س480: هل كان مرقس الرسول سكرتيرًا لبطرس الرسول ومترجمه في روما؟ وهل إنجيل مرقس هو مذكرات بطرس أو أن بطرس أملاه لمرقس، بدليل أنه ركز على ضعفات بطرس مثل تبكيت السيد المسيح له ووصفه بالشيطان (مر 8: 33)، وإنكار بطرس وصياح الديك مرتين ذكره مرقس بالتفصيل وبقسوة، وتغاضى عن معجزات بطرس مثل مشيه على المياه؟ وهل أسهب مرقس في الكتابة عن الأمور التي عاينها بطرس مثل شفاء مخلع كفرناحوم (مر 2: 1 - 12)، ومجنون كورة الجدريين (مر 5: 1 - 20) وإقامة ابنة يايرس (مر 5: 21 - 43)، بينما أوجز في الأحداث التي لم يشهدها بطرس، مثل التجربة على الجبل (مر 1: 12، 13)؟
ج: 1- هل كان مرقس الرسول سكرتيرًا لبطرس الرسول ومترجمه العزيز في روما؟.. نحن لا ننكر صلة القرابة بين بطرس الرسول ومرقس الرسول، فزوجة القديس بطرس هيَ ابنة عم أرسطوبولوس والد القديس مرقس، وأن أرسطوبولوس كان يصطحب أسرته لزيارة بطرس في كفرناحوم في كل مرة يزور فيها أرض الموعد بمناسبة الأعياد، وأنه تكوَّنت صداقة بين بطرس ومرقس رغم الفجوة الزمنية بينهما ولا سيما أن مرقس كان ناضجًا في حياته، وأن بطرس الرسول كثيرًا ما كان يتردد على بيت مرقس طالما هو في اليهودية سواء بمفرده أو بصحبة السيد المسيح وبقية التلاميذ، وأن بيت مارمرقس كان له دور هام وأساسي في ليلة الآلام، وفترة الصلب والقيامة والصعود وحلول الروح القدس، وبعد هذا عندما بدأت الكرازة ذهب مرقس مع بطرس للكرازة في بيت عنيا واليهودية بمدنها وقراها، ثم انطلق معه إلى بنتس وغلاطية وكبدوكية وآسيا وبثينيه، وأن كانت هناك مودة خاصة تجمعهما، حتى أن بطرس أباح له بكل ما كان يجيش في صدره من ذكريات سواء سعيدة أو أليمة كان السيد المسيح طرفًا فيها، فبطرس هو الذي أخبر مرقس أنه في لحظات التجلي: " لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ" (مر 9: 6)، وهو الذي حكى له عن تفاصيل إقامة ابنة يايرس (مر 5: 21 - 43)، وشجرة التين (مر 11: 11 - 14، 20 - 24)، والسؤال عن نهاية العالم (مر 13: 3، 4)، وصلاة البستان وعتاب المسيح له (مر 14: 32 - 42)، وقصة الانكار قبل أن يصيح الديك مرتين (مر 14: 66 - 72)، كما أصغى مرقس لبطرس عن أحداث لم يكن مرقس حاضرًا فيها مثل حادثتي هيجان البحر (مر 4: 35 - 41، 6: 45 - 53). وأيضًا لا ننكر أن مرقس كانت له دالة على بقية التلاميذ الذين دخلوا بيته وجعلوا هذا البيت مقرًا لهم، وأنه كثيرًا ما تحدث معهم وأصغى لهم، وعلاوة على هذا كان مرقس شاهد عيان على كثير من الأحداث، وكان يتبع المسيح بحكم أنه كان أحد الرسل السبعين الذي اختارهم وأرسلهم ليكرزوا باسمه.
