س321: كيف أوصى السيد المسيح تلاميذه قائلًا: "مَجَّانًا أَخَذْتُمْ، مَجَّانًا أَعْطُوا. لاَ تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاسًا فِي مَنَاطِقِكُمْ... وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصًا" (مت 10: 8 - 10)، بينما كان مع يهوذا الصندوق الذي يحملون فيه التبرعات التي يعيشون منها (يو 12: 6)؟ وهل نهاهم عن حمل اقتناء الأحذية والعصا، أم أنه سمح لهم: "لاَ يَحْمِلُوا شَيْئًا لِلطَّرِيقِ غَيْرَ عَصًا فَقَطْ... بَلْ يَكُونُوا مَشْدُودِينَ بِنِعَال" (مر 6: 8، 9)؟ (راجع علاء أبو بكرـ البهريز جـ 2 س302 ص280، س311 ص289، والبهريز جـ 4 س194 ص176، ونبيل نيقولا جورج - الأناجيل الأربعة لماذا لا يعول عليها ص135).
ج: 1ــ كان السحرة وأصحاب الجان والعرافة يتربحون من عملهم هذا ويغتنون منه، وهذا ما فعله أصحاب جارية فيلبي التي كان بها روح عرافة، وعندما أخرج بولس الرسول هذا الروح الشرير قائلًا: "أَنَا آمُرُكَ بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا. فَخَرَجَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ. فَلَمَّا رَأَى مَوَالِيهَا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ رَجَاءُ مَكْسَبِهِمْ أَمْسَكُوا بُولُسَ وَسِيلاَ وَجَرُّوهُمَا إِلَى السُّوقِ إِلَى الْحُكَّامِ" (أع 16: 18، 19)، وسيمون الساحر عندما رأى مواهب الروح القدس ظن أن هذه تجارة رابحة فأراد إقتناء هذه القوة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. " وَلَمَّا رَأَى سِيمُونُ أَنَّهُ بِوَضْعِ أَيْدِي الرُّسُلِ يُعْطَى الرُّوحُ الْقُدُسُ قَدَّمَ لَهُمَا دَرَاهِمَ قَائِلًا أَعْطِيَانِي أَنَا أَيْضًا هذَا السُّلْطَانَ... فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ لِتَكُنْ فِضَّتُكَ مَعَكَ لِلْهَلاَكِ،لأَنَّكَ ظَنَنْتَ أَنْ تَقْتَنِيَ مَوْهِبَةَ اللَّه بِدَرَاهِمَ" (أع 8: 18 - 20) وكان الرب يسوع يعلم جيدًا أن الرسل عندما يشفون المرضى ويقيموا المفلوجين والموتى، فلا بد أن أهل المريض أو الميت سيحاولون تقديم عطايا جزيلة مقابل هذا للآباء الرسل، لذلك حذرهم من هذه المصيدة قائلًا: "مَجَّانًا أَخَذْتُمْ مَجَّانًا أَعْطُوا" (مت 10: 8)، فلا يمكن أن مواهب الروح القدس تُباع بالمال، وعندما يسعى شخص للحصول على نعمة الكهنوت مقابل المال فإن الكنيسة تدعو هذا "سيمونية" نسبة لسيمون الساحر الذي حاول شراء مواهب الروح القدس بدراهم، لذلك وضع المعلم الصالح القانون الخالد في كنيسته إلى نهاية الدهور " مَجَّانًا أَخَذْتُمْ مَجَّانًا أَعْطُوا".
ويقول "متى هنري": "إن الذين أُعطي إليهم السلطان لشفاء كل الأمراض كانت لهم الفرصة للإثراء. لأنه من ذا الذي لا يشتري مثل هذا الشفاء الميسور الأكيد بأي ثمن؟ لذلك حذرهم المسيح من إنتهاز الفرصة للإنتفاع ماديًا بالسلطان الذي أُعطي إليهم لعمل المعجزات، يجب أن يشفوا مجانًا... والسبب في أنكم " مَجَّانًا أَخَذْتُمْ " لم تكلفهم قوة شفاء المرضى شيئًا، بذلك ينبغي أن لا ينتفعوا منها إنتفاعًا ماديًا. ولو لم يكن سيمون الساحر يرجو الحصول على ربح مادي من وراء مواهب الروح القدس لما عرض أن يشتريها بالمال (أع 8: 18)" (826).
