س 51 : كيف دُوّنت الأناجيل؟ وهل الأناجيل لا تعتبر كُتب مُوحَى بها لأنها اختلفت في التفاصيل ولا تعتبر كُتب تاريخية لأن كتَّابها ليسوا من شهود العيان؟ وهل الدراسات التاريخية العلمية للعهد الجديد تقود للشك فيه؟ وهل جاءت الأناجيل لتلبية احتياجات المجتمع حينذاك؟ وهل كل إنجيلي كان يغيّر ويبدّل ويُسقِط ما لا يناسب هدفه، فكتب حسب هواه، حتى أن الأناجيل جاءت غير مترابطة، تركز فقط على موت المسيح؟
يقول "علاء أبو بكر" عن الأناجيل: " س79: هل كتب هذه الكُتب أُناس ملهمون مُوحَى إليهم؟ أم هيَ بمنزلة التاريخ لضبط أحوال الرجل المصلوب.
في الحقيقة لا هذا ولا ذاك. فلو كان هذا صحيحًا لكانوا قد اتفقوا في كل تفاصيل هذه الحكاية: إثباتًا ونفيًا وتقريرًا، لأنهم لا بد أن يكون الوحي القادم من عند الله قد أوحى إليهم نفس التفاصيل.
لو هيَ بمثابة كُتب تاريخية فلا بد أن يكون قد كتبها شاهد عيـان، رأى نفس الأحداث، وسمع نفس التفاصيل، ولو ثبت أنها كُتب تاريخية، بطل القول بأنها كُتب أوحى بها الله، لأنه لو جاز تطرق الاختلاف في أخبار الوحي، لبطلت الشرائع، ولكان هذا قدح في الله وصفاته" (287).
ويقول "السيد سلامة غنمي": " يقول المؤرخ الألماني ألبرت شفاتيزر فـي كتابه (البحث عن يسوع التاريخي..) الترجمة الإنجليزية سنة 1910م : "أن الدراسة التاريخية العلمية للعهد الجديد تفضي بصاحبها بقدر من الشك أكثر منه من اليقين... وينبغي أن نكون على استعداد لأن نكشف عن المعرفة التاريخية بشخصية يسوع وحياته لن تكون مساعدًا للدين. وإنما هيَ بالأحرى إساءة إليه...
ويقول REV. T. G. TVCKER : ".. وهكذا فإنتاج الأناجيل إنما تعكس بكل وضوح آراء الكتَّاب لسد احتياجات المجتمع الفعلية الذين كُتبت من أجلهم... لقد اُستخدمت العبارات التقليدية والطقوس ولكن لم يكن هناك أي تردد في التغيير أو الإضافة أو إسقاط ما لا يتناسب وهدف الكتَّاب.."(288).
ويقول "شارل جينيبير": " وتصفح الأناجيل وحده يكفي لإقناعنا بأن مؤلفيها... لم يلتمسوا الحقيقة الواقعة ولم يستلهمو تاريخًا ثابتًا يفرض تسلسل حوادثه عليهم، بل على العكس من ذلك اتبع كل هواه وخطته الخاصة في تنسيق وترتيب مؤلفه. ولا شك أيضًا في أنه لم يعتمد أحد منهم على سلسلة كاملة مترابطة من الوقائع تسمح له بأن يضع صورة واضحة لحياة المسيح، فلم يكن عملهم إذًا سوى أن يربطوا في كثير أو قليل من المهارة بين أطراف من المرويات، وأن يشكّلوا منها سيرة افتقرت إلى الوحدة الحقيقية، كما أن عناصرها تبدو مجموعة في إطار مصطنع. وإننا لنلحظ في ثنايا هذه السيرة الإنجيلية نقصًا كثيرًا وفجوات خطيرة نلحظها حتى في إنجيل مرقس الذي بلغ به الحرص أن تحاشى الحديث عن مولد عيسى وطفولته... وهكذا لم نعد نستطيع أن نميز في وضوح الجوانب التاريخية لشخصية عيسى (يسوع) ولم نعد نملك المراجع اللازمة لتحديد أحداث حياته في دقة"(289).
كما يقول "شارل جينيبير": " لقد حرَّر مؤلفو أناجيلنا نصوصهم في عصور أصبح فيها سر حياة عيسى يتلخص في فترة واحدة هيَ فترة موته. تلك الميتة التي ارتضاها ثمنًا لإحياء وتخليص البشرية. وافترض هؤلاء المؤلفون أنه شرح منذ البداية ضرورة تعذيبه وصلبه، لذلك لم يترددوا في القول بأن عيسى أتى القدس لإتمام رسالته الإلهيَّة على الصليب الذي ينتظره فيها" (290).
