س536(1): من هو القديس لوقا الإنجيلي؟ وهل هو من السبعين رسولًا؟
ج: 1- معنى اسم لوقا: اسم لوقا باليونانية "لوكاس" Λουκάς اختصار "لوكانوس" Loukanos باليونانية، أو "لوكيانوس" Lucanus باللاتينية أي "حامل النور" أو "المنبر" وبالقبطية "لوكَس" Loukac، وبالإنجليزية Luke. ويجب التمييز بين لوقا الإنجيلي وبين "لوكيوس القيرواني" (أع 13: 1، رو 16: 21)، بينما لم يرد اسم "لوقا" قط لا في الأناجيل الأربعة ولا في سفر الأعمال، وبالرغم من أن القديس لوقا كتب سفرين في العهد الجديد إلاَّ أنه لم يشر إلى نفسه لا من قريب ولا من بعيد، وهذا يُظهِر مدى تواضعه وإنكاره لذاته.
2- لوقا الأممي الأنطاكي: وُلِد لوقا من أبوين وثنيين، فهو الوحيد من أصل أممي الذي شارك في تسجيل أسفار العهد الجديد، وكون أن القديس لوقا من أصل أممي أمر واضح وثابت، فمثلًا عندما ذكر بولس الرسول أسماء بعض معاونيه ذكر أسماء أنسيمس وأرسترخس ومرقس ويسطس، وهم من اليهود، لذلك قال عنهم " الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ" (كو 4: 11). ثم ذكر أبفراس ولوقا وديماس وهؤلاء من الأمم. ولأن لوقا الإنجيلي من الأمم لذلك لم يهتم بذكر عوائد اليهود كما فعل القديس متى، ولم يشر لنبوات العهد القديم مثلما فعل القديس متى أيضًا، ولم يركّز على كون السيد المسيح ابن داود ابن إبراهيم، بل رَكَّز على كونه "الرب" و "المُخلص" واستخدم بعض تعبيرات بولس الرسول كاروز الأمم مثل "النعمة" و "الأخبار السارة" وغيرهما. أيضًا اتسع صدر القديس لوقا للأمم ولم يجرح مشاعرهم، وواضح ميل القديس لوقا للأمم لأنه الوحيد الذي ذكر إرسالية السبعين رسولًا الذين أرسلهم السيد المسيح للجميع يهود وأمم (لو 10: 1 - 21).
والقديس لوقا أنطاكي، وكانت مدينة أنطاكية مدينة عريقة في سوريا تُعد ثالث مدن الإمبراطورية الرومانية من جهة الأهمية بعد روما والإسكندرية، وكان يُقيم بها الحاكم العام الذي يشرف على والي اليهود والسامرة، وكانت تُعد أنطاكية مركزًا للحضارة اليونانية ومركزًا تجاريًا هامًا. وقد أولى القديس لوقا اهتمامًا خاصًا بمدينته في سفر الأعمال، فحكى عن قبولها الإيمان، وعندما سمعت الكنيسة في أورشليم أرسلت لها برنابا الرسول، الذي استدعى شاول الطرسوسي ليخدم معه المدينة المحبة للمسيح أنطاكية، حيث دُعي التلاميذ مسيحيين أولًا (أع 11: 19-30). ومن أنطاكية انطلقت الرحلات التبشيرية لبولس الرسول (أع 13: 1-3)، وعقب مجمع أورشليم أرسلت الكنيسة في أورشليم قراءات المجمع مع بولس وبرنابا ومعهما يهوذا (برسابا) وسيلا (أع 15: 22 - 35). وربما لو لم يكن القديس لوقا من أنطاكية ما كان يصف نيقولاوس أحد الشمامسة السبعة بقوله: "وَنِيقُولاَوُسَ دَخِيلًا أَنطَاكِيًّا" (أع 6: 5). ومن خلال سفر الأعمال نلمس أن المدينة الثانية المسيحية بعد أورشليم هيَ أنطاكية (راجع أيضًا أع 14: 26، 18: 22). وأكد "يوسابيوس القيصري" بأن القديس لوقا وُلِدَ من أبوين أنطاكيين (3: 4: 7).
