س322: هل كان المطلوب من رسل المسيح أنهم متى دخلوا مدينة أن يفتشون في ضمائر الناس ويبحثون ويفحصون عن المستحق لكي يقيموا عنده (مت 10: 11)؟ وما معنى قول المسيح: "فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مُسْتَحِقًّا فَلْيَأْتِ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ" (مت 10: 13)، فهل السلام أمر مادي يذهب ويرجع؟ ولماذا ينفضون غبار أرجلهم متوعّدين من يرفضهم بالنار الأبدية؟ وكيف تزيد دينونة الرافضين للرسل عن دينونة أهل سدوم وعمورة؟
ج: 1ــ أراد السيد المسيح من الرسل أنهم متى دخلوا مدينة يكون تركيزهم الأول والأخير على البشارة بالملكوت، وأن يتمتعوا بروح الإفراز، فيقيمون في بيت له سمعة طيبة، ولا ينتقلون من بيت إلى بيت حتى لا تتحوَّل الكرازة إلى مجاملات وولائم، ولا يسعون للإقامة عند الأثرياء إنما يقيمون لدى من توسَّموا فيهم روح التقوى، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فإن اللَّه أرسل إيليا ليقيم في بيت أرملة صرفة صيدا، فحلت البركة في هذا البيت. عندما بشَّر بولس الرسول في مدينة فيلبي، فإن ليديا بائعة الأرجوان: "لَمَّا اعْتَمَدَتْ هِيَ وَأَهْلُ بَيْتِهَا طَلَبَتْ قَائِلَةً إِنْ كُنْتُمْ قَدْ حَكَمْتُمْ أَنِّي مُؤْمِنَةٌ بِالرَّبِّ فَادْخُلُوا بَيْتِي وَامْكُثُوا. فَأَلْزَمَتْنَا" (أع 16: 15)، وفي كورنثوس أقام بولس الرسول لدى أكيلا وبريسكلا، وهما مؤمنون أتقياء، وعندما تركهما: "وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ رَجُل اسْمُهُ يُوسْتُسُ كَانَ مُتَعَبِّدًا للَّه" (أع 18: 7). وبالطبع ليس المقصود أن الرسل عندما يدخلون مدينة أن يبحثوا ويفحصوا ويسألوا عن أفضل إنسان فيها، وأن يثبتوا ذلك بشهادة الشهود، فإن هذا حتمًا سيثير روح الحسد والغيرة والخصام، وقد يؤدي إلى فشل الكرازة، إنما المقصود أن يكون لديهم روح التمييز والإفراز، فربما يدعوهم أحد الأشخاص الأغنياء بغرض التباهي والتفاخر وهو أبعد ما يكون عن روح التقوى... فهل يذهبون معه؟!
ويقول "متى هنري": "يُفهم من هذا أنه كان يوجد في كل مكان من هم أكثر ميلًا لقبول الإنجيل والذين ينادون به، رغم أن ذلك الوقت كان وقتًا للفساد... في أشر الأوقات وأفسد الأمكنة يمكننا أن نحيي الرجاء بأنه يوجد من يتميَّزون عن غيرهم، من هم أفضل من أقربائهم من يستطيعون مقاومة التيار، من هم كالحنطة وسط التبن. لقد كان في بيت نيرون قديسون.
" فَافْحَصُوا مَنْ فِيهَا مُسْتَحِق " من يوجد خوف اللَّه أمام أعينهم، من أحسنوا الانتفاع بما لديهم من نور ومعرفة... أنه يوجد من يعطون أذنًا صاغية للرسل ورسالتهم أكثر من غيرهم... فإن من كان أفضل من غيره لا بد أن يكون معروفًا، ولا بد أن يخبرهم أي واحد، هنا يعيش رجل أمين وصالح ونزيه. لأن الصفات الطيبة تفصح عن نفسها كالرائحة الزكية التي تغطي كل أرجاء البيت، كان كل واحد يعرف بيت الرائي (1 صم 9: 18)" (830).
2ــ قال السيد المسيح لتلاميذه: "وَحِينَ تَدْخُلُونَ الْبَيْتَ سَلِّمُوا عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مُسْتَحِقًّا فَلْيَأْتِ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ وَلكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا فَلْيَرْجعْ سَلاَمُكُمْ إِلَيْكُمْ" (مت 10: 13) فالتلاميذ لا يهبون كلامًا مهرقًا في الهواء، إنها يهبون عطية السلام، فإن قبلوا هذه العطية أخذوا بركتها، وإن لم يقبلوها ترجع العطية للرسل، مثل صلاة داود: " وَصَلاَتِي إِلَى حِضْنِي تَرْجعُ" (مز 35: 13). وواضح أن السلام عطية من قول المسيح لتلاميذه قبل أن يتركهم: "سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ" (يو 14: 27). ويقول "القمص تادرس يعقوب": "إنه لا يقدم السلام كما يقدمه العالم، تحية كلامية شكلية، بل بركة حقيقية تتمثل في تقديم ذاته لمؤمنيه. هذا السلام لا يمكن للعالم بكل إمكانياته أن يقدمه ولا بكل أحزانه أن يسحبه من المؤمن. لأن ما يعطيه العالم يمس الجسد ويُحد بالزمن والمكان، أما سلام المسيح فيحتضن كيان الإنسان كله، ولا يقدر زمن ما أو مكان ما أن يحده. أنه يسحب أعماق الإنسان لتختبر الأبدية" (831).