1ـــ (أ) لم يكتب الإنجيليون أناجيلهم كمؤرخين أو جامعي سيرة السيد المسيح كما يكتب مؤلف عن بطل أو زعيم، فلم يكن هدف أحد من الإنجيليين تسجيل سيرة ذاتية للسيد المسيح، أو تدوين تاريخه بالتفصيل، وإلاَّ ما كانت أغفلت جميع الأناجيل سنوات هذه عددها في حياة السيد المسيح منذ طفولته وحتى بداية كرازته، وركزت الأناجيل الأربعة على سني خدمته الثلاث فقط، وجاء التركيز الأكثر على قصة آلامه وموته وقيامته، فلو اعتبرنا الأناجيل هو تاريخ لحياة السيد المسيح، لاعتبرت ناقصة ومبتورة وغير كاملة ولا مرتبة، ومع ذلك فإن كل ما جاء في الإنجيل الذي دوَّنه الإنجيليون الأربعة هو صادق وأمين، تم تدوينه دون أي تغيير ولا تبديل ولا إضافة ولا حذف ولا مبالغة ولا تهويل، لأنه لا يوجد أي دافع لارتكاب مثل هذا العمل الشائن، وهل الروح القدس الذي هو شريك في هذا الناتج المقدَّس كان سيسمح بمثل هذا التزوير..؟! كلاَّ. لقد كان الكتَّاب في منتهى التجرد وإنكار الذات، حتى أن أحد منهم لم يذكر صراحةً أنه الكاتب.
(ب) لا تمثل الأناجيل صور فوتوغرافية أو تسجيلات مرئية أو حصر كامل للأحداث، كما أن الكاتب التزم بالروح والمعنى وليس بالحرف، وقرأ الأحداث في ضوء القيامة، فمزج بين الحدث ومفهومه اللاهوتي، وكان هدفه الذي وضعه نصب عينيه وأخـذ يسعى إليه، هو تقديم شخص السيد المسيح للبشرية، ليؤمنوا به فتكون لهم حياة أبدية، وهذا ما عبر عنه يوحنا الإنجيلي: " وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ" (يو20 : 30، 31).
ويقول "الأب فاضل سيداروس": " ليست المسيحية "دين كتاب" وليـس المسيحيون "أهل كتاب" لأن محور المسيحية شخص لا كتاب، وإيمان المسيحيين هو إيمان بشخص لا بكتاب... الإنجيل عبارة عن شهادة إيمانية، بمعنى أن الدافع الذي يدفع الإنجيلي إلى كتابته هو إيمانه بشخص يسوع المسيح، ابن الله الحي بعد موته. كما أن هدفه هو إشراك الآخرين في إيمانه. وبعبارة أخرى أن الإنجيل يشهد بإيمانه ويعلن إيمانه كي يؤمن الآخرون"(291).
(ج) اختلاف الأناجيل في التفاصيل لا يعني أبدًا تناقضها، بل يعني تكاملها، فكل إنجيل يمثل لوحة شفافة خُطت عليها الأحداث بدقة، فإذا وضعت اللوحات الشفافة فوق بعضها لظهرت الصورة متكاملة بأجلى بيان.
(د) لم يتبع كتَّاب العهد الجديد فنًا أدبيًا واحدًا، فمثلًا:
الأناجيل: دوَّنها الآباء الرسل عن أقوال السيد المسيح وأعماله، وقد استخدم السيد المسيح في كرازته الأمثال والأقوال الموجزة التي يسهل حفظها في الذاكرة، وحافظت الأناجيل على الطابع الكرازي بحسب وصية السيد المسيح.
أعمال الرسل: كتبه لوقا الإنجيلي كمؤرخ مدقق وشاهد عيان، وكتبه بالطريقة القديمة التي اُستخدمت في كتابة الخطابات الطويلة.
الرسائل: ومثلت فن أدبي متداول بين الناس، وهو فن أدبي بارع واسع الانتشار، وجاءت الرسائل وليدة الحاجة للإجابة على تساؤلات واستفسارات للمؤمنين، وللاطمئنان على حالتهم الروحية، ولتشجيعهم لمواصلة المسيرة، وجاء بعضها في شكل عظات وإرشادات وتوجيهات وصلوات وأناشيد ودفاع عن الإيمان القويم... إلخ.
