س474: هل مرقس الرسول لم يرى السيد المسيح ولم يسمعه، وإنما آمن بعد القيامة على يد بطرس الرسول الذي عمَّده؟
هكذا قال الأخوة الكاثوليك معتمدين على قول بابياس الذي أورده يوسابيوس القيصري بأن مرقس لم يرى ولم يسمع يسوع المسيح في حياته، وأن بطرس قد دعاه ابنه لأنه هو الذي سلَّمه الإيمان وعمَّده (راجع مروج الأخبار في تراجم الأبرار (25 نيسان) ص 233، وكنز العباد الثمين في أخبار القديسين (25 نيسان) ص 551).
ج: 1- بينما كانت أسرة أرسطوبولس والد مرقس تعيش في "قيرين" في القرن الأول الميلادي تعرضت لهجمات شرسة من قبائل البربر، وكانت الأسرة قد أعتادت السفر إلى فلسطين للاحتفال بالأعياد، فقرَّرت الهجرة من قيرين والعودة إلى موطن الأجداد في أورشليم، والأرجح أن عمر مرقس حينذاك كان يتراوح بين (15 - 18) سنة، فسافرت أسرة أرسطوبولس إلى أورشليم وفيها أشترت بيتًا كبيرًا تعلوه علية متسعة، كما أشترت خارج المدينة بستان زيتون وهو بستان جثسيماني، وعندما بدأ السيد المسيح خدمته كانت مريم أم مرقس إحدى المريمات اللآتي كن يخدمنه، وفتحت بيتها له، ففي هذا البيت:
(1) اجتمع السيد المسيح مع تلاميذه في ليلة آلامه، أكل معهم الفصح وغسل أرجلهم وقدم سر الإفخارستيا وسرى حديثه مع تلاميذه وصلى الصلاة الوداعية.
(2) لجأ التلاميذ للعلية عند القبض على يسوع وصلبه، وغلّقوا الأبواب.
(3) ترددت النسوة بين البيت والقبر حاملات بشرى القيامة، ومنه خرج بطرس ويوحنا للقبر وإليه عادا ثانية، وفي مساء يوم القيامة ظهر لهم السيد المسيح القائم من الأموات ولم يكن معهما توما، وبعد قليل أقبل عليهم تلميذي عمواس وقصوا ما كان، وفي الأحد التالي ظهر المسيح القائم لتلاميذه في نفس العلية ومعهم توما، ودار حديثه معهم وأكل قدامهم.
(4) صار البيت مقرًّا لاجتماع التلاميذ والمؤمنين، وبعد الصعود ظلوا في هذا البيت يصلون بنفس واحدة " وَلَمَّا دَخَلُوا صَعِدُوا إِلَى الْعِلِّيَّةِ الَّتِي كَانُوا يُقِيمُونَ فِيهَا... هؤُلاَءِ كُلُّهُمْ كَانُوا يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلاَةِ" (أع 1: 13، 14) وفي هذا البيت حلَّ الروح القدس على التلاميذ الأطهار والعذراء مريم وجمع من المؤمنين، ومنه انطلقت شرارة الكرازة.
(5) ظل بيت مارمرقس مكانًا للرسل الأطهار، فعندما أخرج الملاك بطرس الرسول من السجن: " جَاءَ وَهُوَ مُنْتَبِهٌ إِلَى بَيْتِ مَرْيَمَ أُمِّ يُوحَنَّا الْمُلَقَّبِ مَرْقُسَ حَيْثُ كَانَ كَثِيرُونَ مُجْتَمِعِينَ وَهُمْ يُصَلُّونَ" (أع 12: 12).