وقال البعض عن لوقا الإنجيلي أنه كان دخيلًا أنطاكيًا، أي أنه أممي آمن باليهودية فتهوَّد قبل أن يصير مسيحيًا، وأصحاب هذا الرأي يعتمدون على أن يهود أورشليم احتجوا على بولس الرسول: "لأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ رَأَوْا مَعَهُ فِي الْمَدِينَةِ تُرُوفِيمُسَ الأَفَسُسِيَّ فَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ بُولُسَ أَدْخَلَهُ إِلَى الْهَيْكَلِ" (أع 21: 29). بينما لم يحتجوا على لوقا الذي صاحب بولس الرسول في المدينة والهيكل (راجع دكتور وليم أدي - الكنز الجليل في تفسير الإنجيل جـ 2 - إنجيلي مرقس ولوقا). ولكن لا توجد أي إشارة في العهد الجديد تؤيد هذا الرأي، وبينما ذكره بولس الرسول في رسائله عدة مرات لم يشر قط بأنه كان دخيلًا أنطاكيا، بل وصفه بأنه الطبيب الحبيب (كو 4: 14) والخل الوفي (2 تي 4: 11) والعامل معه (فل 24).
3- لوقا الطبيب الحبيب: قال "كادبري" H. J. Cadbury أن اللغة المستخدمة في الإنجيل الثالث لا تقطع بأن الكاتب كان طبيبًا، ولكنه كان مثقفًا، والحقيقة أن القديس لوقا درس الطب وامتهن مهنة الطب، ولم يكن مسموحًا من قِبَل الإمبراطورية الرومانية لأي إنسان أن يُمارس هذه المهنة الخطيرة دون أن يجتاز الامتحانات الخاصة بها. وشهد القديس بولس بأن القديس لوقا كان طبيبًا: "يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ لُوقَا الطَّبِيبُ الْحَبِيبُ" (كو 4: 14). وواضح أن القديس لوقا استخدم في كتاباته كلمات ومصطلحات طبية تناسب عصره، ومن أمثلة ذلك:
(1) عند شفاء المجنون في مجمع كفرناحوم عندما انتهر السيد المسيح الروح النجس " فَصَرَعَهُ... وَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئًا" (لو 4: 35)، ووصف الابن الذي كان به روح نجس أنه كان " يَصرَعُهُ مُزبِدًا" (لو 9: 39).
(2) وصف مرض حماة بطرس " قَدْ أخَذَتهَا حُمَّى شَدِيدَةٌ" (لو 4: 38)، وكذلك والد بوبليوس: "كَانَ مُضطَجِعًا مُعتَرًى بِحُمَّى وَسَحْجٍ" (أع 28: 8).
(3) وصف الرجل الذي أنزله أصدقاؤه من السقف أنه " إِنسَانًا مَفلُوجًا" (لو 5: 18)، وأيضًا إينياس كان: "مُضطَجِعًا عَلَى سَرِيرٍ مُنذُ ثَمَانِي سِنِينَ، وكَانَ مَفْلُوجًا" (أع 9: 33).
(4) وصف المرأة المريضة " امْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ... وَقَدْ أَنْفَقَتْ كُلَّ مَعِيشَتِهَا لِلأَطِبَّاءِ وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تُشْفَى مِنْ أَحَدٍ" (لو 8: 43)، بينما قال عنها مرقس الرسول: "وَأَنْفَقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا وَلَمْ تَنْتَفِعْ شَيْئًا بَلْ صَارَتْ إِلَى حَال أَردَأَ" (مر 5: 26). وكأن القديس لوقا يلتمس العذر للأطباء بسبب شدة مرض هذه السيدة فلم تقدر أن تُشفى.
(5) وصف الرجل الذي سقط بين اللصوص أنهم " جَرَّحُوهُ... وَتَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْتٍ" (لو 10: 30)، وأن السامري: "ضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتًا وَخَمْرًا" (لو 10: 34).
(6) وصف المرأة المنحنية أنه كان بها: "رُوحُ ضَعْفٍ" (لو 13: 11).