أما القول بأن مرقس كان سكرتيرًا لبطرس، فهو قول جانبه الصواب، لأنه مَن مِن الرسل كان له سكرتيرًا خاصًا به؟!!. كان لبطرس معاونين ومشاركين معه في الخدمة ولم يكن له سكرتير قط، فهل تميَّز بطرس عن بولس وهو الذي ملأ العالم كرازة وبشارة وعن بقية التلاميذ، فاختار له مرقس سكرتيرًا؟!.. لقد كان مرقس معاونًا لبطرس وشريكًا له في الخدمة، وبطرس الرسول باتضاعه لم يدع مرقس أن يشعر قط أنه أفضل منه، فقد أستوعب كلام السيد المسيح: " إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلّ" (مر 9: 35). أما عن القول بأن مرقس كان مترجم بطرس، فلا ننسى أن الروح القدس قد أعطى الرسل التكلم بألسنة، وفي يوم الخمسين قام الروح القدس بعمل المترجم الفوري لجميع المستمعين وكان عددهم بالآلاف يتكلمون بعدة لغات: " فَبُهِتَ الْجَمِيعُ وَتَعَجَّبُوا قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتُرَى لَيْسَ جَمِيعُ هؤُلاَءِ الْمُتَكَلِّمِينَ جَلِيلِيِّينَ؟ فَكَيْفَ نَسْمَعُ نَحْنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا لُغَتَهُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا.." (أع 2: 7 - 11)، فالقول بأن مرقس كان مترجم بطرس، فمعنى هذا أن بطرس بدون مرقس تتوقف خدمته ويصبح عديم النفع، وكأنه فقد موهبة التكلم بألسنة... لم يحدث هذا قط ولم تتوقف خدمة معلمنا بطرس الرسول ولا خدمة أي من التلاميذ قط بسبب عدم إجادة اللغات، فالروح القدس الذي كان يقودهم للخدمة، لم يتركهم لحظة واحدة. ومع هذا لا نمانع أن الروح القدس استخدم إجادة مرقس للغات فكان يشرح لهم الإيمان ويبسط لهم العقيدة، وبهذا المفهوم قال ترتليان أنه كان: "مرقس مفسّر بطرس" (139).
والقول بأن مرقس كان مترجمًا لبطرس وخدم معه في روما، فمن المؤكد أن الذي أسَّس كنيسة روما بولس الرسول رسول الأمم والمؤتمن على إنجيل الغرلة، والذي اعتاد أن لا يبني على أساس وضعه آخر (رو 15: 20)، ولا توجد أي إشارة في سفر الأعمال أو خارجه توضح أن بطرس الرسول خدم في روما، أو ذهب إلى روما إلاَّ في أواخر حياته لمقاومة سيمون الساحر. وجاء في "موسوعة آباء الكنيسة": "ويقول شاف Schaff أن الرأي القائل بزيارة بطرس لروما بعد نجاته المعجزية من السجن (أع 12: 17) لا يمكن الجزم به، إذ أن بولس لم يذكر أو يشير إلى خدمة بطرس السابقة في المدينة (روما) عندما كتب رسالته إلى رومية نحو عام 58م، كما أن بولس كان محترصًا أن لا يبني على أساس لآخر (رو 15: 20، 2 كو 10: 16). ولكن يذكر بعض آباء الكنيسة مثل إيرينيؤس وكليمندس السكندري وأوريجانوس وغيرهم من الآباء في القرون الأولى أن بطرس ذهب إلى روما قرب نهاية حياته. وخدم فيها فترة بسيطة مشتركًا مع الرسول بولس في رعاية المؤمنين، وفي الشهادة للإيمان في عاصمة الإمبراطورية الرومانية آنذاك، وأنه قد استشهد في اضطهاد نيرون هو والرسول بولس في سنة 67م" (140).