سفر الرؤيا: وهو سفر ملئ بالرموز على طراز سفر دانيال في العهد القديم، تصدرته الرسائل للكنائس السبع، وانتهى بآفاق متسعة عن أورشليم السمائية، وصرخة صادقة تعبر عن الاشتياق لمجيء الرب.
(هـ) تميزت الأناجيل بفن أدبي رفيع، وهذا الفن تميز بالآتي:
1ــــ مزج بين الحدث ومعناه اللاهوتي.
2ـــ دارت الأحداث حول الشخصية الرئيسية في الأناجيل، وهيَ شخصية السيد المسيح دون سواه.
3ـــ الهدف من الأناجيل تقديم شخص السيد المسيح ليؤمنوا به فينالوا الحياة الأبدية.
ويقول "الأب چورج سابا": " مهما كان هناك من التقارب أحيانًا بين فنون الكتاب المقدَّس الأدبية وفنون الحضارات الأدبية القديمة، فالكتاب المقدَّس يؤلّف وحدة على حدة. أنه لم يتلوّث بما تلوّثت به الحضارات الأخرى من وثنية وأفكار مستهجنة"(292).
ويقول "الأب فاضل سيداروس": " فهذا الفن الفريد في نوعه في كل آداب العالم، يمزج بين الحدث ومعناه اللاهوتي، فلا هو يرى حدثًا تاريخيًا خالصًا، ولا هو يبتكر مذهبًا لاهوتيًا معينًا، بل هو مزيج من حدث جرى فعلًا ليسوع قبل موته وقيامته، حرَّره الإنجيلي في ضوء الموت والقيامة. والفن الأدبي "إنجيل" يتمحوَّر حول وحدة شخصية يسوع، وهذه هيَ السمة الثانية له. فمن مميزات هذا الفن الأدبي البارزة أنه لا يدور حول أوصاف خارجة عن الشخصية الأساسية. فعلى سبيل المقارنة تتسم قصص الأبطال في تاريخ البشرية بتفاصيل تخرج عن إطار البطل نفسه (مثلًا عندما نصف حروبه وانتصاراته وأعداءه..)، في حين أن الأناجيل الأربعة توحّد أنظارها حول شخصية يسوع. وإذا كانت لأقواله وأعماله وأحداثه أهمية. فلكونها صادرة عن هذا المركز الوحيد... فالأناجيل مبنية على هذه الشخصية بصفة مُطلقة. وثمة سمة ثالثة للفن الأدبي "إنجيل" وهيَ أنه شهادة إيمانية، فهدف الإنجيليين هو أولًا وأخيرًا إشراك المستمع أو القارئ في الإيمان... (يو10 : 31 وراجع 1يو1 : 1)، فالإنجيلي يكتب بدافع من إيمانه بيسوع المسيح ابن الله، ويريد أن يشرك الآخرين بهذه البشرى (Evangelion)" (293).
2ـــ ردًا على "علاء أبو بكر" نقول أن التشكيك لن يتوقف ما دام المشكّك عدو الخير تقوم له قائمة، فهو دائمًا يزرع بذور الشك والتشكيك في قلوب الضعفاء، فهو الذي شكَّك أمنا حواء في كلام الله قائلًا لها: " أَحَقًّا قَالَ اللهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ... لَنْ تَمُوتَا. بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ" (تك 3 : 1 - 5).. أما نحن فإننا نثق ثقة كاملة في كلام الله في الكتاب المقدَّس، ومتى قال الكتاب: " كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ" (2تي 3 : 16)، فنحن نصدق هذا: " لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ وَمُوقِنٌ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ" (2تي 1 : 12)، ومهما نطق عدو الخير على لسان المُشكّكين قائلًا أن الأناجيل غير مُوحَى بها لاختلافها في التفاصيل، لا نصدقه، لأنه لو اتفقت الأناجيل في جميع التفاصيل فما الداعي للتكرار، فكان واحد منهم يكفي، ولكن لضخامة وعظمة حدث التجسد الإلهي والفداء، اختار الله أربعة رجال ليسجلوا هذا الحدث، كلٍ من زاوية معينة، فجاءت كتاباتهم متكاملة وليست متناقضة على الإطلاق، وما يبدو في الظاهر أنه تناقض فهو في الحقيقة يخفي وراءه معاني عميقة، وهو ما دفع رجال الله لإجلاء حقيقة هذه التناقضات الظاهرية وشرحها وتوضيحها.