(7) وصف المريض المنتفخ: "وَإِذَا إِنْسَانٌ مُسْتَسْق" (لو 14: 2).
(8) ذكر مصطلح " الْجُدْعَ" (لو 14: 13) من الفئات التي يجب الاهتمام بها واستضافتها.
(9) وصف لعازر أنه كان " مَضْرُوبًا بِالْقُرُوحِ" (لو 16: 20).
(10) ذكر من علامات الخوف: "وَالنَّاسُ يُغْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفٍ" (لو 21: 26).
(11) ذكر أن كلام النسوة عن القيامة أعتبره الرسل: "كَالْهَذَيَانِ" (لو 24: 11).
والكاتب الإنجليزي "هوبرت" Hobart في كتابه "القصة الطبية للقديس لوقا" The Medical Language of St. Luke أشار للكثير من العبارات الطبية التي استخدمها القديس لوقا، وقد استخدمها بعض الأطباء اليونانيين مثل هيبوقراطيس، وديوسكونيوس، وغاليئوس (راجع دكتور موريس تاوضروس - المدخل إلى العهد الجديد، ص110، 111. وفي سنة 1920م سجل الأستاذ "كاديوري" نحو 400 تعبير طبي مشترك بين القديس لوقا والأطباء اليونانيين (راجع الأرشمندريت يوسف درة الحداد - دراسات إنجيلية (2) تاريخ المسيحية في الإنجيل بحسب لوقا ص41، 50). ولوقا الطبيب لم تمنعه عقليته العلمية من قبول الميلاد المعجزي للسيد المسيح، وقبول المعجزات التي أجراها الرب يسوع، وقبل قيامة السيد المسيح من الموت وصعوده للسماء، لأنه أدرك جيدًا أن هذه الأحداث ليست ضد العقل إنما فوق مستوى العقل... وربما بعض الإرشادات الطبية التي أعطاها بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس مثلما جاء في (1 تي 5: 23) يكون قد استقاها من طبيبه لوقا الحبيب... لقد قدم القديس لوقا إنجيله بقلب طبيب مُحب رؤوف شفوق، فقدم للبشرية يسوع الطبيب الحقيقي.
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
4- لوقا المؤرخ المدقّق: ربط القديس لوقا كمؤرخ مدقق الأحداث الإنجيلية بتاريخ الملوك والأباطرة المعاصرين، مثل قوله: "فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ الْيَهُودِيَّةِ" (لو 1: 5).. " وَفِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ عَشْرَةَ مِنْ سَلْطَنَةِ طِيبَارِيُوسَ قَيْصَرَ إِذْ كَانَ بِيلاَطُسُ الْبُنْطِيُّ وَالِيًا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَهِيرُودُسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى الْجَلِيلِ وَفِيلُبُّسُ أَخُوهُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى إِيطُورِيَّةَ وَكُورَةِ تَرَاخُونِيتِسَ وَلِيسَانِيُوسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى الأَبِلِيَّةِ. فِي أَيَّامِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ حَنَّانَ وَقَيَافَا، كَانَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ عَلَى يُوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا فِي الْبَرِّيَّةِ" (لو 3: 1، 2). كما اهتم القديس لوقا بعامل الزمن في تسجيل الأحداث (راجع لو 1: 26، 2: 21، 42، 3: 23)، حتى أنه قدم التاريخ في شبه لوحات مرسومة ببراعة، تترك أثرها في ذهن القارئ. ومن الذين شهدوا لدقة القديس لوقا كمؤرخ مُدقّق السير "وليام رمساي" أستاذ العلوم الإنسانية بجامعة إبردين بسكوتلاندا، وكان شابًا مُهذبًا مُستقيمًا، لكنه سقط في شكوك