س584: هل هناك تعارض بين قول لوقا عن مجنون كورة الجدريين أنه خرج من المدينة (لو 8: 27)، وبين قول مرقس ومتى أنه خرج من القبور (مر 5: 2، مت 8: 28)؟ ولماذا سمح اللَّه للشيطان أن يتملك الإنسان (لو 8: 27)؟ ولماذا تتلذَّذ الشياطين بعذاب الإنسان (لو 8: 29)؟ وهل جهل يسوع من لمسه حتى سأل: "مَنِ الَّذِي لَمَسَنِي" (لو 8: 45)، وكيف استطاع كل الحاضرين أن يبدلوا مشاعرهم في لحظة (لو 8: 52، 53)؟
ج: 1- هل هناك تعارض بين قول لوقا عن مجنون كورة الجدريين أنه خرج من المدينة (لو 8: 27)، وبين قول مرقس ومتى أنه خرج من القبور (مر 5: 2، مت 8: 28)..؟ قال القديس لوقا: "وَلَمَّا خَرَجَ إِلَى الأَرْضِ اسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمَدِينَةِ كَانَ فِيهِ شَيَاطِينُ مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيل وَكَانَ لاَ يَلْبَسُ ثَوْبًا" (لو 8: 27) فالسيد المسيح بمجرد أن ترك السفينة كان في مواجهة أطراف المدينة، حيث يدفنون موتاهم، فالقبور كانت في أطراف المدينة، داخل زمام المدينة، وعندما قال القديس لوقا: "اسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمَدِينَة" كان يقصد منطقة القبور التابعة للمدينة، والدليل على هذا واضح وضوح الشمس، لأن القديس لوقا ذكر في نفس الآية السابقة: "وَلاَ يُقِيمُ فِي بَيْتٍ بَلْ فِي الْقُبُورِ" (لو 8: 27)، وهذا يتفق تمامًا مع قول القديس مرقس: "اسْتَقْبَلَهُ مِنَ الْقُبُورِ إِنْسَانٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ" (مر 5: 2)، وأيضًا يتفق مع قول متى البشير: "اسْتَقْبَلَهُ مَجْنُونَانِ خَارِجَانِ مِنَ الْقُبُورِ هَائِجَانِ جِدًّا" (مت 8: 28). بل أكد القديس متى بطريق غير مباشر أن منطقة القبور هذه كانت على طريق مسلوكة يسير الناس عليها، ولكن بسبب خطورة هذا الرجل تعطل السير في تلك الطريق: "حَتَّى لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَجْتَازَ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ" (مت 8: 28).
2- لماذا سمح الله للشيطان أن يتملك الإنسان (لو 8: 27)..؟ في الأصل أن الإنسان هو الذي يسلم نفسه للشيطان، وعلى حد تعبير القديس يوحنا ذهبي الفم أنه لا أحد يستطيع أن يؤذيك ما لم تؤذ أنت نفسك أولًا، فمن لا يُسلم نفسه للشيطان ويُقدِّم له الطاعة والخضوع لا يستطيع الشيطان أبدًا أن يقتحم حياته، واللَّه يسمح للشيطان أن يتملك الإنسان الذي سبق وأسلم نفسه له، حتى يكون بمثابة وسيلة إيضاح للآخرين، فيقول "القديس كيرلس الكبير": "ويسأل البعض قائلين لماذا تملك الشياطين على الناس..؟ إله الكل سمح للبعض أن يسقطوا تحت قوة الشيطان، ليس بقصد أن يعانوا، بل لكي ما نتعلم بمثالهم بأي طريقة تعاملنا الشياطين. وهكذا نتحاشى أي رغبة في أن نكون خاضعين لهم، لأنه بآلام واحد يُبنى كثيرون"(217).
فبالرغم من قوة الشياطين إلاَّ أنها داخل دائرة الضبط الإلهي، بدليل أن آلاف الشياطين عجزت عن دخول قطيع الخنازير بدون السماح الإلهي لها، فيقول "القديس أمبروسيوس": "يسمح يسوع للشياطين بأن يدخلوها لأن لا قوة لهم عليها، مع أنها أدنى خلق اللَّه. واستطرادًا لا قوة لهم على البشر الذين هم أسمى خلق اللَّه" (218). وعندما سمح يسوع المسيح للشياطين بدخول الخنازير كان ذلك لمنفعة الإنسان، كما أنه هو حر في خلائقه، فيعلم الإنسان تارة عن طريق الحيوان، وتارة عن طريق النبات عندما يبست شجرة التين، وهلم جرا... ويقول "القديس كيرلس الكبير": "أنهم (الشياطين) يسألونه أن ينالوا قوة على الخنازير وهذا يوضح أنه لم تكن لهم هذه القوة... ولكن أولئك (الشياطين) الذين ليس لهم قوة على الأشياء التافهة والتي لا قيمة لها، كيف يستطيعون أن يؤذوا أي واحد من الذين ختمهم المسيح والذين يضعون رجائهم فيه؟ لذلك فليتعزى قلبك ويستريح لأنك ربما فزعت عندما سمعت أن جمعًا من الأرواح الشريرة سكن في إنسان واحد وجعله يتجوَّل بين قبور الأموات في خزي وعري ومحرومًا من العقل والفهم... لذلك انهض قلبك إلى الثقة، ولا تفترض أن أي شيء من هذا يمكن أن يحدث، بينما المسيح يحوطنا بالحماية والحب. بالتأكيد أنهم لا يملكون قوة حتى على الخنازير... إن كان واحد بيننا شهواني وخنزيري ومُحب للقذارة ونجس، وملوث بإرادته بالخطية الكريهة، مثل هذا الإنسان يسقط بإذن من اللَّه تحت سلطانهم ويغرق في هاوية الهلاك... لكن لا يمكن أن يحدث لأولئك الذين يحبون المسيح أن يصيروا خاضعين لهم" (219).
