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ قَائِلِينَ هذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ! فَكَلَّمَهُمْ بِهذَا الْمَثَلِ قِائِلًا" (لو 15: 2، 3)، وكان الفريسيون يُمثلون الطبقة المتطرفة التي تلتزم ليس بروح الناموس بل بحرفيته، بالإضافة إلى تقاليدهم الخاصة التي دعوها "تقليد الشيوخ"، وكانوا ينظرون لبقية الشعب على أنهم "شعب الأرض"، حتى أنهم قالوا: "لا تودع مالك لدى واحد من شعب الأرض ولا تقبل منه شهادة، ولا تأتمنه على سر ولا تقيمه وصيًا على يتيم... لا تجعله أمينًا على مال لأغراض خيرية ولا ترافقه في رحلة ما" (331). وكان الفريسيون لا يتزوجون ولا يزوجون غير الفريسيين، وينظرون للفريسي الذي يزوّج ابنه بأحد أبناء شعب الأرض، أي يهودي غير فريسي، كمن يلقي بها بين أنياب الأسد، وقلما يرسم القديس لوقا صورة تخلو من الفريسيين، سواء ظهروا في قلب الصورة أم على هامشها (راجع الدكتور القس إبراهيم سعيد - شرح بشارة لوقا، ص414).
هؤلاء الفريسيون هاجموا السيد المسيح لأنه يأكل مع العشارين والخطاة، فردَّ عليهم السيد المسيح بهذه الأمثلة الثلاثة التي تمثل بشارة خاصة منبثقة من البشارة العامة، فهيَ إنجيل مختصر، فهذه الأمثلة الثلاثة هيَ أبلغ تعبير عن المحبة الإلهيَّة الأبوية الرائعة تجاه الخطاة، وقمة هذه الأمثلة الثلاثة مَثَل الابن الضال، تاج أمثال المسيح، الذي قلّما يتغافله أي خادم في حديثه عن رجاء التوبة. لقد أعطى السيد المسيح ثلاثة أمثلة والهدف واحد، لكن هناك تباينات في قصة التوبة، فالخروف ضلَّ بسبب جهله دون أن يقصد، والدرهم أضاعته صاحبته دون أن تقصد، والابن الضال ضل بكامل إرادته، والأمثلة الثلاثة تنتهي نهاية مُفرحة، وتفرح السماء والأرض بعودة الخاطئ إلى بيت الآب. ويقول "القمص أنجيليوس جرجس": "إن هذا الأصحاح تحفة أدبية تصويرية، بالقصص هنا تصوّر عمل اللَّه ومشاعره مصاغة بصورة بشرية ليتعرف الإنسان عليها، لذلك نرى الشخصيات مرسومة بدقة، والمعنى واضح ومؤثر، والكلمات تحمل معاني البشارة والحياة الجديدة فلا يوجد من يقرأ هذه الأمثال إلاَّ وينجذب ويتأثر، فهيَ توضح بصورة رائعة جوانب العلاقة بين اللَّه والإنسان، تلك التي كانت خفية عنا، ولم يكن لنا أن نتصوَّر مهما تخيلنا عمق المحبة التي يُقدمها اللَّه للإنسان إلاَّ حينما كلمنا السيد المسيح بهذه الأمثال، فاللَّه هو الذي يبحث ويفتش عن الإنسان، وإن أخطأ بإرادته فهو ينتظره، بل يركض نحوه ليلاقيه في الطريق" (332).
ويقول "ماك نيكل" I. Mc Niecal: "هذا الفصل (الأصحاح) بجملته، يفيض بجمال فريد وترن في أجزائه نغمة الفرح، وكل من المثلين الأولين ينتهي بمقطع موسيقي متكرر يعكس فرح السماء بخلاص الخاطئ أما المثل الثالث الذي يشغل ثلثي الفصل فإنه يرتقي إلى أسلوب الشعر عندما تصل القصة إلى ختامها. وكل جزء من شقيها ينتهي بمقطع يعبر عن فرحة الأب بالعثور على ابنه المفقود ويكشف عن قلب الأب الأبوي... هذه الدرة من القصص كلها تنتهي بالمنظم التوقيعي للمقطع الموسيقي المماثل للعدد الرابع والعشرين" (333).
ويقول "الدكتور القس إبراهيم سعيد": "هذا الأصحاح هو عُقد دري انتظمت فيه ثلاث لآلئ لامعات، ومع أن لكل لؤلؤة منها جمالها الممتاز، ولكن المَثَل الثالث هو لولؤة اللآلئ ودرَّة الدرر. إن كل مَثَل من أمثال "المسيح" كنجم يتألق في سماء الكتاب، لكن هذه الأمثال الثلاثة هيَ الثريا، والمَثَل الثالث منها هو التاج، إذا ألقينا على هذه الثلاثة الأمثال نظرة عامة، رأيناها، مُجتمعة معًا، صورة كاملة للمحبة الإلهيَّة. فمَثَل الخروف التائه، يرينا محبة اللَّه ساعية وراء الخطاة، ومَثَل الدرهم المفقود، يرينا محبة اللَّه المحملة بأتعاب الأرض وغبارها، ومَثَل الابن الضال، يرينا محبة اللَّه المرحّبة بالخطاة... تقدم لنا الثلاثة الأمثال مجتمعة معًا، صورة كاملة لحقيقة التوبة والرجوع إلى اللَّه. فالمثلان الأولان، يظهران لنا عمل اللَّه في تخليص الخاطئ "يفتش عليه حتى يجده" والمَثَل الثالث يرينا سعي الخاطئ في رجوعه إلى اللَّه نتيجة دوافع النعمة الإلهيَّة...
