St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

50- ما هيَ مراحل تكوين النص الإنجيلي؟ وهل كان التلاميذ مجرد جامعين ومسجلين للأحداث فقط؟

 

س50 : ما هيَ مراحل تكوين النص الإنجيلي؟ وهل كان التلاميذ مجرد جامعين ومسجلين للأحداث فقط؟

 يقول "موريس بوكاي": " يقول أ. كولمان O. Culmann في كتابه "العهـد الجديد (Les Presses Universitairesce France, 1967) أن المبشرين لم يكونـوا إلاَّ "متحدثين بِاسم الجماعة المسيحية الأولى التي ثبتت التراث الشفهي. فقد بقى الإنجيل طيلة ثلاثين أو أربعين سنة في شكله الشفهي فقط أو بالكاد ولكن التراث الشفهي قد نقل أساسًا أقوالًا وروايات منعزلة. وقد نسج المبشرون (كلٍ على طريقته وبحسب شخصيته الخاصة واهتماماته اللاهوتية الخاصة) الروابط بين هذه الروايات والأقوال التي تلقوها من التراث السائد. إن تجميع أقوال المسيح وربط الروايات بصيغ أسلوبية غامضة مثـــل "وبعد هذا"، "وما أن.." إلخ.، وبالاختصار الأناجيل المتوافقة Evangiles Synoptiques كل هذا أدبي الطابع وليس له أساس تاريخي.."(279).

 ويقول "بورمزي": " لقد كان الإنجيليون كتَّاب خيال ولم يكونوا مراقبين أو شهود عيان على حياة المسيح. كل من الأربعة يتناقض في رواياته عن أحداث معاناتـــه وصلبه"(280).

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

 ج: أولًا: مراحل تكوين النص الإنجيلي:

مرَّ النص الإنجيلي المكتوب بثلاث مراحل، وهيَ:

-1ــ مرحلة الحدث التاريخي
2ـــ مرحلة الإنجيل الشفاهي
 3ــ مرحلة الإنجيل المكتوب

 

1ــ مرحلة الحدث التاريخي:

وهيَ المرحلة التي حدث فيها الحدث بواسطة السيد المسيح، سواء كان هذا الحدث تعليمًا أو شفاءً معجزيًا... وهذا الحدث بلا شك لم يحدث سرًا، فعندما سأل "حنَّان" السيد المسيح عن تعاليمه: " أَجَابَهُ يَسُوعُ أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ عَلاَنِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِمًا. وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ" (يو 18 : 20)، فقد أجرى السيد المسيح معجزاته أمام الآلاف، ودائمًا كان يعلم الجموع علانية تحت السماء المفتوحة.

2ـــ مرحلة الإنجيل الشفاهي:

حيث كرز الآباء الرسل بما سمعوه بأذانهم من الرب يسوع، وما شاهدوه بأعينهم، فهم شهود له كما أوصاهم بهذا: " لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ" (أع 1 : 8)، فوقف بطرس وقال: " فَيَسُوعُ هذَا أَقَامَهُ اللهُ وَنَحْنُ جَمِيعًا شُهُودٌ لِذلِكَ" (أع 2 : 32)، (وأيضًا راجع أع 3 : 15)، وقال بطرس ويوحنا: " لأَنَّنَا نَحْنُ لاَ يُمْكِنُنَا أَنْ لاَ نَتَكَلَّمَ بِمَا رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا" (أع 4 : 20)، وفي بيت كرنيليوس قال بطرس: " وَنَحْنُ شُهُودٌ بِكُلِّ مَا فَعَلَ فِي كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَفِي أُورُشَلِيمَ. الَّذِي أَيْضًا قَتَلُوهُ مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ. هذَا أَقَامَهُ اللهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ" (أع 10 : 39، 40)، وقال يوحنا الحبيب: " اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ الَّذِي سَمِعْنَاهُ الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا الَّذِي شَاهَدْنَاهُ وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا" (1يو 1 : 1)، وهذا ما عبر عنه القديس لوقا بقوله: " وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ وَالشَّرِكَةِ، وَكَسْرِ الْخُبْزِ وَالصَّلَوَاتِ" (أع 2 : 42).. " وَبِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ كَانَ الرُّسُلُ يُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ بِقِيَامَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ" (أع 4 : 33).