إلحادية، وطعن في صحة الكتاب المقدَّس وكان مُهتمًا بتاريخ وجغرافية آسيا الصغرى، وفي سنة 1881م قرَّر أن يقوم ببعثة علمية استطلاعية إلى بلاد آسيا الصغرى وفلسطين بهدف إثبات أن هناك أخطاء جغرافية جسيمة في سفر الأعمال تتعلق بشأن المدن والمناطق التي كرز فيها بولس الرسول، وما أكثرها، وأمضى السير ويليام في هذه البعثة الدراسية خمسة عشر عامًا، وفي سنة 1896م أصدر كتابه "القديس بولس السائح الروماني"، وعوضًا أن يرصد الأخطاء الجغرافية التي كان يتصوَّرها اعترف بخطئه، وفي ص238 من كتابه كتب يقول: "يُساق الحديث (من كتاب سفر الأعمال) بدون ارتباك رغم كثرة التفاصيل وتغيُّر الأحوال من مدينة إلى أخرى". وفي صفحة 240 يقول: "لكل حقيقة تافهة في أعمال الرسل موقعها ومعناها الخاص". وفي سنة 1914م أصدر كتابًا آخر عن "علاقة الاكتشافات الحديثة بالثقة بالعهد الجديد"، وفي ص5 في المقدمة يقول: "إن غايتي هيَ أن أبيّن بفحص العهد الجديد كلمة كلمة وجملة جملة من الآيات التي اعترض عليها الناقدون أنه ينفرد بين كتب عصره مع إيضاحه وشموله وحقيقته الحيَّة، وليس الأمر أن سفرًا واحدًا من أسفاره يتميز بهذه الصفات، بل تخص هذه الميزة جميع أسفاره" (راجع أرل البردويل - صوت من الأنقاض ص68 - 70).
كما قال السير "ويليام رمساي": "إنني أعتقد أن التاريخ الذي يُقدمه لوقا لا يوجد أجدر منه بالثقة، وإذا قارنت ما كتبه لوقا بما كتبه باقي المؤرخين، فأنها هيَ (كتابات لوقا) ستكون بلا شك الأشد تدقيقًا والأكمل شرحًا" (2).
ويقول "القس ليون موريس": "وكان رائعًا أن سير "وليام رمزي" ابتدأ إيمانه وهو مقتنع أن لوقا كان مؤرخًا ضعيفًا، لكن الحقيقة أرغمته على الاعتراف به كمؤرخ بارع يُعتد به"(3).
وعندما كتب "لوسيان" Lucian، الذي جاء بعد القديس لوقا بنحو 170 سنة، مقالًا بعنوان: "كيف تكتب التاريخ" والمعايير التي حددها لوسيان تنطبق على القديس لوقا، فيقول "طومسون" Thompson: "وطبقًا للمعايير التي وضعها "لوسيان" لكتابه التاريخ، يعتبر لوقا -كمؤرخ- قد وصل إلى رتبة عالية في نظر معاصريه، والمقارنة بينه وبين رجال الأدب الآخرين في أيامه ستكون لصالحه" (4). ويقول "الأرشمندريت يوسف درة الحداد": "فلوقا مؤرخ المسيحية المُلهم يتمتع بصفات المؤرخ الممتاز، من استقصاء المصادر، وترتيب القصص، وتقديم المسببات، وإظهار النتائج، ومزج التعليم بالسيرة، حتى يأتي الكتاب لوحة تاريخية تعليمية فنية رائعة... يمزج القصص بالتعليم، يرتفع كمؤرخ من الطراز الأول من التاريخ الخاص إلى العام، فيربط بينهما، ويُعطي الأحداث أبعادها التاريخية، ويربط بين أسبابها ونتائجها، لينتج عن ذلك فلسفة تاريخية فيها حكمة وعبرة" (5).
كما يقول "الأرشمندريت يوسف درة الحداد": "وميزة لوقا البيانية في نقل الإنجيل، هو تأليفه بين القصص والخطب. فلا يجمع خُطب المسيح مجموعات مستقلة كأنها مكتوبة للتلقين والدعوة، بل يوزعها على أحداث السيرة بحسب تاريخها، فيخلق من السيرة والدعوة وحدة فنية بيانية تأسر كل من يأسره ذوق الجمال البياني، فينتقل بك من المشاهد إلى أناجيل الفرح، من معجزات المسيح إلى كلماته المعجزات، ومن القصص إلى التعليم، فتصير السيرة دعوة، والدعوة سيرة، والدعوة والسيرة الإنجيل..