في كل مَثَل من هذه الثلاثة الأمثال، نرى قيمة خاصة للشيء الضائع، فالخروف التائه واحد من مئة، والدرهم المفقود واحد من عشرة، والابن الضال واحد من اثنين... في المَثَل الأول نرى عمل المسيح الراعي الأعظم (الراعي الصالح)، هذا عمل الأقنوم الثاني في اللاهوت. وفي المَثَل الثاني نرى عمل الروح القدس ممثلًا في النور الذي بيد الكنيسة وهيَ تفتش عن الدرهم المفقود، هذا عمل الأقنوم الثالث في اللاهوت. وفي المَثَل الثالث نرى اللَّه الآب مرحّبًا بالابن الضال، هذا عمل الأقنوم الأول في اللاهوت" (334).
وقيل عن مَثَل "الابن الضال" لو وضِع في كفة، وكل ما أنتجته البشرية من أعمال العظماء مثل كونفوشيوس وزرادشت، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو وغيرهم في الكفة الأخرى لرجحت كفة مَثَل الابن الضال الذي تتجلى فيه طول أناة اللَّه ومحبته الغافرة ومراحمه التي لا تحد، ويقول "فارار": "ما قُدِم قط، في لغة البشر، مثل هذا المُحيط الفائض، بأمواج المحبة والحكمة، وقد رُكِزت كلها في كلمات قليلة خالدة، فكل سطر في المَثَل، فكل لمسه في الصورة، فائض الدلالات الروحية" (335).
ويقول "شتاير": "لو كان لنا الحق في المفاضلة ما بين أمثال المسيح التي قدمها في تعاليمها للبشرية، لقلنا أن هذا المَثَل هو الجوهرة التي تشع بنور باهر، بل تاج الأمثال جمعاء، وكم من الكلمات يلزم أن تعبر عن مشاعر الدهشة والاحترام، التي تتملكنا في دراسته؟ وكم يبدو المَثَل بسيطًا في عمقه، وعميقًا في بساطته؟ وكم يظهر بكل جلاء، وبدون أدنى تصنُّع صفحة من الحياة الإنسانية، ومع ذلك تفيض بأسرار الملكوت الإلهيَّة..؟ كم تستطيع الذاكرة أن تعي كلماتها وكم تتولد أفكار ومعاني خالدة من ثناياها؟..! كل كلمة فيها تسبي الضمير، مترابطة مع كافة أجزاء القصة... وفي كلمة واحدة نقول كم يبدو إلهيًّا إنسانيًا ذلك المَثَل الذي تقدم به المعلم الإلهي الإنساني؟ إنه يتعالى بصورة متميزة فريدة حتى لا يوجد هناك ما هو نظيره" (336).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
2- لماذا اختلف تناول القديس لوقا مَثَل الخروف الضال (لو 15: 4-7) عن القديس متى (مت 18: 12، 13)..؟ اللَّه هو الراعي الصالح، وهذه فكرة كتابية واضحة في العهدين القديم والجديد، وقال داود النبي " الرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ" (مز 23: 1) وقال الرب: "أَنَا أَرْعَى غَنَمِي وَأُرْبِضُهَا، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. وَأَطْلُبُ الضَّالَّ وَأَسْتَرِدُّ الْمَطْرُودَ وَأَجْبِرُ الْكَسِيرَ وَأَعْصِبُ الْجَرِيحَ وَأُبِيدُ السَّمِينَ وَالْقَوِيَّ وَأَرْعَاهَا بِعَدْل" (حز 34: 15، 16) (راجع أيضًا إر 23: 1 - 4، مي 4: 6، 7). وفي مَثَل الخروف الضال بين متى ولوقا نلاحظ الآتي:
أ– في إنجيل متى نجد أن مَثَل الخروف الضال موجه للتلاميذ، بينما في إنجيل لوقا المَثَل ردًا على المعترض على السيد المسيح لقبوله للخطاة والعشارين.
ب- في إنجيل متى الهدف من المَثَل أن يهتم الرعاة برعيتهم، ولا سيما الضعيف والضال، أما في إنجيل لوقا فالهدف من المَثَل هو إظهار دور اللَّه في البحث عن الضال، وأيضًا تبرير قبول المسيح للخطاة.
جـ- ركز القديس متى على دور الراعي الذي ترك التسعة والتسعين وذهب ليبحث عن الخروف الضال، أما القديس لوقا وقد ركز على فرح الراعي عندما عثر على خروفه الضال.
ولا عيب على الإطلاق في هذه التباينات، فإنها تكمل لنا الصورة، وهيَ ليست تعارضات ولا تناقضات على الإطلاق، فلم يذكر أحد الإنجيليين خبر أو معلومة وجاء الآخر ونفاها وقال عكسها، وهذا هو الهدف من الترتيب الإلهي لأربعة كتَّاب للإنجيل بدلًا من كاتب واحد، وقد سبق مناقشة هذا الموضوع بالتفصيل، فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد جديد - مقدمة (1) س59.
_____
(330) تفسير بشارة لوقا لكتَّاب مشهورين، ص183، 184.
(331) أورده وليم باركلي - تفسير العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص260.
(332) يوميات مع كلمة الحياة - إنجيل لوقا ص338.
(333) مركز المطبوعات المسيحية جـ 5 ص203.
(334) شرح بشارة لوقا، ص389-391.
(335) أورده دكتور عزت زكي - تفسير بشارة لوقا لكتَّاب مشهورين، ص190، 191.
(336) المرجع السابق، ص189، 190.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/604.html
تقصير الرابط:
tak.la/wgnwgp6