St-Takla.org Image: Extract of the second letter of St Paul to the Corinthians (2 Cor 6:5–7), and of the second letter of St Peter (2 Peter 2, 4–5, and 7–9). Fragmentary double-page from a liturgical codex from (?) the White Monastery in Sohag. After 639 AD, ink on parchment (collection of J. Hoffmann, purchased 1888) - The Louvre Museum (Musée du Louvre), Paris, France - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org, October 11-12, 2014 صورة في موقع الأنبا تكلا: جزء من رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس (2 كو 6: 5-7)، ورسالة بطرس الثانية (2 بط 2، 4-5، 7-9)، وهو جزء من مخطوط من طقس الصلوات الكنسية، من الدير الأبيض في سوهاج، مصر - ما بعد سنة 639 م.، وهو حبر على رق (من مجموعة جي. هوفمان، مُشتراة عام 1888) - صور متحف اللوفر (اللوڤر)، باريس، فرنسا - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 11-12 أكتوبر 2014

St-Takla.org Image: Extract of the second letter of St Paul to the Corinthians (2 Cor 6:5–7), and of the second letter of St Peter (2 Peter 2, 4–5, and 7–9). Fragmentary double-page from a liturgical codex from (?) the White Monastery in Sohag. After 639 AD, ink on parchment (collection of J. Hoffmann, purchased 1888) - The Louvre Museum (Musée du Louvre), Paris, France - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org, October 11-12, 2014

صورة في موقع الأنبا تكلا: جزء من رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس (2 كو 6: 5-7)، ورسالة بطرس الثانية (2 بط 2، 4-5، 7-9)، وهو جزء من مخطوط من طقس الصلوات الكنسية، من الدير الأبيض في سوهاج، مصر - ما بعد سنة 639 م.، وهو حبر على رق (من مجموعة جي. هوفمان، مُشتراة عام 1888) - صور متحف اللوفر (اللوڤر)، باريس، فرنسا - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 11-12 أكتوبر 2014

وكان المؤمنون يسألون الرسل في أمور شتى، فكان الرسل يرجعون بذاكرتهم إلى ما تعلّموه من معلمهم الصَّالح، وتصوَّر البعض نماذج من هذه الأسئلة، فيقول "الأب فاضل سيداروس": " فمن المحتمل أن يكون المؤمنون الجدد قد طرحوا على الرسل أسئلة حول النصوص الكتابية (من العهد القديم) التي تقصد يسوع، فكان الرسل يتذكرون ما قاله (أو فعله) يسوع في هذا الصدد. فبوجه عام كان المؤمنون يسألون والرسل يجيبون. كان المؤمنون انطلاقًا من تساؤلاتهم واهتماماتهم اليومية، يسألون الرسل هل يجب دفع الجزية مثلًا، أو ممارسة الصوم والصدقة... وأين يجب أن يصلوا، وهل يحق لهم أن يعاشروا الخطاة والزناة، وهل بمقدورهم أن يطلقوا، وكيف عليهم أن يفهموا العلاقات العائلية، وما هيَ الحياة الأبدية ونهاية الأزمنة ومجيء ابن الإنسان... كما أن المؤمنين كانوا يسألون الرسل كيف كان يسوع يتصرف مع الأطفال والعشارين والوثنيين والسلطات الدينية والمدنية، بالأموال والممتلكات والجنس. فكان التلاميذ يجيبون عليهم ما يتذكرونه من أقوال يسوع الناصري وأعماله، علمًا بأنه وعدهم بأن الروح القدس سيذكرهم بكل ما قاله لهم (يو 14 : 16). فكانت حينئذ تطفو على ذاكرتهم حِكم يسوع، التي تتعلق بأسئلة المؤمنين" (281).

وخلال هذه الفترة ظهرت بعض المدوّنات الإنجيلية باللغة الآرامية التي جمعت بعض أقوال يسوع أو بعض معجزاته أو نبوات العهد القديم عنه... إلخ. كما كتب بولس الرسول خلال هذه الفترة بعض رسائله لبعض الكنائس التي أسسها، يجيب فيها على تساؤلات واستفسارات شعوب هذه الكنائس، ويطمئن على أحوالهم، ويعلمهم ويرشدهم، وتداولت الكنائس هذه الرسائل لتعم الفائدة على الجميع، وتم جمع هذه الرسائل في مجموعة واحدة.