أمَّا قول الناقد بأن هذه الأناجيل لا تمثل كُتب تاريخية لأن كتَّابها ليسوا من شهود العيان، فهو قول مجاف للحقيقة، لأن متى ويوحنا كانا من الاثنى عشر، وكثيرًا ما دخل السيد المسيح بيت مرقس الرسول ومن ألقاب مارمرقس أنه "ناظر الإله" وتتبع لوقا المؤرخ المدقق كل شيء بتدقيق. ثم كيف يجرؤ علاء أبو بكر على التشكيك في الإنجيل الذي شهد القرآن بصحته؟! لو كان هذا الإنجيل الذي دوَّنه الإنجيليون الأربعة معيوبًا فكيف شهد القرآن له مرات ومرات..؟! ألاّ يكفيه قول القرآن: " وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (المائدة 47)؟!
3ـــ ردًا على "شفاتيزر" بأن الدراسة التاريخية العلمية للعهد الجديد تقود للشك، وكأن جميع الدراسات الأمينة التي أُجريت في كل زمان ومكان تقود للشك، قول عاري تمامًا من الصحة، لأن عدد الذين شكَّكوا في صحة وصدق العهد الجديد لا يقارن أبدًا بعدد الذين أكدوا على صدقه وصحته؟!، والذين أكدوا على صحة العهد الجديد هم أكثر علمًا.
4ـــ ردًا على Tvcker بأن كتَّاب الأناجيل كتبوا بحسب آرائهم لسد احتياجات المجتمع الفعلية، ولذلك غيَّروا وأسقطوا ما لا يناسب هدفهم، وأضافوا ما يتناسب مع هدفهم... نقول أن التلاميذ الأطهار الذين تتلمذوا على يد معلم الفضيلة، الإله المتجسد، من المستحيل أن يسلكوا مثل هذا السلوك الشائن، ودائمًا وأبدًا نؤكد أن الروح القدس كان هو الشريك الفعلي في إنتاج هذه النصوص المقدَّسة، فمن المستحيل أن يسمح بأي تلاعب أو تبديل للحقيقة. الفكرة أنه كان أمام الإنجيليين بحر زاخر من المعلومات والأحداث التي عاشوها والأقوال التي سمعوها، فتخيَّر كل منهم بإرشاد الروح القدس ما يتناسب مع هدفه، وما يتناسب مع الموجَّه لهم الإنجيل.
5ـــ ردًا على "شارل جينيبير" أن كل إنجيلي كتب حسب هواه فخلت الأناجيل من الترابط، هو قول غير صحيح، لأن أي من الإنجيليين لم يخترع شيئًا ولم يكتب شيئًا من عندياته، بل كتب ما شاهده وما سمعه، وما كتبه هو ما كان سائدًا ومستقرًا في وجدان الكنيسة ويطابق تمامًا الإنجيل الشفهي، ولم يخرج الإنجيل المكتوب عـن الإنجيل الشفاهي قط، ولهذا على الفور وبلا أي تردد قبلت الكنيسة الأناجيل الأربعة، بينما رفضت فيما بعد عشرات الأناجيل المنحولة المزيفة. وهل درس شارل جينيبير أو الإمام عبد الحليم محمود الأناجيل دراسة أمينة متأنية ووجدها فعلًا غير مترابطة، أم أنه تجنى على الحقيقة؟!
وكان على الإمام عبد الحليم محمود أن يتذكر أن القرآن لم يسرد قصة أي من الأنبياء سردًا تاريخيًا مسلسلًا، وأنه هو شخصيًا عندما كان يريد أن يـدرس قصة أحد الأنبياء، كان لزامًا عليه أن يرجع إلى الكتاب المقدَّس، وهذا ما أوضحه "الدكتور علي عبد الأحد وافي" عندما قال: " وقد عرض القرآن الكثير لكثير من القصص التي ورد ذكرها في هذه الأسفار، غير أن أسفار اليهود قد تناولت كل قصة من هذه القصص في صورة مسلسلة كاملة الأجزاء مترابطة الحوادث كما تفعل كتب التاريخ، وتناولتها بغرض تاريخي بحت، على حين أن القرآن يكتفي بذكر مواقف من هذه القصص، ولا يذكرها للتاريخ في ذاته، وإنما يذكرها على الأخص للعظة والذكرى، ويذكرها بحسب المناسبات. فقد يذكر موقفًا في قصة ما لمناسبة خاصة ثم يذكر موقفًا آخر من القصة نفسها فـي سورة أخرى لمناسبة أخرى، وموقفًا ثالث من القصة نفسها في سورة ثالثة... وهكذا. وقد يعرض لعدة مواقف من قصة واحدة في سورة واحدة ويفصل بين كل موقف وآخر بفواصل طويلة أو قصيرة. وقد يكرر الموقف نفسه في عدة سور لتكرر المناسبة، ولكن في لوحات بيانية مختلفة في صياغتها وألوان مناظرها ومتسقة مع ما يكتنفها من قبلها ومن بعدها مــن أي الذكـر الحكيم"(294).