2- هل إنجيل مرقس هو مذكرات بطرس أو أن بطرس أملاه عليه؟, لو كان إنجيل مرقس هو مذكرات بطرس أو أن بطرس أملاه عليه فلماذا لم يدعى "إنجيل بطرس" ما دام هو صاحب المادة المكتوبة؟!. فمثلًا في العهد الجديد رسالتين بِاسم القديس بطرس والأمر مستقر أن بطرس هو صاحب هاتين الرسالتين، بالرغم من أن الرسالة الأولى لم يكتبها بطرس بخط يده إنما كُتبت بيد سلوانس: " بِيَدِ سِلْوَانُسَ الأَخِ الأَمِينِ كَمَا أَظُنُّ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ بِكَلِمَاتٍ قَلِيلَةٍ وَاعِظًا وَشَاهِدًا... " (1بط 5: 12)، فبالمثل لو الإنجيل إنجيل بطرس وكتبه بيد مرقس لحمل اسم "إنجيل بطرس" وأشير فيه أنه كُتِبَ بيد مرقس. وهذا أمر متعارف عليه وفعله بولس الرسول، ففي نهاية رسالة فيلبي نجد عبارة " كُتِبَت إلى أهل فيلبي من رومية على يد ابفرودتس" وفي نهاية رسالة كولوسي عبارة: " كُتِبَت إلى أهل كولوسي من رومية بيد تيخيكس وأنسيمس".
والقول بأن إنجيل مرقس هو مذكرات بطرس بدليل أنه ذكر ضعفات بطرس ولم يذكر معجزاته، فهذا رأي أحد أساقفة آسيا هو "بابياس" أسقف هيرابوليس، وأخذ منه بقية الكتَّاب مثل الشهيد يوستين الذي قال عن إنجيل مرقس أنه "مذكرات بطرس الرسول" (الحوار 106: 3). والحقيقة أننا لا نقبل هذا القول لأسباب عديدة، مثل:
(1) أن هذا الرأي في الأساس رأي شخص واحد وهو بابياس. فيقول "توماس أودين" عن تأثر أوريجانوس وترتليان ويوستين برأي بابياس: "أن وصف مرقس بواسطة بابياس بأنه مُفسر بطرس ومترجمه الخاص، كان قد أُفترض بواسطة مُفسرين قدامى لاحقين لمرقس. فقد ذكر أوريجانوس أن مرقس كتب مثلما كان بطرس يوجهه. أما ترتليان (150 - 220م) فقد زعم أيضًا أن {الإنجيل الذي نشره مرقس يؤكد أنه خاص ببطرس، الذي كان مرقس مترجمه (مر 4: 5)}.. يوستين الشهيد الذي كان يكتب في منتصف القرن الثاني (100 - 155م) يسجل أن إنجيل مرقس قد تمت كتابته "كمذكرات" لبطرس (الحوار 106: 30)" (141). وأيضًا أعاد أكليمنضس السكندري رأي بابياس عندما قال: " كان مرقس مفسّرًا أو مترجم بطرس، بينما كان بطرس يعظ ويكرز أمام الشعب بالإنجيل في روما، في حضور بعض حرس فرسان القيصر، أي أبناء رتبة الفرسان، وكان يضع أمامهم شهادات عديدة بخصوص المسيح، نزولًا على طلبهم، حتى يحفظوا في ذاكرتهم مثل تلك الأمور الذي ينطق هو بها، فكتب (مرقس) عن أمور تحدَّث بها بطرس في الإنجيل المسمى "الإنجيل بحسب مرقس".." (كلينتون ملاك - مرقس ص 130) (142).
ويقول "الأب متى المسكين": "ومن هذه التحقيقات يتضح لنا أن كل المؤرخين القدامى أخذوا من بابياس أخذًا أعمى دون تحقيق أو مضاهاة هذه الأقوال على واقع الإنجيل نفسه، وانتحوا جميعًا ناحية بطرس وروما. فبطرس هو الذي أملى الإنجيل على تلميذه في روما. ويخرج عن هذا التقليد الغربي الصرف جيروم العالِم الإنجيلي... واضح أن تقليد جيروم شرقي وأنه من أكويليا التي كرز فيها ق. مرقس وأنه عاش في مصر وفلسطين وأنه مؤرّخ مدقق. لهذا نأخذ بتحقيقه بكثير من الثقة وهو يطابق تقليدنا القبطي إلى حد كبير.