يبلغ الفن القصصي عند لوقا، جملة وتفصيلًا، حد الإعجاز، وهو يعرف أن يسلك إلى ذلك كل الأساليب، وأن ينشد جميع الألحان... خذ مثل الابن الشاطر الضال الذي يصوّر رحمة اللَّه بالخاطئ أفضل تصوير. فلو لم ينقل لنا عن المسيح غير هذا المثل المعجز، لجعل القارئ يشعر أن قائله أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء وأحكم الحكماء" (6).
5- لوقا الأديب الماهر: في ذلك العصر كثيرًا ما كان يُلازم دراسة الطب دراسة الأدب، فهكذا كان القديس لوقا طبيبًا وأديبًا، وأيضًا القديس لوقا هو ابن أنطاكية المدينة العريقة، فهو الأنطاكي ربيب الثقافة السورية اليونانية، فتميَّز القديس لوقا بأسلوبه الأدبي اليوناني الراقي، لديه ملكة التذوق والإحساس بالجمال، أسلوبه غاية في الروعة والأناقة وقوة الملاحظة، مُستخدمًا اللغة اليونانية الكلاسيكية وليست اليونانية الشعبية التي كتب بها كل من مرقس ومتى الإنجيليين، فقد كان الإنجيليون مرقس ومتى ويوحنا يتحدثون الأرامية وكتبوا باليونانية، أما القديس لوقا فلم يكن يهوديًا، بل يونانيًا كتب بلغته التي وُلِدَ فيها وتحدث بها وشب عليها ودرس بها وأجادها، فجاءت كتاباته بليغة من جهة اللغة اليونانية دون أن يفقد التعبيرات الأرامية جمالها وعمقها، ويقول "الأنبا غريغوريوس" أسقف عام الدراسات القبطية والبحث العلمي: "ومن آيات بلاغة هذا الإنجيل أن القديس لوقا تمكن من ترجمة التسابيح والأناشيد التي أنشدتها مريم العذراء، وزكريا الكاهن، وسمعان الشيخ، والملائكة في ليلة الميلاد، وغيرها مما وُرد فيه، إلى لغة يونانية جميلة وسليمة مع احتفاظه بروحها العبرانية ولهجتها الأرامية. الأمر الذي أدهش الناقدين في كل العصور" (7).
وقال Renan "أرنست رينان" (1823- 1892م) الذي طالما هاجم المسيحية عن إنجيل لوقا: "إنه أجمل كتاب في سجل اللغات في الوجود" (8). كما قال "رينان" أيضًا: "الإنجيل بحسب لوقا رواية مُحكمة بأسلوب عبري واغريقي معًا" (Renan: Les Evangiles Synoptiques, P. 283)(9). ويقول "مانسون" Manson: "لقد ألقى لوقا شبكته بكل اتساعها ليكتب إنجيلًا لا نظير له فهو شامل متنوع، نابض بالحياة، ملئ بالحنان، فهو أجمل وأحلى وأحكم من كل ما عندنا" (10). وهذه الشهادة تخص بلا شك اللغة والأسلوب، ولا تمس قدسية ووحي جميع الأسفار المقدَّسة، ويقول "الأرشمندريت يوسف درة الحداد": "وعلى الجملة، إذا ما قارنا بين الأناجيل، وأساليبها اللغوية، نجد أن أسلوب مرقس شعبي، وأسلوب متى ديني طقسي، وأسلوب لوقا أدبي. لكن لكل منهم بيانه الخاص: لمرقس إعجاز "السهل الممتنع"، لمتى إعجاز "الجلال النبوي الطقسي"، للوقا إعجاز "الأدب الإنساني".." (11).
كما قال "سامي نجيب محمد" الذي طالما انتقد الكتاب المقدَّس: "فإنني أزعم أن هذا الإنجيل ينفرد عن الأناجيل الثلاثة الأخرى بالأسلوب الراقي في الكتابة... وأعتقد أن هذا يرجع إلى أن كاتبه طبيب كما يُقال في كثير من الروايات عن كاتب هذا الإنجيل" (12).