6ـــ قول "جينيبير" بأن الإنجيليين ركزوا على موت المسيح أكثر من أي شيء آخر، هو حقيقة، لأن الهدف الأسمى من تجسد السيد المسيح ورسالته أنه قدّم نفسه فدية من أجل خلاصنا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ويقول "القمص عبد المسيح بسيط": " كُتب الإنجيل بأوجهه الأربعة ليقدم للبشرية شخص وحياة وأعمال وتعليم السيد المسيح لننال من خلاله الخلاص الأبدي والحياة الأبدية، وقد ركز الإنجيليون على شخص المسيح وحده بكل صدق وأمانة ووضوح وبصراحة مطلقة، بدون أي تزيين أو زخرفة لفظية أو مبالغة أو إظهار علامات اندهاش أو مديح أو ثناء. بل على العكس تمامًا فقد سجلوا ودوَّنوا بصراحة ووضوح رفض رؤساء اليهود المتواصل للرب يسوع المسيح، وتوبيخه الدائم لهم، ووصفه لهم بالمرائين والقبور المبيضة والعميان الذين يقودون عميان، كما سجلوا ودونوا بطء الرسل أنفسهم بما فيهم كتَّاب الإنجيل، في فهم مغزى كلام السيد في مواقف كثيرة، كما سجلوا ضعفاتهم ولم يحاولوا إخفاءها أو تحسين صورتهم... فقد سجل القديس متى عن نفسه أنه كان عشارًا وقد دعاه السيد المسيح عند مكان الجباية (مت 9 : 9) وسجل القديس مرقس قصة الشاب الذي كان "لاَبِسًا إِزَارًا عَلَى عُرْيِهِ فَأَمْسَكَهُ الشُّبَّانُ. فَتَرَكَ الإِزَارَ وَهَرَبَ مِنْهُمْ عُرْيَانًا" (مر 14 : 51، 52) ليلة القبض على السيد المسيح، وقد أجمع العلماء والمفسرون على أن الشاب هو القديس مرقس... كما سجلت الأناجيل الأربعة قصة إنكار بطرس لسيده... وأكثر من ذَكَرَ ضعفات القديس بطرس المتكررة هو القديس مرقس وهذا راجع لاشتراكه معه في الكرازة مدة من الزمن، وواضح بالطبع أنه سمع ذلك من بطرس وهو يتكلم به تكرارًا في كرازته، كما سجل الإنجيل موقف التلاميذ جميعًا ليلة القبض على السيد المسيح عندما تركوه جميعًا وهربوا... كذلك يأسهم التام بعد الصلب ونسيانهم بل وعدم فهمهم لما سبق أن قاله لهم بأنه لا بد ن يتألم ويُصلب ويموت ويقوم في اليوم الثالث... فقد دوَّنوا كل شيء ولم يخفوا شيء ولم يعتذروا عن شيء ولم يبالغوا في شيء، بل ولم يمجدوا ذواتهم.." (295).
_____
(287) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 4 ص 37.
(288) التوراة والأناجيل بين التناقض والأساطير ص 224.
(289) تقديم الإمام عبد الحليم محمود - المسيحية نشأتها وتطورها ص 37 - 39.
(290) المرجع السابق ص 59.
(291) تكوين الأناجيل ص 42.
(292) على عتبة الكتاب المقدَّس ص 149.
(293) تكوين الأناجيل ص 39، 40.
(294) الأسفار المقدَّسة في الأديان السابقة للإسلام ص 48، 49.
(295) الإنجيل الذي كُتب وكيف وصل إلينا ص 113، 114.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/51.html
تقصير الرابط:
tak.la/m4m86hw