(6) صار بيت مارمرقس مركز الحياة المسيحية في أورشليم وأول كنيسة تُقام في العالم كله وصار مقرًّا لكرسي أورشليم في عهد يعقوب الرسول أول أسقف على أورشليم، وهو ما زال قائمًا للآن، ويُعرف بدير القديس مرقس ويتبع طائفة السريان الأرثوذكس ويقيم فيه الأسقف السرياني، وبه كنيسة بيزنطية، ومما يُذكر أن أجزاء من الكنيسة تدمرت في أيام الخليفة الفاطمي "أبو علي منصور طارق الحكيم" سنة 1009م، كما أن الدير هُجر أثناء الحكم العثماني، وجدَّده السريان سنة 1852م، وأجروا عليه توسعات سنة 1880م. وفي عام 1940م عُثِر على حجر أثري نُقِش عليه: "بيت مارمرقس في أورشليم الذي دُعي مرقس، كرَّسه الرسل كنيسة على اسم العذراء، وبني سنة 73م بعد تخريب تيطس (الروماني) لأورشليم" (المطران غريغوريوس بهنام السريان - بيت مارمرقس في أورشليم ط 1962م) (67).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
ومن العجيب أن يكون بيت مارمرقس بمثل هذه الأهمية ويشكّك "بابياس" في رؤية مرقس الرسول للسيد المسيح، فقال يوسابيوس القيصري على لسان بابياس "هذا ما يقوله (القس) أيضًا: أن مرقس إذ كان هو اللسان الناطق لبطرس كتب بدقة، ولو من غير ترتيب، كل ما تذكَّره عما قاله المسيح أو فعله، لأنه لا سمع الرب ولا أتبعه". ( 3: 39: 5 )" (68). ويقصد "بالشيخ" يوحنا الإنجيلي، وأحد الأشخاص الموثوق فيهم في القرن الأول الميلادي. والأمر العجيب أيضًا أن ينساق البعض وراء بابياس فيقول "الخوري يوسف الياس الدبس": "أن مرقس آمن بعد موت المسيح على يد بطرس الرسول زعيم الرسل، ولهذا دعاه ابنه (لا أخاه)" (69).
وتعليقًا على قول بابياس بأن القديس مرقس لم يكن شاهد عيان يقول "ستيفين ويفيز": "وما زال النقاش يدور حول ما قدمه بابياس وما إذا كان دليلًا يُعول عليه حول عمليات كتابة الإنجيل الثاني وطريقة ترتيبه. والحقيقة أن أحد الباحثين قد اقترح تفسيرًا مفاده: أن اهتمام بابياس الأساسي كان منصبًا على الدفاع عن مصداقية رواية مرقس للأحداث، وذلك بربط دوره كمفسر مقرَّب جدًا إلى بطرس، ومن ثم إعطاءه مصدر رسولي" (70).
2- لقد شاهد القديس مرقس يسوع مرارًا وتكرارًا، وبلا شك أن السيد المسيح كان يعرفه جيدًا، ولا بد أنه دبَّر له فُرص الاقتراب منه ومتابعة أحاديثه ومشاهدة معجزاته لأنه سيكون أول من يسجل "إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ الله" (مر 1: 1) وقد اختار الرب يسوع مرقس ليكون من الرسل السبعين، وأرسله معهم للكرازة باسمه (لو 10: 1 - 12). وبالطبع أن مرقس لُقّب بالرسول لأنه أُرسل من الرب يسوع، وذكر هذه الحقيقة العلامة أوريجانوس الذي قال أن مرقس كان من تلاميذ الرب السبعين الذين شرَّفهم بالرسالة، وأيضًا القديس أبيفانيوس أسقف قبرص في كتابه ضد الهرطقات (Epiphanius Hearsies XX 4. lib 6,51.C.5, P528). وفي القرن العاشر أكد هذه الحقيقة "الأنبا ساويرس أسقف الأشمونين" وفي سنة 1149م قال "مارديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي" أسقف أمد: أن مرقس دُعيَ للتلمذة برفقة السبعين رسولًا وسُمي الثيوفورس أي حامل الإله (د. ميخائيل مكسي إسكندر - تاريخ كنيسة بنتابوليس المدن الخمس الغربية ص 107، والقمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 6). وجاء اسم القديس مرقس ضمن قائمة الرسل السبعين التي ذكرها "ابن كبر" سواء القائمة المستمدة من الأصل القبطي أو الأصل اليوناني. وقال "المقريزي": "ومن هؤلاء السبعين مرقس الإنجيلي، وكان اسمه أولًا يوحنا، وعرف ثلاثة ألسُن: الفرنجي (اللاتيني) والعبراني (الأرامي) واليوناني" (71). وقال "أبو الفرج عبد الله ابن الطيب العرافي" المعروف بالمشرقي عن القديس مرقس: "ثم أستوطن في أورشليم وشاهد أعمال المسيح ودُعيَ للتلمذة برفقة السبعين تلميذًا" (72). وكذلك المؤرخ "شينو" الكاثوليكي في كتابه "قديسو مصر" ذكر أن مرقس دُعي بالرسول. وأيضًا أكد القول الأسقف إيسيذورس (راجع الخريدة النفيسة جـ 1 ص 58، 59).