3- لماذا تتلذَّذ الشياطين بعذاب الإنسان (لو 8: 29)..؟ السبب الرئيسي الذي يجعل الشيطان يتلذَّذ بعذاب الإنسان، لأن الإنسان هو صورة اللَّه، واللَّه هو الذي أمر بطرد الشيطان بعد السقوط من مملكته، ولأن الشيطان يرتعب من اللَّه ولا يقوى عليه لذلك ينتقم من صورة اللَّه، أي الإنسان، ويتلذذ بإذلاله وتعذيبه، حتى أن الميت يصير أفضل حالًا من إنسان في يد الشياطين. يقول "القديس كيرلس الكبير": "إنسان تسكنه أرواح نجسة كثيرة وكان خاليًا من العقل والفهم، ولا يختلف في أي شيء عن أولئك الذين ماتوا ودفنوا في الأرض، أو بالحري ربما كان في حالة أكثر بؤسًا، لأن الموتى يلفُّون بعناية بالأكفان ويوضعون في الأرض مثل من يوضع في حضن أمه. أما ذلك الإنسان ففي بؤس عظيم وعري كان يجول بين الموتى. وكان في تعاسة كاملة يعيش حياة مهينة حقيرة، وهذا كان برهانًا على قساوة الشياطين ودليلًا واضحًا على نجاستهم. وإلى جانب ذلك فإن هذا كان تهمة ضدهم على كراهيتهم للجنس البشري، لأنهم لا يريدون لأي إنسان على الأرض أن يكون متزنًا بل يرغبون أن يكون الجميع كسكارى ومجانين... لأن أي إنسان يمتلكونه ويخضعونه لسلطانهم، فإنه في الحال يجعلونه مثالًا لبؤس عظيم، محرومًا من كل بركة ومقفرًا من كل تعقل ومعدمًا كلية حتى من العقل نفسه" (220).
وسكنى الشيطان في الإنسان حقيقة وقد سبق مناقشة هذا الموضوع بالتفصيل، فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد جديد جـ 4 س305. ونضيف هنا قول "وليم ماكدونالد": "إن سكنى الشيطان داخل الإنسان هو أمر حقيقي، لذا لم يكن هؤلاء الشياطين مجرد تأثيرات، بل كانوا كائنات روحية سكنت هذا الإنسان، مسيطرة بذلك على كل من أفكاره، وكلامه وسلوكه. وكان هذا الصنف المحدَّد من الشياطين قد حوَّل هذا الرجل إلى إنسان متوحش جدًا، حتى أنه تمكن، تحت تأثير إحدى هذه النوبات العنيفة والحادة من قطع الربط التي أعدت لكبحه، الأمر الذي أتاح له الفرار إلى البرية. وسينفي منا كل شعور بالاندهاش، لدى تحقُّقنا من أنه كان يسكن داخل هذا الرجل الواحد عدد من الشياطين يكفي لهلاك نحو ألفي خنزير"(221).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
4- هل جهل يسوع من لمسه حتى سأل: "مَنِ الَّذِي لَمَسَنِي" (لو 8: 45)..؟ قد سبق مناقشة هذا التساؤل، فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد جديد جـ 4 س311. والحقيقة أن السيد المسيح، الإله المتأنس، العالِم بخفايا الأفكار والقلوب، لا يُخفى عليه أمر ما، وقد سأل: "مَنِ الَّذِي لَمَسَنِي" لكي يُعلن أمام الجميع عظمة إيمان هذه المرأة ويمتدحها، أنها مصباح متقد فمد السيد المسيح يده ليضعه على المنارة، وأيضًا لكي يزيل مخاوف المرأة ويطمئنها، أنها لم تأخذ هذا الشفاء اختلاسًا، إنما عن علم ورضى، وكذلك ليمنحها سلامه الذي يفوق كل عقل. لقد نالت هذه المرأة العظيمة الشفاء، ومديح المسيح في يوم واحد، وكم كانت سعادتها عندما سمعت صوت المسيح يقول لها: "ثِقِي يَا ابْنَةُ إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ". وذلك بعد أن عانت اثني عشر عامًا وأنفقت كل معيشتها على الأطباء، في وقت كانت أجرة الطبيب المُميَّز عشرين درهمًا في المرة، أي الأجر اليومي لعشرين عاملًا (راجع مكرم مشرقي - ما وراء الكلمات - خلفية العهد الجديد ص88)، وكانت هذه المرأة من قيصرية فيلبس، وعند عودتها إلى موطنها صنعت تمثالًا يخلد ذكرى شفائها، وظل هذا التمثال حتى زمن يوليانوس الجاحد الذي حطم التمثال، ووضع بدلًا منه تمثال له، إلاَّ أن عاصفة هوجاء أسقطته فتحطم (راجع دياكون دكتور ميخائيل مكسي إسكندر - تفسير الإنجيل بحسب ما كتبه القديس لوقا البشير). ونضيف هنا قول "الدكتور القس إبراهيم سعيد": "لم يقصد المسيح بهذا السؤال أن يستعلم عما لا يعلم، بل كان غرضه مزدوجًا:
(أ) لكي يهيئ المرأة لتنال الخلاص الروحي مع الشفاء الجسدي، فيؤكد لها أن شفاءها لم يُوخذ منه اغتصابًا، بل اختيارًا. وبذلك يطهر إيمانها من الجهل.