 3ــ مرحلة الإنجيل المكتوب:

وبعد مرور نحو خمسة وعشرين عامًا على الكرازة بالإنجيل الشفاهي، ظهرت الضرورة لتدوين هذا الإنجيل الشفاهي مثل استشهاد بعض الآباء الرسل وموت الكثيرون من شهود العيان، ومحاولة اليهود التشويش على الإيمان وتزييف الحقائق، وظهور بعض البدع والهرطقات، وضرورة توضيح الربط بين العهدين القديم والجديد، وانتشار الإيمان في أرجاء المسكونة، وتعطش المؤمنين الجدد لمعرفة كل شيء عن السيد المسيح، والحاجة إلى دستور مكتوب يكون مصدر ثقة... إلخ، وطالب أهل روما مرقس الرسول أن يسجل لهم حياة السيد المسيح وأقواله وأعماله، فاستجاب لهم وظهر للوجود أولًا إنجيل مرقس، وتبعه إنجيلي متى ولوقا، وأخيرًا إنجيل يوحنا، وجاء الإنجيل المكتوب صورة من الإنجيل الشفاهي، فتلقفته الأيدي وحفظته القلوب وعاش في أفئدة المؤمنين.

وقال "موريس بوكاي" أن "كولمان" أوضح في كتابه "العهد الجديد" أن النص الشفهي ظل يتداول طيلة ثلاثين أو أربعين سنة في شكل أقوال وروايات منفصلة ومنعزلة، ونسج الإنجيليون كلٍ على طريقته، وبحسب اهتماماته اللاهوتية إنجيلــه، فقـــد صوَّر "كولمان" الإنجيليين وكأن لا دور لهم في تسجيل الأناجيل إلاَّ مجرد نقل بعض الروايات والأقوال المنسوبة للسيد المسيح والتي شاعت في الوسط المسيحي، وربطوا هذه الروايات والأقوال بأدوات ربط مثل "وبعد هذا" أو "ما أن.."، وهذه مغالطة كبيرة، لأن كولمان وبوكاي وغيرهما يتجاهلون أن متى الإنجيلي ويوحنا الإنجيلي كانا من شهود العيان اللذين لازما السيد المسيح طوال مدة خدمته على الأرض، فهل هما في حاجة أن يقص عليهما أحد بعض الروايات أو بعض الأقوال الخاصة بمعلمهم..؟! لقد مثل الإنجيليون الدور الرئيسي والمحوري والأساسي في إذاعة الإنجيل الشفاهي، وأيضًا في تدوين الإنجيل المكتوب، ولا يمكن أن نغفل أنه كان كثيرون من شهود العيان الذين شاهدوا معجزات السيد المسيح وسمعوا أقواله ما زالوا على قيد الحياة، وأيضًا كان هناك أعداء للمسيحية منذ نشأتها، وهؤلاء الأعداء لا بد أنهم كانوا سيهاجمون أي قصة مختلفة.

 

ثانيًا: هل كان التلاميذ مجرد جامعين ومسجلين للأحداث:

1ـــ لم يكن التلاميذ مجرد جامعين ومسجلين للأحداث التي شاهدوها وعاينوها كأنهم شهود في المحكمة، ولم يكونوا مثل الإسفنجة التي تمتص الماء من مكان لتضخه في مكان آخر دون أدنى تغيُّر، إنما كانوا كالنحل الذي يجمع رحيق الأزهار المختلفة ويهضمه، ثم يخرجه لنا عسلًا شهدًا لذيذًا، فالكتَّاب تفاعلوا مع ما شاهدوه وعاشوه، وأضافوا له البُعد اللاهوتي، فخرج إنجيلًا حيًّا معاشًا، إنجيلًا متحركًا وليس إنجيلًا ساكنًا أو صامتًا، قال عنه بولس الرسول أنه: " قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ" (رو 1 : 16).