أما تقليد جميع المؤرخين القدامى الآخري الذين سجلنا أقوالهم فهيَ نسخة من أقوال بابياس الذي بقوله أن ق. مرقس لم يَرَ الرب ولا سمعه يكون قد ألغى كل مصداقية أقواله فيما يخص القديس مرقس وإنجيله... ولكن لا ينبغي أن ننفي عن إنجيل ق. مرقس بعض الاعتماد على كل القديسين بطرس وبولس، فقد خدم معهما، وهو وإن كان قد أخذ شيئًا من ق. بطرس فقد أعطى أشياء للقديس بولس... ولكن الانطباع العام الذي انتهى إليه جميع العلماء والنُقَّاد في السنين الأخيرة أن ق. مرقس هو كاتب إنجيله كشاهد عيان ومسجّل لما كان يرى ويسمع عن قُرب من الحوادث ومن الرب نفسه.." (143).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
(2) تعاليم بطرس الرسول اللاهوتية التي تظهر في رسالته لا يرد أي منها في إنجيل مرقس، ومن الجانب الآخر لم يكن القديس مرقس مفتقرًا للمعلومات عن السيد المسيح لأنه رآه وعاشره، وكان من السبعين رسولًا، وحلَّ عليه الروح القدس، وكان بيته مقرًّا للرسل. وإن كان البعض نسب إنجيل مرقس لبطرس الرسول لأنه كان مساعدًا له وشريكًا معه في الخدمة، فلماذا لم ينسبوا إنجيل مرقس لبولس الرسول، بحجة أن مرقس الرسول كان مساعدًا له وشريكًا معه في الخدمة (أع 13: 5، كو 4: 10، 2تي 4: 11). ويقول "الدكتور موريس تاوضروس": "على أنه يُلاحظ أن الإنجيل وإن كان قد قصد إلى تسجيل ما تلقاه القديس مرقس من القديس بطرس، إلاَّ أننا لا نجد فيه لاهوتًا خاصًا ببطرس، وذلك لأن مرقس لم يكن يتبع بطرس فقط، ولكن تبع أيضًا بولس، وعرف كذلك التلاميذ الآخرين واستمع إليهم فضلًا عن أن السيد المسيح كما قلنا اتخذ من بيته مكانًا لإقامة العشاء الرباني" (144).
(3) مَن يدرس إنجيل مرقس يدرك أن القديس مرقس يكتب كشاهد عيان يرى ويسمع ويسجل، وليس كمن استمع إلى أخبار وراح يدوّنها. ولنا عودة لهذا الأمر عند حديثنا عن سمات إنجيل مرقس.
(4) لو أن مرقس دوَّن مذكرات بطرس لذكر ذلك صراحة، فهو الإنسان المتضع الذي لم يذكر اسمه ولا أشار إلى شخصيته في إنجيله قط، ولم يوجه كلامه مرة واحدة للقارئ كما فعل لوقا ويوحنا، ولم يلمح أنه كان على اتصال ببطرس الرسول ولا بغيره يستشيره فيما يكتبه، فكل هدفه هو نشر إنجيل يسوع المسيح ابن الله... فلو كان ما يكتبه هو مذكرات بطرس لذكر ذلك صراحة، وهو ما يمليه عليه ضميره الحي.
(5) أسفرت الأبحاث الدقيقة الجادة أنه لا صحة للقول بأن إنجيل مرقس هو مذكرات بطرس، فيقول "الأب متى المسكين": "سقوط نظرية أن إنجيل ق. مرقس هو مذكرات بطرس الرسول: أمام الأبحاث النقدية الدقيقة خرج إنجيل ق. مرقس من القرن التاسع عشر خاليًا من أي علاقة لبطرس الرسول" (Ralph Martin, op. cit. p. 42) (145).
(6) الأدلة التي ساقها النُقَّاد للتدليل على أن إنجيل مرقس هو مذكرات بطرس مردود عليها، فمثلًا:
أ - قولهم أن إنجيل مرقس ركز على ضعفات بطرس، فواضح أن إنجيل مرقس لم ينفرد بذكر ضعفات بطرس، بل ذكرها بعض الإنجيليين الآخرين، فقول السيد المسيح لبطرس: "اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ" (مر 8: 33) وردت في إنجيل متى: "فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: اذْهَبْ عَنِّي يَاشَيْطَانُ" (مت 16: 23)، وإنكار بطرس الذي ذكره القديس مرقس (مر 14: 66 - 72) ذكره القديس متى (مت 26: 69 - 75) والقديس لوقا (لو 22: 54 - 65) وأيضًا القديس يوحنا (يو 18: 17، 18، 25 - 27).
