س398: لماذا عظم الفريسيون الذهب والقربان عن الهيكل والمذبح (مت 23: 16 - 21)؟ ولماذا اعترض السيد المسيح على تعشير النعنع والشبث والكمُّون (مت 23: 23)؟ ولماذا اعترض على نظافة الكأس والصحفة من الخارج (مت 23: 25)؟ وكيف يهين السيد المسيح الفريسي حتى أنه يصفه بالأعمى (مت 23: 26)؟
ج: 1- لماذا عظم الفريسيون الذهب والقربان عن الهيكل والمذبح..؟ كان الفريسيون يتحايلون على التخلص من الأقسام، وعدم الوفاء بها، ولذلك علَّموا الشعب أنه إذا حلف إنسان بهيكل الله أو مذبح الله، وهذا أمر وارد جدًا، فلا يلتزم بحلفه، ولكن إن حلف بالذهب الذي يطلي جدران الهيكل أو يحتفظون به في خزينة الهيكل، أو حلف بالقربان، وهذا أمر نادر ما يحدث، فإن الإنسان يلتزم بحلفه. وسرّ تعظيم الفريسيون للذهب والقربان هو الفائدة التي تعود عليهم، ويقول "متى هنري": "كان واجبًا أن لا يحلفوا بالهيكل أو المذبح، ولكنهم إذ حلفوا فقد أُخذوا بكلمات أفواههم. أن التعليم الذي يبيح كسر الإيمان بأي حال من الأحوال لا يمكن أن يكون تعليمًا من إله الحق. أن الأقسام آلات حادة قاطعة ولا يليق أن تستخدم للمزاح أو المداعبة... وفضلوا الذهب عن الهيكل والقربان عن المذبح، وذلك لتشجيع الشعب على تقديم القربان إلى المذبح، والذهب لخزانة الهيكل، وفي ذلك منفعة شخصية لهم... وإذ كانت التقوى تجارتهم فقد اخترعوا ألف اختراع لتكون الديانة مصدر أرزاق لهم، إن القادة الأشرار... يشدّدون على ما يؤدي إلى منافعهم الشخصية أكثر من تشديدهم على ما يؤدي إلى مجد الله وخير النفوس"(22).
ولو أن الفريسيين فكروا في الموضوع بحيادية لأدركوا أن الهيكل أهم من الذهب، لأن الهيكل هو مسكن الله: "وَمَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِالسَّاكِنِ فِيهِ" (مت 23: 21)، فالهيكل هو هيكل الله سواء زُيَّن بالذهب أو لم يُزيَّن به، والذهب يأخذ قيمته من الهيكل، فالذهب دون أن يُقدم للهيكل ما هو إلاَّ مادة فانية مهما بلغت قيمتها، أما إذا التصق الذهب بالهيكل فأنه يصبح ضمن المقدسات، والحقيقة أن المشكلة تكمن في عدم إحساس الفريسيين بسكنى الله في هيكله، مُتغافلين قول سليمان الملك: "إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ بَيْتَ سُكْنَى، مَكَانًا لِسُكْنَاكَ إِلَى الأَبَدِ" (1 مل 8: 13). لقد سكنت في قلوبهم محبة الفضة والذهب فغابت مخافة الله عن أعينهم.
ويقول "وليم مكدونلد": "فلم يتخذ ذهب الهيكل قيمته الخاصة إلاَّ لأنه ارتبط ببيت الرب، فالمذبح هو الذي أعطى قيمة للتقدمة التي عليه. وأمَّا ما يظن بأن للذهب قيمة بحد ذاته فهو أعمى لا يُدرك أن الذهب يكتسب قيمته عندما يُستخدم لمجد الله فقط. فالتقدمات الموهوبة بدوافع جسدية هيَ بلا قيمة في ذاتها، أما كل ما يعطى للرب أو يُقدَّم بِاسمه فله قيمة أبدية" (23).
وإن تساءل أحد: هل هذا الوضع ما زال قائمًا للآن..؟ نقول له في العهد الجديد المذبح أجلَّ من القربان قبل تقديس القربان، ولكن بعد تقديسه وتحوُّله إلى جسد الرب ودمه يصبح القربان أجلَّ من المذبح. فالخبز والخمر على المذبح قبل التقديس مجرد مادتان بسيطتان، ولكن بعد التقديس يكتسبان قوة عظيمة، قوة جسد ودم المسيح، فيُطهِران الخطايا ويغفران الآثام ويهبا الحياة والشفاء لمن يتناول منهما بإيمان. ويقول "مارديوناسيوس يعقوب ابن الصليبي": "إن قول السيد المسيح السابق لا ينطبق على ذبيحة العهد الجديد: "إنه لم يقصد ذلك، لأن القربان أجلَّ إذا كمل تقديسه، وأما قبل ذلك فالمذبح أجلَّ منه، والسرّ في ذلك أنه ينتقل ويصير جسد الرب ودمه، وهما أجلَّ من المذبح"(24).