ولم يتبع القديس لوقا الطريقة اليهودية في كتابة إنجيله، بل الطريقة اليونانية، فأوضح أولًا السبب الذي دفعه لكتابة إنجيله كما كان يفعل الأدباء اليونانيين وأهدى كتابه إلى شخص بعينه هو العزيز ثاوُفيلُس بينما يستهدف جموع الشعب، وهذا المنهج معروف لدى الأدباء اليونانيين. كما استخدم القديس لوقا المقابلات، فمثلًا:
(1) قال السيد المسيح للمفلوج: "أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ. فَابْتَدَأَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ يُفَكِّرُونَ قَائِلِينَ مَنْ هذَا الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ" (لو 5: 20، 21)، في حادثة المرأة الساقطة: "قَالَ لَهَا مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ. فَابْتَدَأَ الْمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَنْ هذَا الَّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أَيْضًا" (لو 7: 48، 49).
(2) قال السيد المسيح: "وَلَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجًا وَيُغَطِّيهِ بِإِنَاءٍ أَوْ يَضَعُهُ تَحْتَ سَرِيرٍ بَلْ يَضَعُهُ عَلَى مَنَارَةٍ، لِيَنْظُرَ الدَّاخِلُونَ النُّورَ" (لو 8: 16). وهذا القول يكرره السيد المسيح في موقف آخر: "لَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجًا وَيَضَعُهُ فِي خِفْيَةٍ وَلاَ تَحْتَ الْمِكْيَالِ بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ لِكَيْ يَنْظُرَ الدَّاخِلُونَ النُّورَ" (لو 11: 33).
(3) في معجزتي شفاء نازفة الدم وإقامة ابنة يايرس (لو 8: 40 - 56) نجد نازفة الدم ظلت تعاني اثني عشر عامًا، وهو ما يوازي عمر ابنة يايرس. ونالت نازفة الدم الشفاء عندما لمست هدب ثوب المسيح، والسيد المسيح أمسك بيد الصبية وأقامها، ففي كلتا الحالتين تظهر لمسة المسيح الشافية.
6- لوقا الفنان المُبدع: أيضًا كثيرًا ما ارتبط الطب في ذلك العصر بالفن، فالذين كانوا يُدرسون الطب كانوا يُدرسون الفن أيضًا، وربما درس القديس لوقا الطب والفن في الإسكندرية مدينة العلم والثقافة، وفي سنة 400م أرسلت "الملكة أفدوكية" من أورشليم إلى "بولخاريا" (الإمبراطورة) في القسطنطينية صورة مرسومة بيد القديس لوقا للعذراء مريم (راجع مجموعة الآباء اليونانيين تأليف ميني MIGNE المجلد 86 جـ 1 عمود 165). كما يقول "توما الأكويني": "ومن التقليد نعرف أن لوقا الطوباوي صوَّر صورة المسيح الموجودة في رومية" (المجموعة اللاهوتية جـ 3 - الباب الثالث - الجواب على الاعتراض الرابع). وهذه الصورة موجودة بكنيسة العذراء بروما.