ب - إن كان إنجيل مرقس ذكر اعتراف بطرس (مر 8: 29) ولم يذكر تطويب السيد المسيح له على هذا الاعتراف، فإن هذا ما سجله القديس لوقا أيضًا (لو 9: 20).
جـ - لم يذكر إنجيل مرقس مشي بطرس على المياه، فإن هذا الأمر لا يحمل تمجيد لبطرس على طول الخط، لأنه بعد أن أظهر بطرس إيمانه وقفز في الماء عندما رأى الأمواج تعلو وهو يسير على المياه شكَّ في الأمر وضعف إيمانه وبدأ يغرق فأنقذه السيد المسيح قائلًا: "يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ لِمَاذَا شَكَكْتَ" (مت 14: 31). وإن كان إنجيل مرقس أغفل مشي بطرس على الماء، فإن هذا ما فعله القديس يوحنا أيضًا (يو 6: 16 - 21).
د - إن كان القديس مرقس لم يذكر سلطان الحل والربط الذي أعطاه السيد المسيح لبطرس عقب اعترافه بألوهيته، فأنه لم يذكر أيضًا سلطان الحل والربط الذي أعطاه السيد المسيح للتلاميذ.
هـ - القول بأن مرقس الرسول أسهب في كتابة ما عاينه بطرس مثل شفاء مخلع كفر ناحوم (مر 2: 1 - 12)، ومجنون كورة الجدريين (مر 5: 1 - 2) وإقامة ابنة يايرس (مر 5: 21 - 43) بينما أوجز في الأحداث التي لم يشهدها بطرس مثل التجربة على الجبل (مر 1: 12، 13) قول جانبه الصواب لأن هناك أحداثًا شهدها القديس بطرس وأوجزها إنجيل مرقس مثل عظات وتعاليم السيد المسيح التي توسع فيها القديس متى، وبلا شك قد استمع لها القديس بطرس ومع هذا أوجزها إنجيل مرقس، وأيضًا الجدالات التي دارت بين الفريسيين والسيد المسيح (مر 2: 13 - 3: 5). وإن كان إنجيل مرقس أوجز التجربة على الجبل فذلك لا يرجع إلى أن بطرس لم يشهدها، لأن متى ولوقا لم يكن أحدهما مع السيد المسيح على جبل التجربة وتوسعا في الحديث عنها عن إنجيل مرقس. لقد حكى الرب يسوع لتلاميذه عما حدث على جبل التجربة وكان بطرس مستمعًا فهو تساوى في المعرفة مع متى ولوقا. وأيضًا يجب التنويه بأن الإيجاز لا يعد عيبًا بل مثله مثل الأطناب متى استخدم في موضعه، فيقول "الأرشمندريت يوسف دره الحداد": "الإيجاز والأطناب من دلائل الإعجاز في البيان (السيوطي - الإتقان) فأضاف مرقس الرسول هذا الإعجاز في البيان إلى إعجاز السهل الممتنع في الرواية" (راجع الدفاع عن المسيحية جـ 1 في الإنجيل بحسب مرقس ص 74).
و - القول بأن إنجيل مرقس لم يهتم بالأمور الخاصة ببطرس الرسول قول مردود عليه لأن إنجيل مرقس اهتم بشخصية بطرس الرسول، فذكر دعوة الرب له ولأخيه إندراوس (مر 1: 16 - 18) وأن السيد المسيح دخل بيته وشفى حماته (مر 1: 29 - 31) وجاء اسمه في أول قائمة أسماء الرسل (مر 3: 16) واصطحبه السيد المسيح مع يعقوب ويوحنا في إقامة ابنة يايرس (مر 5: 37) وفي التجلي (مر 9: 2 - 8) وذكر قوله للسيد المسيح: "هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ" (مر 10: 28) وقوله أيضًا: " يَاسَيِّدِي انْظُرْ اَلتِّينَةُ الَّتِي لَعَنْتَهَا قَدْ يَبِسَتْ" (مر 11: 21) وهو أحد الذين سألوا السيد المسيح عن علامات نهاية العالم (مر 13: 3) وكان قريبًا من السيد المسيح في بستان جثسيماني (مر 14: 32) وقال ملاك القيامة للنسوة: " اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ" (مر 16: 7). نحن نؤمن أن كاتب الأسفار المقدَّسة يترفّع عن المستوى الشخصي، فكل ما ذكره مرقس الرسول عن بطرس الرسول هو حقيقة، وذكرها مرقس الرسول كحقيقة دون أن يقصد أن يحط ولا أن يرفع من قدر بطرس الرسول.