2ـــ كان التلاميذ أمام بحر زاخر من أقوال وتعاليم ومعجزات وأعمال السيد المسيح، وكم استغرق السيد المسيح في أحاديث طويلة استغرقت الساعات إن لم يكن الأيام، على مدار أكثر من ثلاث سنوات، وصنع معجزات لا حصر لها، فيقول متى الإنجيلي: " وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ قَدَّمُوا إِلَيْهِ مَجَانِينَ كَثِيرِينَ فَأَخْرَجَ الأَرْوَاحَ بِكَلِمَةٍ وَجَمِيعَ الْمَرْضَــى شَفَاهُمْ" (مت 8 : 16) لاحظ قوله " وَجَمِيعَ الْمَرْضَى"، ويقول مرقس الإنجيلي: " وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ إِذْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَدَّمُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ وَالْمَجَانِينَ" (مر1 : 32)، ويقول لوقا الإنجيلي: " وَعِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ سُقَمَاءُ بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدَّمُوهُمْ إِلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَشَفَاهُمْ. وَكَانَتْ شَيَاطِينُ أَيْضًا تَخْرُجُ مِنْ كَثِيرِينَ" (لو4 : 40، 41)، وكذلك قال يوحنا الإنجيلي: " وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ" (يو21 : 25).

وكان على التلاميذ أن يتخيَّروا من هذا البحر الزاخر من الأقوال والتعاليم والمعجزات ما يتناسب مع هدف كل منهم اللاهوتي، فلم يكتب أي من الإنجيليين كل ما سمعه وكل ما شاهده، إنما إذ كان يقف أمام بحر زاخر لا نهاية له، كان يتخيَّر بحكمة الروح القدس ما يتوافق ويتناسب مع هدفه، ويقول "جون درين": " أن البشيريين لم يكونوا مجرد جامعين ومسجلين للتقاليد. ولكن كانوا كاتبين خلاقين كتبوا مادتهم لمخاطبة موضوعات تشغل قارئيهم" (282).

فمتى الذين كتب لليهود عن المسيح الملك والمسيا، ابن داود، يختلف بلا شك في هدفه عن مرقس الذي كتب للرومان الذين يُمجّدون القوة، وقد كتب لهم عن المسيح القوي صانع المعجزات ابن الله، يختلف عن لوقا الذي كتب لليونان عن المسيح ابن الإنسان كصديق ومُحب وفادي، وكتب لهم بأسلوب الطبيب المثقَّف والفنان البارع والمؤرخ المدقّق، وهو في هذا يختلف عن يوحنا الذي سبح في اللاهوت وكتب عن المسيح الكلمــة، ويقول "الخوري بولس الفغالي": " شدَّد مرقس على وجه المسيح ابن الله الذي نتعرَّف إليه تدريجيًا، وحدثنا متى عن موسى الجديد الذي يحمل إلى البشرية شريعة جديدة لا تختلف عن الأولى بمضمونها بل بمتطلباتها، وحدثنا لوقا عن هذا المسيح الذي يحمل الرحمة إلى الصغار من فقراء وخطاة ومنبوذين، والفرح إلى جميع البشر، فكيف لا نريد لهؤلاء الإنجيليين الثلاثة أن لا يختلفوا في التفاصيل، وكل واحد حاول أن يقدم لنا لوحة عن يسوع، وما أجملها لوحة!" (283)، وهذا يعتبر ردًا على قول "بورمزي" أن كل من الأربعة الأناجيل يتناقض في رواياته عن أحداث معاناة السيد المسيح وصلبه، وأيضًا لنا عودة للرد الوافي عند التعرض إلى أصحاحات الآلام والصلب إن شاءت نعمة الرب وعشنا.

3ـــ عمل الكاتب هنا لا يشبه عمل المصوّر الذي يلتقط المناظر ويعرضها، وهذا هو كل هدفه أن يعرض كل ما التقطه من صور، إنما يشبه الكاتب الفنان الماهر الذي يرسم لوحة رائعة فيختار الألوان التي تناسب هذه اللوحة، ويقول "الخـوري بولس الفغالـي": "وهكذا يبدو عرض الواقع التعليمي في الإنجيل قريبًا من عمل الفنان لا من عمل المصوّر، من عمل حامل الذكريات لا من مُرسِل تقرير إلى الصحافة. فالمصوّر يجعل في صورته كل ما يقع تحت عدسته، أما الفنان فيختار لا ليجعل كل شيء من لوحته بل ليشدد على بعض النقاط دون الأخرى. هو لا يستطيع أن يضع أمورًا كثيرة في لوحته، لهذا نراه يختار ويبرز ما يختاره، لتدخل كلمة الله في أعماق المؤمن. وصاحب التقرير يُرسِل كل التفاصيل، أما صاحب الذكريات فيختار ما لفت انتباهه وأثر في حياته. هذه هيَ طريقة البشر في التوسع بكلام الله. لا نستطيع أن نحيد باللامحدود من كل جوانبه، لهذا نوجه نظرتنا إلى حيَّز محدود يصل بنا إلى قلب الله، فمن ذاق نقطة من ماء البحر عرف طعمه. ولكن يبقى عليه أن يغوص في الأعماق، وهذا هو الأمر بالنسبة إلى المؤمن: يقدم إليه الإنجيلي نظرة إلى يسوع، فبقيَ عليه أن ينزح إلى العمق كالرسل وهناك يكتشف غنى الله"(284).