ويقول "الأنبا غريغوريوس" أسقف الدراسات العليا اللاهوتية والبحث العلمي: "وكان القديس مرقس في أورشليم وقت ظهور السيد المسيح، فكان من أوائل من آمنوا به وقبلوا دعوته، فاصطفاه من جملة السبعين رسولًا، وكان يتردد كثيرًا على بيته" (73). ويقول "إبراهيم صبري معوض": "وكان مرقس الرسول من هؤلاء السبعين تلميذًا الذي أنتخبهم السيد المسيح"
(History of the Patriarchs of the Coptic Church of Alexandria. Saint Mark B. Evettes 41) (74).
ولذلك قال العالِم "فرر" A. Farrer: "أن التقليد المنحدر لنا من بابياس ينبغي بكل بساطة التخلي عنه لأنه يعتبر تأليفًا مزيَّفًا" (75). وجاء في "دائرة المعارف الفرنسية" التي نشرها بعض الأخوة الكاثوليك: "أما دعوى تتلمذ مرقس لبطرس لم يكن سوى خرافة بُنيت على سقطات بعض الكتَّاب" (مجلد 16 ص 871 - عن كتاب الصخرة الأرثوذكسية ص 107) (76).
وجاء في كتاب "الثيؤطوكيات" للأخوة الكاثوليك كبعة روما من ص 175 - 177:
"مرقس أيها الرسول الإنجيلي بل تباركت جميع قبائل الأرض.
بلغ كلامك إلى أقاصي المسكونة...
قد نلت ثلاثة أكاليل يا حبيب المسيح.
إكليل الرسولية، وإكليل الشهادة، وإكليل الإنجيلي...
رفقاؤك الرسل يفتخرون بك ونحن نفتخر بك وبهم" (77).
وفي "ذكصولوجية مارمرقس" في كنيستنا القبطية:
"يا مارمرقس الرسول والإنجيلي والشاهد لآلام الإله الوحيد.
أتيتَ وأنرتَ لنا بإنجيلك. وعلَّمتنا الآب والابن والروح القدس.
وأخرجتنا من الظلمة إلى النور الحقيقي. وأطعمتنا خبز الحياة الذي نزل من السماء.
تباركت بك كل قبائل الأرض. وأقوالك بلغت إلى أقطار المسكونة.
السلام لك أيها الشهيد. السلام للإنجيلي. السلام للرسول مرقس ناظر الإله"
وفي دورة الشعانين والصليب في كنيستنا القبطية يُقرأ أمام أيقونة مرقس الرسول فصل من (لو 10: 1 - 12) الخاص بالسبعين رسولًا.
3- لقد كان مارمرقس هو الشاب حامل جرة الماء الذي قاد بطرس ويوحنا إلى العلية لإعداد الفصح (مر 14: 13 - 15، لو 22: 8)، وهو الشاب الذي كان مع المسيح لحظة القبض عليه وترك أزاره وهرب عريانًا (مر 14: 51، 52).
ويقول "الأنبا غريغوريوس" أسقف البحث العلمي: "وقد كان يتبعه شاب من المؤمنين به، يلفُّ جسده العاري بأزار، إذ يبدو أنه كان نائمًا في مكان قريب فلما سمع بالضجة تلفَّح في عَجلة بالأزار الذي كانوا يلتفُّون به وقت النوم. وخرج ليرى ما يحدث فأمسكه الشبان التابعون لرؤساء الكهنة، فترك الأزار وهرب عريانًا، والراجح أن هذا الشاب هو القديس مرقس نفسه كاتب البشارة" (78). ويقول "الأرشمندريت يوسف دره الحداد": " ويرى كثيرون في "الشاب" الذي يذكره مرقس وحده، حين القبض على يسوع أنه مرقس نفسه (مر 14: 51 - 52). لم يكن وجوده في العشاء وفي الأحاديث السامية التي دارت بعد العشاء، وفي بستان الزيتون، تطفلًا من شاب، بل سماعًا من متتلمذ أيضًا، لذلك يذكر أبيفان (أبيفانيوس أسقف قبرص) أنه كان تلميذًا للمسيح" (الشامل في الهرطقات في مجموعة الآباء اليونان ك 41 ص 28) (79). ويقول "الدكتور القس منيس عبد النور": " لم يكن مرقس أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر، لكن لا بد أنه كان يحضر الصلوات والعبادة مع سائر المؤمنين في بيته، وقد رأى المسيح وتبعه ليلة القبض عليه، فالأغلب أنه هو الشاب الذي ترك رداءه وهرب عريانًا في تلك الليلة" (80).