ويقول "الأب متى المسكين": "مجانًا مجانًا، لأن الأجرة في الجيب تليق بالعبيد وخدَّام الأصنام والمدَّعين والأنبياء الكذبة. أما تلاميذ الرب ورافعوا البخور والصلوات والذين قدَّموا أنفسهم ذبائح ناطقة فلا يستبدلون النعمة والروح القدس بذهب وفضة، والموهبة لا يُدفع ثمنها... بمعنى أن يكون الخادم والكارز والمُرسَل قد نقى قلبه وضميره من شهوات خيرات الرعية وبريق ذهب العالم وحاجياته وأدواته الحديثة وتحفه.." (827).
أما الصندوق الذي أؤتمن عليه يهوذا فكان لوضع التبرعات التي يعيش منها السيد المسيح وتلاميذه الذين إنشغلوا بالكرازة، حتى أن جميع التلاميذ قد تركوا أعمالهم، مفضلين التلمذة على يد معلم الفضيلة الأول. ولا ننسى أن السيد المسيح هو الإله المتجسد، واللَّه هو قابل التبرعات والهبات والعطايا والعشور، فقبول العطايا من الشعب لا يُعد مخالفة لوصية عدم إقتناء شيئًا من الذهب والفضة والنحاس... إلخ. وكانت: "مَرْيَمُ الَّتِي تُدْعَى الْمَجْدَلِيَّةَ... وَيُوَنَّا امْرَأَةُ خُوزِي وَكِيلِ هِيرُودُسَ وَسُوسَنَّةُ، وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ كُنَّ يَخْدِمْنَهُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ" (لو 8: 2، 3)، وعندما أرسل السيد المسيح تلاميذه للكرازة أوصاهم أن لا يقتنوا شيئًا: "لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِق طَعَامَه" (مت 10: 10).. " وَأَقِيمُوا فِي ذلِكَ الْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِق أُجْرَتَهُ" (لو 10: 7). وصار هذا أمرًا مستقرًا في الكنيسة، فالكاهن لا عمل له إلاَّ الكهنوت، ولذلك قال الكتاب: "أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الأَشْيَاءِ الْمُقَدَّسَةِ مِنَ الْهَيْكَلِ يَأْكُلُونَ. الَّذِينَ يُلاَزِمُونَ الْمَذْبَحَ يُشَارِكُونَ الْمَذْبَحَ. هكَذَا أَيْضًا أَمَرَ الرَّبُّ أَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَ بِالإِنْجِيلِ مِنَ الإِنْجِيلِ يَعِيشُونَ" (1كو 9: 13، 14) 0 وقديمًا كان سبط لاوي بأكمله مخصَّص ومكرَّس للخدمة فكان يعيش من عشور الشعب: "إِنَّ عُشُورَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي يَرْفَعُونَهَا لِلرَّبِّ رَفِيعَةً قَدْ أَعْطَيْتُهَا لِلاَّوِيِّينَ نَصِيبًا. لِذلِكَ قُلْتُ لَهُمْ فِي وَسَطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ يَنَالُونَ نَصِيبًا" (عد 18: 24).. " لأَجْلِ ذلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلاَوِي قِسْمٌ وَلاَ نَصِيبٌ مَعَ إِخْوَتِهِ. الرَّبُّ هُوَ نَصِيبُهُ كَمَا كَلَّمَهُ الرَّبُّ إِلهُكَ" (عد 10: 9). ويقول الربي "اليعازر بن يعقوب": "كل من يقبل معلمًا في بيته، ضيفًا عليه ويجعله يتمتع من ممتلكاته، يكون كمن قدم ذبائح مستديمة" (828). فالخدام المكرسون للَّه من حقهم أن يعيشوا عيشة كريمة من خدمتهم، ولكن ليس من حقهم الإغتناء واقتناء الثروة من خدمتهم، وإلاَّ فأنهم يستوفون أجرتهم في هذه الأرض، وقال بولس الرسول: "إِنْ كُنَّا نَحْنُ قَدْ زَرَعْنَا لَكُمُ الرُّوحِيَّاتِ أَفَعَظِيمٌ إِنْ حَصَدْنَا مِنْكُمُ الْجَسَدِيَّات" (1 كو 9: 11).. " وَلكِنْ لِيُشَارِكِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْكَلِمَةَ الْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ الْخَيْرَات" (غل 6: 6).
