س 57 : هل ذكر القرآن كلمة "الإنجيل"، وكم مرة استخدمها؟ وهل كتابة القرآن بلسان عربي مبين يعني أن كلمة "إنجيل" كلمة عربية؟ وكيف يكون الإنجيل خبر مُفرح وهو يحمل خبر موت الإله؟ وما هيَ علاقة كلمة "إنجيل" اليونانية بلغة يسوع الآرامية؟
قال "أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي": "الإنجيل: هو كتاب الله السماوي المنزَّل على المسيح (عليه السلام)، حيث يؤنَّث ويُذكّر، فمن أنَّث أراد الصحيفة ومن ذكَّر أراد الكتاب، والإنجيل مثل الإكليل والإخريط وقيل اشتقاقه من النجل الذي هو الأصل، ويُقال: هو كريم النجل أي الأصل والطبع، والإنجيل إفعيـل من النجل وهو الأصل، فالإنجيل أصل لعلوم وحِكم، وقيل: هو من نجلت الشيء إذا استخرجته، فالإنجيل مستخرج به علوم وحِكم"(332).
ويقول "علاء أبو بكر": " س135: ينتشر معنى كلمة "إنجيل" على أنها البشارة السارة، والخبر المُفرح، انتشار النار في الهشيم. ويعنون بهذه البشارة المُفرحة موت الإله تكفيرًا لخطاياهم ومغفرة للخطية الأولى التي ارتكبتها (حواء). فلك أن تتخيل أن موت إله المحبة والمغفرة والعطاء يكون خبر سار، وبشارة مُفرحة. وهذا على الرغم من أن يسوع في حياته لم يتكلم عن خطيئة حواء وآدم، ولا عن غفران الذنوب بموت الإله. فلا يعرف مسيحي، ويكاد يتبعهم معظم المسلمين في ذلك، ويقولون أنها مشتقة من الكلمــة اليونانية (أفاجليون). وتناسوا أن هذا ليس له علاقة بلغة يسوع نفسه الذي كان يتكلم الآرامية. لكن ما هيَ علاقة يسوع وتلاميذه باللغة اليونانية؟ وما هيَ الكلمة التي كان ينطق بها يسوع؟ فإذا كانت قد ضاعت فلماذا تتحدثون عن حفظ الله لكتابكم، وقد ضاعت لغة معلمكم التي بها يتضح المراد، لأن الترجمة تغير من المعنى" (333).
جاءت كلمة "الإنجيل" بنفس اللفظ في القرآن اثنى عشرة مرة:
1ـــ " وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ" (آل عمران 3).
2ـــ " وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ" (آل عمران 48).
3ــــ " وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ" (آل عمران 65).
4ـــ " مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُور" (المائدة 46).
5ـــ " وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ" (المائدة 47).
6ـــ " وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ" (المائدة 66).
7ـــ " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ" (المائدة 68).
8ـــ " وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ" (المائدة 110).
9ـــ " النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِــي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ" (الأعراف 157).
10ـــ " وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ" (التوبة 111).
11ـــ " ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ" (الفتح 29).
12ـــ " وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ" (الحديد 27).
ويمكن تدوين الملاحظات الآتية:
1ـــ بالرغم من أن القرآن كُتب بلسان عربي مُبين " وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ" (النحل 103).. " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (يوسف 2) (راجع أيضًا طه 113، الشعراء 195، والزمر 28، وفصلت 44، والشورى 7، والزخرف 3، والأحقاف 12)، على الرغم من كل هذه التأكيدات إلاَّ أنه استخدم الكلمة كما هيَ "الإنجيل" وهيَ كلمة يونانية وليست عربية، فهو أبقى على الكلمة بنفس اللفظ اليوناني، ولم يترجمها للعربية.
2ـــ نسب القرآن الإنجيل ليسوع المسيح (عيسى بن مريم)، كما جاء ذكره غالبًا مرتبطًا بالتوراة.
3ـــ أوضح القرآن أن الله أنزل الإنجيل فيه نور وهدى.
4ـــ دعى القرآن المسيحيين بأهل الإنجيل (المائدة 47).
5ـــ ذكر القرآن بعض الأحداث التي وردت في الأناجيل الأربعة مثل بشارة الملاك لزكريا الكاهن، وبشارته للعذراء مريم، وميلاد السيد المسيح المعجزي، ومعجزاته العجيبة... إلخ.
قال البعض أن الإنجيل اسم عربي مشتق من "النجل" أي الأصل والطبع، كقولنا عن شخص أنه كريم النجل، وهو من الفعل "إفعيل" (راجع محمد مرتضى الزبيدي - تاج العروس في جواهر القاموس مجلد (8) ص 138 ودكتورة سارة بنت حامد - التحريف والتناقض في الأناجيل الأربعة - ص 17، 22، 23).