4- هناك شاهد لا يجب أن نغفله، وهو أن الإنجيل الذي كتبه القديس مرقس مفعم بالحيوية، وتسجيل دقائق الأمور، مما يؤكد أن الكاتب كان شاهد عيان لمعجزات السيد المسيح ومستمع جيد لتعاليمه. ويقول أسقف مدينة كليفتون الإنجيلي سنة 1901م عن إنجيل مرقس: "أنه بداخل إنجيل مرقس ما يؤيد أنه كتبه كشاهد عيان لأعمال المسيح".
(The Bishope of Clifton, the Early History of the Church of God (1901), PP. 44 - 45) (81).
ويقول "رينان": "إن مرقس لم يكن صغيرًا، بل يتضح من إنجيله أنه كان عالمًا بأمور دقيقة من حياة يسوع، كما أنه كان يعرف أيضًا أهل سيرين، مثل سمعان القيريني والد الإسكندر وروفس، كما عرف النسوة اللاواتي تبعن يسوع، وكذلك عرف يوسف الرامي".
(Renan - Evangiles et la Seconde Generation Chretienne (1877) P. 115) (82).
ويقول "ترنر": "أن إنجيل ق. مرقس يعتبر سرًّا فريدًا من نوعه، مسجَّل لنا بلا مواربة مَمنْ هو صاحب خبرة عينية كشاهد ورفيق مخلص للمسيح على مدى خدمته بطولها".
(C.H. Turner (1924) Cited by Kealy, op. cit. P. 128) (83).
كما يقول "ترنر": "أنه بدراسة الإنجيل تنكشف تفاصيل تؤكد أن الإنجيل تسجيل هادف لمختبر يكتب عن مشاهدة عينية، كرفيق لصيق جدًا للمسيح على مدى كل خدمته" (C.H Turner the Caspel According to St. Mark. London 1928 P. 45, 48) (84). ويقول "جرهام سويفت" تعليقًا على (مر 3: 5): "لا يُنسب الغضب ليسوع في أي مكان آخر خلاف هذا المكان... ويعني مرقس بتسجيل عواطف المسيح الإنسانية، وهذه بلا شك شهادة شاهد عيان كما يلاحظ ملامحه. على أن ذلك لم يكن حقدًا شخصيًا أو ضغينة بل كان غضبًا مصحوبًا بحزن على "غلاظة قلوبهم" (أي عمى قلوبهم)" (85). ولنا عودة بنعمة المسيح لدراسة هذا الأمر بتوسع عند حديثنا على سمات إنجيل مرقس.
إذًا بكل تأكيد أن القديس مرقس الرسول قد رأى السيد المسيح وكان قريبًا منه، إذ كان أحد الرسل السبعين، وكان قريبًا من بطرس الرسول بحكم قرابته، وأيضًا قريبًا من بقية الرسل الذين أتخذوا بيت مرقس الرسول مقرًّا لهم.
_____
(67) أورده د. ميخائيل مكسي إسكندر - تاريخ كنيسة بنتابوليس ص 108.
(68) ترجمة القمص مرقس داود - تاريخ الكنيسة ص 158.
(69) تحفة الجيل في تفسير الإنجيل - بيروت 1877م ص 373.
(70) ترجمة د. مجدي جرجس - بابوات مصر (1) البابوية القبطية المبكرة ص 33، 34.
(71) القول الأبريزي ط 1 سنة 1898م ص 18.
(72) تفسير المشرقي للأربعة أناجيل ص 511.
(73) تفسير إنجيل متى ومرقس ص 217.
(74) تاريخ حياة القديس الشهيد مارمرقس الإنجيلي ص 168.
(75) أورده الأب متى المسكين - الأنجيل بحسب القديس مرقس ص 20.
(76) أورده البابا شنوده الثالث - ناظر الإله الإنجيلي مرقس الرسول القديس والشهيد ص 24.
(77) المرجع السابق ص 17.
(78) ترجمة الإنجيل للقديس متى ص 201.
(79) الدفاع عن المسيحية جـ 1 - في الإنجيل بحسب مرقس ص 34.
(80) من هو المسيح؟ دراسة في إنجيل مرقس ص 5.
(81) أورده د. ميخائيل مكسي إسكندر - تاريخ كنيسة بنتابوليس ص 106.
(82) المرجع السابق ص 106.
(83) أورده الأب متى المسكين - الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 17، 18.
(84) أورده الأب متى المسكين - الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 55.
(85) تفسير الكتاب المقدَّس - تأليف جماعة من اللاهوتيين برئاسة الدكتور فرنسيس وأندسون ص 106.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/474.html
تقصير الرابط:
tak.la/gq3t7y3