ويقول "الأسقف أيسيذورس": "وقد صوَّر (القديس لوقا) صور العذراء، وبحضنها الطفل يسوع والمتواتر على الألسن أنه توجد منها ثلاث صور، واحدة في القدس، وأخرى في روما، والثالثة في مصر" (13). ويقول "الدكتور عزت زكي": "وهناك تقليد قديم يقول: نعرف بأن لوقا لم يكن طبيبًا فحسب، بل كان أيضًا رسَّامًا بارعًا ترك لنا صورًا للمسيح، والعذراء، والرسل الأوائل"(14).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
7- لوقا اللاهوتي البارع: القديس لوقا اللاهوتي البارع تجده يركز على الحقائق اللاهوتية مثل التجسد والصلب والفداء والقيامة والصعود والمجيء الثاني، يذكر كلمة " الخلاص" في إنجيله أربع مرات، وكلمة " مُخلص" مرتين، ويستخدم الكلمتين أيضًا في سفر الأعمال سبع مرات، والآية المحورية في الإنجيل: "لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" (لو 19: 10). فقد فشلت الفلسفات اليونانية في خلاص الإنسان، لأنها قدمت أفكارًا مجرَّدة تعجز عن تغيير أعماق الإنسان. أما السيد المسيح إذ دفع الدين عن الإنسان فقد وهبه قوة الخلاص بدمه المسفوك على عود الصليب. ويقول "هوارد مارشال" Howard Marshal: "ونحن نفترض أن فكرة الخلاص تقدم لنا مفتاح لاهوت إنجيل لوقا" (15). و "هانز كونزلمان" Hans Conzelmann في كتابه "اللاهوت في إنجيل لوقا" The Theology of St. Luke أوضح أن الدارسين لا ينظرون للقديس لوقا على أنه مؤرخ مُدقّق فحسب، ولهذا ربط إنجيله بتاريخ الإمبراطورية الرومانية، ولكن القديس لوقا كان بالأكثر لاهوتيًا بارعًا، فأظهر مثلًا دور أورشليم في تاريخ الخلاص، وأوضح أن "تاريخ الخلاص" (في إنجيل لوقا وسفر الأعمال) مرَّ خلال ثلاث مراحل:
أولًا: فترة إسرائيل بما فيها كرازة يوحنا ومعموديته.
ثانيًا: فترة كرازة السيد المسيح والتي تنتهي بالقيامة والصعود.
ثالثًا: فترة الكنيسة في العالم والتي تنتهي بالمجيء الثاني.
(راجع د. مارك ألفونس - النص تحت الفحص - كيف تطوَّر يسوع من البشارة إلى الأناجيل؟ ص 58 - 60).
فالقديس لوقا يُقدِّم لنا الخلاص عن طريق المسيح، ولا خلاص بدونه، فالسيد المسيح هو محور التاريخ ومحور الخلود، فلا حياة ولا خلود أبدي في الحياة الأبدية السعيدة إلاَّ به. لقد نجح القديس لوقا المؤرخ واللاهوتي في تقدِّيم حياة السيد المسيح من خلال إنجيله، كما قدم تاريخ المسيحية من خلال سفر أعمال الرسل.
8- لوقا الكارز والشهيد: كرز القديس لوقا مع بولس الرسول، فكان نعم الرفيق والخل الوفي الذي لازمه حتى استشهاده سنة 67م. وبعد هذا كرز في "دلماطية" (جزء من يوغوسلافيا) كقول القديس أبيفانيوس أسقف قبرص، كما خدم في فرنسا وإيطاليا، ومكدونيا شمال اليونان، وأخائيه باليونان. وعاش القديس لوقا حياة البتولية، حيث كرس كل وقته للخدمة والكرازة، وعاش حتى كان عمره 84 عامًا، ووشى به الوثنيون واليهود لدى الإمبراطور نيرون على أنه ساحر، فأمر الإمبراطور بإعدامه بالسيف، فاستشهد سنة 90م ووضعوا جسده الطاهر في كيس من الشعر وطرحوه في لجج البحر، فلم يبتلعه البحر، إنما حملته الأمواج إلى شاطئ جزيرة، واستدل عليه رجل مسيحي فحمله وكفنه ودفنه بإكرام عظيم. وفي عصر الإمبراطور قسطنطين أمر بنقل جسده إلى القسطنطينية سنة 357م، فوُضِع بجوار جسد القديس أندراوس الرسول في كنيسة الرسل، وفي سنة 1177م نُقل جسد القديس لوقا إلى "بادو" Padau بإيطاليا. وتُعيد له كنيستنا القبطية يوم 22 بابه حيث يوافق استشهاده، بينما تُعيد له الكنيسة الكاثوليكية يوم 18 أكتوبر.