وهذا رأي فردي ضعيف لا يُعتد به أخذت به دكتورة سارة من محمد مرتضى، بينما أكد كبار الأئمة والمفسرين أن "الإنجيل" اسم أعجمي، وليس كلمة عربية مشتقة من النجل، ولا من الفعل "إفعيل" (بكسر الهمزة) لأن الحسن قال: " وليحكم أهـل الأَنجيل" (بفتح الهمزة)، وكون القرآن يستخدم كلمة أعجمية ليس بالأمر الفريد، لأنه استخدم كلمات كثيرة من عدة لغات، فاستخدم كلمات سريانية مثل: "الطور" و "سورة"، وكلمات عبرانية مثل "جهنم"، و "ماعون"، و "طه"، و "سينين"، وكلمات فارسية مثل: "أباريق" و "إستبرق"، و "سرادق"، وكلمات هندية مثل: "سندس"، وكلمـات يونانية مثـل: "إنجيل"، و "سريّا"، وكلمات حبشيــة مثـل: "مشكاة"، و "دري"، و "قسورة"، وكلمات قبطية مثل: "وراءهم"، و "بطائنها"، و "تابوت"، وكلمات بهلوية مثل: "زنجبيل"، و "سجيل"، و "فردوس" (راجع كتاب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي جـ 1 ص 839، والبرهان في علوم القرآن للزركشي).
ويقول "الدكتور منذر الحايك": " الإنجيل كلمة معرَّبة عن اليونانية وتعني البشارة أو الخبر السار، أمَّا السيد المسيح فقد استخدم كلمة إنجيل بمعنى "بشرى الخلاص" التي أتى بها للناس، ونراها أيضًا بمعنى "ملخص تعاليم المسيح" لأنها تضم مسيرة حياة السيد المسيح التي يوجد فيها معنى الخلاص أيضًا. وفيما بعد استخدمت هذه الكلمة بمعنى الكتاب الذي يتضمن هذه البشرى، وقد غلب استعمالها بمعنى الكتاب منذ أواخر القرن الأول الميلادي وحتى اليوم.
والأناجيل هيَ كُتب دوّنت فيها سيرة وأقوال وأعمال السيد المسيح من قِبل رُسُلهِ، حيث أن بعضًا منها دوَّن ما شاهد وسمع بطريقته وأسلوبه. وليست نصوص الأناجيل كنصوص القرآن الكريم: كلمات محددة منزّلة حرفيًا عن ذات الله سبحانه، إنما تعد الكنيسة أن الروح القدس قد ألهم هؤلاء الرسل بما يكتبونه" (334).
1ـــ لا أحد يُنكر ارتباط الإنجيل بعمل السيد المسيح الفدائي على الصليب، ففي موته حياة للبشرية، إذ تحمل عنها حكم الموت، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ويقول "وليم ماكدونلد": " وأما أساس الإنجيل فهو عمل المسيح على الصليب (1كو 15 : 1 - 4)، فهناك وفَّى مُخلِّصنا له المجد كل مطالب العدالة الإلهيَّة، حتى يصبح بمقدور الله أن يبرر الخطاة الذين يؤمنون. فمؤمنوا العهد القديم خلصوا بواسطة عمل المسيح مع أنه لم يكن قد حصل في ذلك الوقت، ولربما لم يعرفوا الكثير عن المسيح، ولكن الله عرف، ونسب قيمة عمل المسيح لحسابهم، أي أنهم خلصوا "بالدين" إذا جاز التعبير. ونحن أيضًا خلصنا بعمل المسيح، ولكن كان عمل المسيح بالنسبة لنا قد أُكمل" (335).
2ــــ قول الناقد أن الإنجيل حمل خبر موت الإله فكيف يكون بشارة مُفرحة؟ يعبر عن نصف الحقيقة فقط، ولو كان الأمر انتهى بموت المسيح على الصليب لكانت نهاية مأساوية لا تحمل خبرًا طيبًا، وهذا ما ركز عليه "علاء أبو بكر" إذ ذكر نصف الحقيقة وتجاهل النصف الآخر... وما هو نصف الحقيقة الآخر؟.. هو قيامة السيد المسيح من بين الأموات منتصرًا ظافرًا على الموت وعلى الشيطان وعلى الخطية، فصار للمرنم الحق في أن ينشد نشيد الظفر والنصرة: " أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ. أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ" (1كو 15 : 55).. لم يعد للموت سلطان علينا، ولم تعد الهاوية قادرة على ابتلاعنا: " إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا... مُسَمِّرًا إِيَّاهُ بِالصَّلِيبِ. إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا ظَافِرًا بِهِمْ فِيهِ" (كو 2 : 14، 15).. لقد تجاهل "علاء أبو بكر" أن القيامة هيَ الحقيقة التي قامت عليها الكرازة المسيحية، والإيمان المسيحي كله، وتغافل قول بولس الرسول: " وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضًا إِيمَانُكُمْ" (1كو 15 : 14).
3ـــ كان السيد المسيح يتكلم الآرامية، ولكن مَن قال أن الآرامية خلت تمامًا من أي كلمات عبرية أو يونانية، فطبيعة معظم اللغات إن لم يكن كلها أن تقبل وتستخدم كلمات أو مصطلحات من لغات أخرى، وكان على الناقد أن يدرك أن القرآن الذي نزل بلسان عربي مُبين حوى كلمات هذه عددها من اللغات السريانية والعبرية واليونانية والفارسية والهندية والحبشية والقبطية، فما كان يحق له أن يتساءل مثل هذا التساؤل، ومن ينكر الكلمات التي نستخدمها نحن الآن وهيَ ليست كلمات عربية، فكثير من الكلمات التي نستخدمها قبطية، وكثير أيضًا منها إنجليزية ولا سيما في عصر السمَوات المفتوحة. إذًا لم يكن الأمر عجيبًا أو فريدًا عندما استخدمت بعض الكلمات غير الآرامية في اللغة الآرامية.
_____
(332) الجامع لأحكام القرآن جـ 3 ص 5 - 6.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/57.html
تقصير الرابط:
tak.la/xmq8rmq