2ــ أوصى السيد المسيح تلاميذه قائلًا: "لاَ تَقْتَنُوا ذَهَبًا... وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصًا" (مت 10: 9، 10)، بينما جاء في إنجيل مرقس: "وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَحْمِلُوا شَيْئًا لِلطَّرِيقِ غَيْرَ عَصًا فَقَطْ" (مر 6: 8)، فالرسل في كرازتهم لا يحملون شيئًا للطريق لأن اللَّه سيدبر كل احتياجاتهم، لا ذهب ولا فضة ولا أموال، ولا مقتنيات ولا ثوبين، مكتفين بحمل عصا تساعدهم في السير لمسافات طويلة يتؤكون عليها، ويزجرون بها الكلاب الضالة. أما ما جاء في إنجيل متى فالسيد المسيح يوصيهم بأن لا يقتنوا أحذية ولا عصا عن طريق الشراء. إذًا المعنى:
أ - إن لم يكن لدى الرسول عصا لا يهتم بشراء عصى، إنما يذهب كما هو، وإن كان معه عصا يأخذها معه.
ب - العصا (شفط) الذي نهى السيد المسيح عن حملها في إنجيل متى هيَ التي تستخدم كسلاح للهجوم أو الدفاع عن النفس، أما العصا (ميشخن) التي سمح السيد المسيح بحملها في إنجيل مرقس فهيَ التي تستخدم كعكاز يتوكأ الإنسان عليه أثناء سيره. (راجع الأسقف ايسيذورس - مشكاة الطلاب في حل مشكلات الكتاب ص463).
الأمر واضح في استخدام الأحذية، ففي إنجيل مرقس: "يَكُونُوا مَشْدُودِينَ بِنِعَال" (مر 6: 9)، بينما نهى السيد المسيح في إنجيل متى عن اقتناء أحذية، وبالطبع أن المعنى المقصود ليس أن يسير الرسول حافي القدمين من بلد إلى بلد. إذًا المقصود في إنجيل متى عدم اقتناء أحذية إضافية، بل يكتفي الرسول بالحذاء الذي يرتديه، مثلما حدث مع القديس مرقس الذي لم يحمل في سفرياته بين الدول حذاءًا إضافيًا، فبينما كان عائدًا من ليبيا إلى مدينة الإسكندرية قُطع حذاءه، فذهب لدى الإسكافي أنيانوس ليصلحه، وعندما اخترق المخراز يد أنيانوس وصرخ يا اللَّه الواحد... من هنا بدأت الكرازة في مصر وكان أنيانوس وأهل بيته باكورة المؤمنين في أرض مصر.
ويقول "دكتور وليم إدي": "لا ثوبين ولا أحذية ولا عصا ليس المُراد بهذا منعهم من أخذ الحذاء والعصا وما أشبه ذلك، بل منعهم من أخذ مضاعف شيء من تلك الأمور وذلك ظاهر من بشارة مرقس (مر 6: 8، 9)، فلا مناقضة بين متى ومرقس لأن مُراد الأول أن لا يأخذوا أثوابًا غير التي عليهم ولا يحملون أحذية غير ما في أرجلهم ولا عصا غير ما في أيديهم... قصد المسيح بمنعهم عما ذكر أن يكونوا بلا ثقل في جولاتهم ليتمّموا ذلك بسرعة، ولثقته أن الناس الذي يذهبون إليهم يقدمون لهم ما يحتاجون إليه. ولعل المُراد بذلك أن يذهب كل من الرسل بما هو عليه بلا أهمية، فالذي له عصا فليأخذه كما قال مرقس، ومن ليس له فليذهب بلا عصا كما هو ظاهر في كلام متى" (829).
_____
(826) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص324، 325.
(827) الإنجيل بحسب القديس متى ص356 ، 357.
(828) أورده وليم باركلي - تفسير العهد الجديد جـ 1 ص216.
(829) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل جـ 1 شرح بشارة متى ص152.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/321.html
تقصير الرابط:
tak.la/pd69z8q