9- هل كان القديس لوقا من الرسل السبعين؟ قال البعض بهذا مثل العلامة أوريجانوس، والقديس أبيفانيوس أسقف قبرص والقديس جيروم والقديس غريغوريوس الكبير ومارديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي وسنكسار كنيستنا القبطية تحت يوم 22 بابه، ودكتور موريس تاوضروس، لأن القديس لوقا هو الوحيد الذي ذكر إرسالية السبعين رسول (لو 10: 1-24). ولكن عندما أورد القديس لوقا قصة إرسالية السبعين لم يذكرها كشاهد عيان، مثلما فعل في بعض الأجزاء من سفر الأعمال عندما صاحب بولس الرسول، فاستخدم ضمير الملكية للجمع "نحن" و "نا"، إنما ذكر الخبر كمن استلمه من الذين كانوا مُعاينين وخُدام للكلمة، وهو لم يكن شاهد عيان (لو 1: 1 - 4)، ولم يشر القديس لوقا من قريب ولا من بعيد أنه تسلَّم شيئًا من السيد المسيح أثناء فترة تجسده على الأرض. وقول "الأسقف إيسيذورس": "إن لوقا... لا يدَّعي بأنه قد شاهد بعينه الأمور التي كبتها، بل يصرّح بأنه جمع كل ما كتبه باجتهاد وتدقيق من الذين كانوا مُعاينين وخُدامًا للكلمة (لو 1: 1- 4). وهذا لا ينقّص الاعتبار اللائق بإنجيله لأن كل ما كتبه قد كتبه بوحي الروح القدس وإرشاده" (16).
ويقول "الأنبا يؤانس" أسقف الغربية: "ويبدو أن التقليد القديم الذي يقول أنه (القديس لوقا) كان من السبعين (وهو رأي القديس أبيفانيوس في القرن الرابع Smith Dictionary of the Bible- Vol 2 P 151) رسولًا، وأنه أحد تلميذي عمواس اللذين التقى بهما الرب عشية قيامته أمر مشكوك فيه والأرجح أنه كان أنطاكيًا أمميًا (كما شهد يوسابيوس القيصري) H. E. 3: 4: 7 وهكذا كل التقاليد القديمة..) وليس يهوديًا. فهو باعترافه لم يعاين الرب يسوع بالجسد، وأنه اعتمد في كتابة إنجيله على ما تسلَّمه ممن سبقوه... والأرجح أن لوقا كان أمميًا واهتدى إلى الإيمان المسيحي على يد أحد التلاميذ الذي نزحوا من أورشليم وقصدوا أنطاكية في وقت مُبكر حوالي سنة 36م عقب التشتت الذي حدث بعد مقتل استفانوس... وإن كان البعض يرجحون أنه آمن بالمسيح على يد بولس وهذا هو رأي ترتليانوس من القرن الثاني(17) (Smith Dictionary of the Bible Vol 2. P 151 )" .
_____
(1) تمت الإجابة على 535 سؤالًا في العهد الجديد من خلال الأجزاء الستة السابقة.
(2) أورده يوسف رياض - وحي الكتاب المقدَّس ص215.
(3) ترجمة نيكلس نسيم - التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - إنجيل لوقا ص25.
(4) المرجع السابق، ص26.
(5) دراسات إنجيلية (2) تاريخ المسيحية في الإنجيل بحسب لوقا، ص86، 87.
(6) دراسات إنجيلية (2) تاريخ المسيحية في الإنجيل بحسب لوقا، ص95، 96.
(7) الكتاب المقدَّس "الجزء الرابع" في تفسير إنجيل لوقا ص14.
(8) أورده الأنبا غريغوريوس - الإنجيل حسب القديس لوقا ص8.
(9) أورده الأرشمندريت يوسف دره الحداد - دراسات إنجيلية (2) تاريخ المسيحية في الإنجيل بحسب لوقا.
(10) القس ليون موريس - ترجمة نيكلس نسيم - التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - إنجيل لوقا ص4.
(11) دراسات إنجيلية (2) تاريخ المسيحية في الإنجيل بحسب لوقا ص93.
(12) وهمية الشبهات الوهمية حول الكتاب المقدَّس ص151.
(13) مشكاة الطلاب في حل مشكلات الكتاب ط 1929م ص392.
(14) تفسير بشارة لوقا لكتاب مشهورين، ص7.
(15) أورده القس ليون موريس - ترجمة نيكلس نسيم - التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - إنجيل لوقا ص28.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/536.html
تقصير الرابط:
tak.la/v9f8c72