ويقول "البابا شنوده الثالث": "نحن نريد أن نرتفع بالرسل والأنبياء كاتبي الأسفار المقدَّسة عن المستوى الشخصي أثناء كتابتهم بالوحي. لقد ذكروا ما يخصهم مديحًا وذمًا، لمجرد رواية الحق، دون أن يكون لأشخاصهم اعتبار في نظرهم وقت الكتابة" (146).
ز - القول بأن إنجيل مرقس ذكر إنكار بطرس الرسول بتفصيل وقسوة... لا يعد دليلًا على أن بطرس هو الذي أملأ مرقس الإنجيل، ولكن هذه هيَ طبيعة القديس مرقس والذي اعتاد التدقيق وذكْر الأمور بتفصيلاتها، فيذكر أن يسوع كان نائمًا "فِي الْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ" (مر 4: 38) وهذا ما لم يذكره غيره، وفي معجزة إشباع الجموع يذكر بالتفصيل أن التلاميذ أتكأوا الجمع: " رِفَاقًا رِفَاقًا عَلَى الْعُشْبِ الأَخْضَرِ... صُفُوفًا صُفُوفًا مِئَةً مِئَةً وَخَمْسِينَ خَمْسِينَ" (مر 6: 39 ، 40) وهذا ما لا نجده في إنجيل آخر بهذه الصورة (راجع مت 14: 19، لو 9: 14، يو 6: 10).. وهلم جرا.
وإذا تأملنا في
إنكار بطرس في الأناجيل الأربعة، ففي الإنكار الأول نجد
إنجيل مرقس
أخف لهجة وحدة من إنجيلي لوقا ويوحنا، فقال بطرس: "
لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ"
(مر 14: 68) بينما ذكر القديس لوقا: "
لَسْتُ أَعْرِفُهُ يَا امْرَأَةُ" (لو 22: 57) وفي
إنجيل يوحنا: "
فَأَنْكَرَ ذَاكَ وَقَالَ لَسْتُ أَنَا" (يو 18:
25). وأيضًا في الإنكار الثاني لبطرس استخدم
إنجيل مرقس لهجة أخف
إذ يقول: "
فَأَنْكَرَ أَيْضًا" (مر 14: 70) بينما يقول إنجيل
متى: " فَأَنْكَرَ
أَيْضًا بِقَسَمٍ إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ الرَّجُلَ"
(مت 26: 72). وفي الإنكار الثالث قال
القديس مرقس: "
فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هذَا
الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْه"
(مر 14: 71) فإن القديس متى استخدم نفس التعبيرات: "
فَابْتَدَأَ حِينَئِذٍ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ إِنِّي لاَ أَعْرِفُ
الرَّجُلَ"
(مت 26: 74). فواضح جدًا أن
إنجيل مرقس لم يذكر إنكار بطرس بقسوة،
بل أن ما جاء فيه بشأن إنكار بطرس أخف وطأة مما جاء في الأناجيل
الأخرى.
ويقول "البابا شنوده الثالث": "إننا نقول بملء الثقة، من واقع الكتاب، أن إنجيل مرقس هو أقل الأناجيل الأربعة في شرح وذكر ضعفات بطرس... هؤلاء الإنجيليون الذين ذكروا ضعفات بطرس بأكثر وضوح، لم يقل أحد أن بطرس أملاهم ذلك تواضعًا منه، أو أنهم نقلوا أناجيلهم من عظات بطرس" (147).