3ــ أوصى السيد المسيح تلاميذه قائلًا: "وَمَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ كَلاَمَكُمْ فَاخْرُجُوا خَارِجًا مِنْ ذلِكَ الْبَيْتِ أَوْ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَانْفُضُوا غُبَارَ أَرْجُلِكُمْ" (مت 10: 14) لأن من يرفض الرسل فهو يرفض ملكوت السموات الذي يبشرون ويكرزون به، فكرازتهم تمحوَّرت حول: "قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ" (مت 10: 7)، ومن يرفض الملكوت ماذا سيكون مصيره؟! بلا شك فإن مصيره الهلاك: "الَّذِي يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّه" (يو 3: 36). ونفض غبار الأرجل علامة على أن الرسل أبرياء من هذه المدينة، فهم يقدمون شهادتهم عليها، كما أنهم لا يرغبون أن يلتصق بهم أي شيء من هذه المدينة الهالكة. قديمًا عندما عالج نحميا مشكلة الربا الذي يأخذه الأغنياء من الفقراء يقول: "ثُمَّ نَفَضْتُ حِجْرِي وَقُلْتُ هكَذَا يَنْفُضُ اللَّه كُلَّ إِنْسَانٍ لاَ يُقِيمُ هذَا الْكَلاَمَ مِنْ بَيْتِهِ وَمِنْ تَعَبِهِ وَهكَذَا يَكُــونُ مَنْفُوضًا وَفَارِغًا" (نح 5: 13). ونفض غبار الأرجل عادة يهودية قديمة، فكان الفريسيون عندما يغادرون مكانًا نجسًا كانوا ينفضون غبار أرجلهم، وكان اليهود الأتقياء عند مغادرتهم مدن الأمم كانوا ينفضون غبار أرجلهم كإعلان لانفصالهم عن سلوكيات هؤلاء الأمم وعقائدهم الفاسدة، وعندما ينفض التلاميذ الغبار الذي لصق بأرجلهم أمام مدينة يهودية وليست أممية فكأنهم يعلنون رفض هذه المدينة للمسيح وانفصال المسيح عنها، لأنهم اختاروا التراب والترابيات عن المجد الأبدي. وعندما رفض يهود أنطاكية بيسيدية كرازة بولس وبرنابا: "وَأَخْرَجُوهُمَا مِنْ تُخُومِهِمْ. أَمَّا هُمَا فَنَفَضَا غُبَارَ أَرْجُلِهِمَا عَلَيْهِمْ" (أع 13: 50، 51)، وعندما رفض يهود كورنثوس كرازة بولس: "وَإِذْ كَانُوا يُقَاوِمُونَ وَيُجَدِّفُونَ نَفَضَ ثِيَابَهُ وَقَالَ لَهُمْ دَمُكُمْ عَلَى رُؤُوسِكُمْ أَنَا بَرِيءٌ. مِنَ الآنَ أَذْهَبُ إِلَى الأُمَمِ" (أع 18: 6) وعندما كان ينفض الرسل غبار أرجلهم شهادة على مدينة رافضة، لم يكونوا يتوعدون أهلها بالنار الأبدية، فإن من يتابع الحديث بأمانة، يرى أن السيد المسيح قد أخبر تلاميذه بمصير هذه المدينة الرافضة قائلًا: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَــوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالًا مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَة" (مت 10: 15). وعندما أدان السيد المسيح كفر ناحوم مدينته لأنها رفضت كرازته، قال: "وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ تَكُونُ لَهَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالًا يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكِ" (مت 11: 24). فالذين يرفضون البشارة بالإنجيل ويهزأون به ستكون دينونتهم أقسى من دينونة عقوبة سدوم التي: "جُعِلَتْ عِبْرَةً مُكَابِدَةً عِقَابَ نَارٍ أَبَدِيَّة" (يه 7)، لأن سدوم وعمورة لم تتاح لهم فرصة الكرازة ببشارة الملكوت ولم يروا وجه المسيح قط، وجاء في كتاب: "الغوامض المتعلقة بالمبادئ العمومية الأدبية الواردة في العهدين القديم والجديد" ص235: "فإذا قارنا بين خطية أهل سدوم مع ضعف النور الأدبي الذي كان لهم وقلة وسائط المعرفة الدينية التي لم يعرفوا شيئًا عنها وبين أهل فلسطين مع انتشار نور الشريعة وتوافق الظروف الملائمة ووجود السيد بنفسه بينهم نحكم بلا تردد بزيادة مذنوبية هؤلاء وتشديد الدينونة عليهم بدرجة ما كان لهم من النور الزائد والظروف الموافقة".
_____
(830) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص326، 327.
(831) الإنجيل بحسب يوحنا ص980، 981.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/322.html
تقصير الرابط:
tak.la/djhg4r8