(ب) ولكي يُظهِر لتلاميذه الفرق العظيم بين من "يزحمونه" وبين من "يلمسونه" لأن الذين يزحمونه لا ينالون منه خيرًا. إذ أن صلتهم به كصلة البذار بالأرض المتحجّرة، لأنهم يزحمونه بمناكبهم ولا يتصلون به بقلوبهم. ولكن الذين يلمسونه يُكوّنون من لمستهم له مجرى روحيًّا، تسري فيه بركات المسيح إليهم" (222).
5- كيف استطاع كل الحاضرين أن يبدّلوا مشاعرهم في لحظة (لو 8: 52، 53)..؟ قال القديس لوقا: "وَكَانَ الْجَمِيعُ يَبْكُونَ عَلَيْهَا وَيَلْطِمُونَ. فَقَالَ لاَ تَبْكُوا. لَمْ تَمُتْ لكِنَّهَا نَائِمَةٌ. فَضَحِكُوا عَلَيه عَارِفِينَ أَنَّهَا مَاتَتْ" (لو 8: 52، 53)، وقد حدث هذا التغيُّر في لحظة لأنها لم تكن مشاعر صادقة بل مشاعر مزيَّفة، من قبل المجاملة والتظاهر، فهذا الجمع الذي زحم البيت لم يكن الأمر يعنيهم كثيرًا. فهيَ ليست ابنتهم ولكنهم من المجاملين الذي عاشوا لحظات تمثيل، متأثرين ببكاء النادبات المستأجرات اللواتي يجدن تمثيل مظاهر الحزن والبكاء، بعيدًا عن المشاعر الصادقة، ولذلك كان من السهل على هؤلاء المجتمعات أن تنقلب مشاعرهم من البكاء واللطم إلى الضحك والفكاهة، بل أقول أن مشاعرهم وهم يضحكون كانت مشاعر صادقة، بينما كانت مشاعر الحزن والبكاء لديهم مزيَّفة. أما "القديس كيرلس الكبير" فيرى في ضحك هذا الجمع المزدحم هو تأكيد لحقيقة موت الفتاة، حتى لم يعد هناك مجال لإنكار قيامتها من الموت، فيقول: "وأرجو أن تلاحظوا هنا المهارة العظيمة في التعامل، فرغم أنه عرف جيدًا أن الصبية كانت ميتة لكنه قال: "لَمْ تَمُتْ لكِنَّهَا نَائِمَةٌ" ولماذا قال هذا؟ فإنهم بضحكهم عليه أعطوا اعترافًا واضحًا أن الصبية قد ماتت، لأنه من المحتمل أن يكون هناك بعض من تلك الفئة التي كانت دائمًا تقاوم مجده، أولئك الذين يرفضون المعجزة الإلهيَّة ويقولون أن الصبية لم تكن قد ماتت بعد، وأنه بانقاذها من المرض لم يكن هناك شيء فوق العادي فعله المسيح. لذلك فلكي ينتزع اعتراف كثيرين أن الصبية قد ماتت قال: "لكِنَّهَا نَائِمَةٌ" ولا يستطيع إنسان أن يقرّر أن المسيح تكلم بغير الحق، فإنه بالنسبة إليه إذ هو نفسه الحياة بالطبيعة، ليس هناك شيء ميت. أهذا هو السبب الذي يجعلنا نحن الذين لنا رجاء ثابت في قيامة الموتى، أن نُسمِّيهم "الراقدين" لأنهم سيقومون في المسيح"(223).
_____
(217) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص205.
(218) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص231.
(219) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص207، 208.
(220) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص205.
(221) الإنجيل بحسب لوقا، ص289.
(222) شرح بشارة لوقا، ص209.
(223) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص217، 218.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/584.html
تقصير الرابط:
tak.la/5598py4