وذكر البابا شنوده عدة أمثلة تؤكد أن إنجيل مرقس لم يكن أكثر قسوة من الأناجيل الأخرى:
(أ) مقارنة ما جاء في (مر 8: 33)، (مت 16: 23) نلاحظ أن متى أزاد قول السيد المسيح لبطرس "أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي" وهذا لم يذكره مرقس.
(ب) ذكر يوحنا قول السيد المسيح لبطرس: "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ" (يو 13: 8) وهو ما لم يذكره مرقس.
(جـ) ذكر لوقا في التجلي: " وَأَمَّا بُطْرُسُ وَاللَّذَانِ مَعَهُ فَكَانُوا قَدْ تَثَقَّلُوا بِالنَّوْمِ" (لو 9: 32)، وهذا ما لم يذكره مرقس.
(د) ذكر لوقا قول السيد المسيح لبطرس: " وَلكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ" (لو 22: 32) وهو ما لم يذكره مرقس.
(هـ) ذكر يوحنا توبيخ السيد المسيح لبطرس بعد القيامة (يو 21: 15 - 17) وهو ما لم يذكره مرقس.
(7) الاعتقاد بأن بطرس أملأ الإنجيل لمرقس يطعن في نظرية الوحي الإلهي، فنحن نؤمن أن الأسفار المقدَّسة في مجملها وفي تفصيلاتها كُتبت بوحي من روح الله القدوس: " كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللَّهِ" (2 تي 3: 16)، "لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ الله الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (2 بط 1: 21) فروح الله هو الذي اختار الكتَّاب ووضع فيهم الدافع للكتابة وصاحبهم أثناء الكتابة، فكان يرشد الكاتب وينير ذهنه ويعصمه من أي خطأ ويساعده على انتقاء الألفاظ (راجع كتابنا: مفهوم الوحي والعصمة في الكتاب المقدَّس).. لقد وقف كل كاتب من كتبة الأناجيل أمام بحر زاخر من معجزات وتعاليم السيد المسيح، والروح القدس هو الذي أعانه في اختيار ما يكتب، فهل القديس مرقس الإنجيلي كتب إنجيله بوحي من الروح القدس أم بإملاء من القديس بطرس؟!!.. عقيدة الإملاء ضد عقيدة الوحي الإلهي بالمفهوم المسيحي. ويقول القمص عبد المسيح بسيط أن إدوارد شفيتزر E. Schweizer في شرحه لإنجيل مرقس نفى وجود أي صلة للقديس بطرس بإنجيل مرقس، فلا يوجد أي تقليد معين عن علاقة بطرس بإنجيل مرقس (راجع هل كتب القديس مرقس الإنجيل الثاني؟ ص 33).
وللأسف فأن الأخوة الكاثوليك أدخلوا فكر إملاء بطرس الأنجيل في بعض الكتب الأرثوذكسية التي طُبعت لديهم، ففي السنكسار الذي نشره رينيه باسيه في باريس تحت يوم 30 برموده عن مارمرقس "ومضى إلى بطرس بروما وصار له تلميذًا وهناك كتب إنجيله، أملأه عليه بطرس، وبشَّر به في روما". وهذا ما ترجمه الفنان أنجيليكو في الأيقونة التي رسم فيها مرقس جالسًا عند قدمي بطرس يكتب أقواله وهما في روما.
_____
(139) أورده يوحنا كرافيذوبولس - تعريف الأرشمندريت إفرام - إنجيل مرقص ص 8.
(140) موسوعة آباء الكنيسة جـ 1 - المحرر المسئول: عادل فرج ص 31.
(141) ترجمة د. جرجس كامل - مارمرقس الرسول في الذاكرة الأفريقية ص 141.
(142) المرجع السابق ص 144، 145.
(143) الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 35، 36.
(144) المدخل إلى العهد الجديد ص 87.
(145) الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 109.
(146) ناظر الإله الإنجيلي مرقس الرسول القديس والشهيد ص 122.
(147) ناظر الإله الإنجيلي مرقس الرسول القديس والشهيد ص 127.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/480.html
تقصير الرابط:
tak.la/g2q4m9q