 4ــ جاءت الأناجيل أقرب للسيرة الحياتية للسيد المسيح، فاتبعت تسلسلًا زمنيًا، وجاء التركيز على آلام السيد المسيح وموته وقيامته، ويقول "جون درين": " بينما تُظهِر الأناجيل اتفاقًا كبيرًا مع الأشكال الأدبية في الأدب القديم أكثر مما يعتقده المرء خاصة في مجال السيرة الذاتية الشفهية، فهيَ تحوي الكثير من الملامح المميزة التي يمكن قبولها، أن كاتبي الأناجيل كانوا يكتبون عن قصد كتابات أدبية تأخذ مكانًا بجانب الكتاب الكلاسيكيين، والاحتمال الأكبر أن البشيريين كانوا واعين للأساليب التي كان يكتب بها آخرون عن أبطالهم في ذلك الوقت، وتأثروا بتقاليد بتلك الأيام بالمعنى العام، لأنهم هم أنفسهم كانوا جزءًا من الثقافة الهلينستية ومعتادين على الأسلوب الأدبي" (285).

ودُعي كتَّاب الأناجيل بالبشيريين وهذه تسمية دقيقة، توضح قصدهم من كتابة أناجيلهم إذ يبشرون بحياة جديدة قد صنعها السيد المسيح لنا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. من خلال فدائه العجيب المُعلَن على الصليب، ونصرته على الموت والشيطان، والإنجيل دائمًا يدعونا للتمتع بهذه الحياة الفضلى: " وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ" (يو10 : 10).

5ـــ اختار كل واحد من البشيريين الوحدات الأدبية التي سجلها في إنجيله، وهذا ما أوضحته مدرسة تاريخ تحرير الأناجيل، ويقول "الأب بيوس عفاص": "ومن هنا كان الاكتشاف الأكبر! حين أنكب أهل الاختصاص في دراسة وتحليل دور الإنجيلي في تنسيق وتأخير وتوظيف "الوحدات الأدبية".. وهذا ما قامت به مدرسة "تاريخ تحرير الأناجيل" التي سعت إلى إبراز دور الإنجيلي كمؤلف حقيقي، وليس كناقل وثائق، في جمع مصادره وانتقاء ما يخدم منها مخططه وأهدافه، واستخدام الفنون الأدبية المناسبة وتوظيفها في عملية التعليم والوعظ التي استهدفها من وراء إنجيله.

وسنبقى مدينين إلى هذه المدرسة بما حملته من أضواء ساعدت على قراءة الأناجيل وفهمها، بفضل تاريخ الكتابة الذي جعلنا قبل شيء، نكتشف المسافة التي تفصل أناجيلنا عن الأحداث، ونفهم أن ما نقلته من أحداث فإنما نقلته في ضوء الإيمان بقيامة المسيح، وندرك الثراء الذي اكتسبته خلال نصف قرن من حياة الجماعات المسيحية وتساؤلاتهـــا وحاجاتها" (286). (كتب مرقس الإنجيلي بعد نحو ربع قرن من قيامة المسيح، بينما كتب يوحنا بعد نحو نصف قرن).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

 (279) القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ص 76، 77.

(280) أورده بارت إيهرمان - الاقتباس الخاطئ عن المسيح ص 249.

 (281) تكوين الأناجيل جـ 1 ص 27.

(282) مدخل العهد الجديد ص 163.

(283) الأناجيل الإزائية متى - مرقس - لوقا ص 334.

 (284) الأناجيل الإزائية متى - مرقس - لوقا ص 333.

(285) مدخل العهد الجديد ص 165.

 (286) قراءة مجددة للعهد الجديد ص 211، 212.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/50.html

تقصير الرابط:
tak.la/s4w2xxv