2- لماذا اعترض السيد المسيح على تعشير النعنع والشبث والكمُّون..؟ أوصت الشريعة بتعشير الحنطة والخمر والزيت (تث 14: 22 - 23) كما أوصت بتعشير حبوب الأرض وأثمار الشجر (لا 27: 30) وتغاضت عن النباتات البسيطة مثل النعنع والشبث والكمُّون والتي كانت تُزرع غالبًا في حدائق المنازل، وذلك لضآلتها وقلة قيمتها، وهذه النباتات ذات روائح طيبة وتستخدم في تتبيل الأطعمة كما تُستخدم كأدوية. أمَّا الفريسيون فكانوا يدقّقون في وصية العشور، حتى لو اشترى أحدهم حزمة أو أكثر من هذه النباتات يعد الأعواد ويُخرِج العشر، ولا أدري ماذا يفعل بهذا العشر الضئيل؟! هل يذهب به إلى الهيكل؟!!، فكل ما يفكر فيه أنه عندما يقف ليُصلي يُريد أن يقول: "وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ" (لو 18: 12). وعندما قال السيد المسيح: "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ، وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ" (مت 23: 23) لم يعترض على تعشير هذه النباتات الصغيرة التي تُشير إلى صغائر الأمور، إنما اعتراضه كان على ترك الأمور الهامة الكبيرة الخاصة بوصايا الحق من إقامة العدل، والرحمة مع الآخرين، التي هيَ أفضل من تقديم الذبائح والإيمان باللَّه، الإيمان العامل بالمحبة، وقال لهم في نفس الآية: "كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ"، أما هم فتجاهلوا قول الكتاب: "قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ، وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ، إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ، وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعًا مَعَ إِلهِكَ" (مي 6: 8)، ولذلك قال عنهم السيد المسيح: "الَّذِينَ يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ" (مت 23: 24) إذ كانوا يحرصون على تصفية السوائل مثل الماء والخمر لئلا يكون قد سقط فيها بعوضة، بينما بتجاوزاتهم يأكلون بيوت الأرامل، فهم يشبهون من يبتلع الجمل، والجمل بالإضافة إلى ضخامته فإنه حيوان نجس في العهد القديم لأنه لا يشق ظلفًا (لا 11: 4)، وإذا كان يستحيل على أي إنسان أن يبتلع جملًا، فيتضح المعنى المجازي الذي قصده السيد المسيح للتعبير عن عظم تجاوزاتهم، أنهم يشابهون إخوتهم الذين رفضوا أخذ فضة يهوذا قائلين أنها ثمن دم، فلم يستحلُّوا دخولها إلى خزانة الهيكل، بينما هم يشاركون في صلب ابن الله.
3- لماذا اعترض السيد المسيح على نظافة الكأس والصحفة من الخارج؟... لم يعترض السيد المسيح على نظافة الكأس والصحفة من الخارج، ولكنه اعترض على إهمال الداخل حتى سار مملوء اختطافًا وكل دعارة -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- كان عليهم أن ينظفوا الكأس والصحفة داخلًا وخارجًا، والداخل أهم كثيرًا لأنه هو الذي يتلامس مع الماء أو الطعام، وإن كان الخارج يعبِّر عن المظهر الجسدي الذي يبدو به الإنسان، فإن الداخل يعبِّر عن الروح، فنقاوة الجسد وطهارته بالاغتسالات الكثيرة شيء، وحفظ الإنسان نفسه نقيًا طاهرًا شيء آخر، ولربما كان الخارج جذابًا لامعًا يخفي وراءه ظلمة الموت، فماذا ينتفع الإنسان بالخارج؟!!.. ولك يا صديقي أن تلاحظ قول السيد المسيح: "نَقِّ أَوَّلًا دَاخِلَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ لِكَيْ يَكُونَ خَارِجُهُمَا أَيْضًا نَقِيًّا" (مت 23: 26)، فقوله: "أولًا" إذًا هناك ثانيًا، وهو نظافتهما من الخارج، ولكن يظل الداخل أولًا، فعندما ينقي الإنسان داخله فمن الطبيعي أن يتنقى خارجه، فكل مَعون ينضح بما فيه، فنقاوة القلب والفكر تظهر في مظهر الإنسان الخارجي وحركاته وسكناته وسلوكياته، لذلك قال الكتاب: "فَوْقَ كُلِّ تَحَفُّظٍ احْفَظْ قَلْبَكَ، لأَنَّ مِنْهُ مَخَارِجَ الْحَيَاةِ" (أم 4: 23). وقال "العلامة أوريجانوس": "فمن حسب أن إحسانه، وصومه وصلاته، وترنيمه عظيمة بحد ذاتها، وطوَّبها، من دون أن يكترث بأنها نابعة من القلب، يكون إنسانًا أعمى"(25).
وقال "القديس يوحنا الذهبي الفم": "لم يقل المسيح نظف خارج الكأس، لكنه قال: "نَقِّ أَوَّلًا دَاخِلَ الْكَأْسِ" ولم يقل هذا من أجل كأس وصحفة، لكنه يجري المفاوضة من باب النفس والجسد، فسمى النفس داخلًا والجسد خارجًا. إذًا فإن الحاجة إلى ما هو داخل الكأس، أما الكتبة والفريسيون فأنهم يفعلون ضد ذلك، فيتحفظون (من) الصغار (الصغائر) التي هيَ من خارج، ويتغافلون من الكبار (الكبائر) التي هيَ من داخل فينتج من ذلك مضرة في غاية الجسامة"(26).
4- كيف يهين السيد المسيح الفريسي حتى أنه يصفه بالأعمى..؟ كان هناك عدة أنواع من الفريسيين، ذكرنا منهم خمسة أنواع في مدارس النقد - عهد جديد - مقدمة (1) س15، وهنا نذكر باختصار شديد الأنواع السبعة للفريسيين:
(1) فريسي الكتف: وهو الفريسي الذي يدقّق حاملًا أعماله الصالحة على كتفه متباهيًا بها أمام الناس، فهو يلتزم بالصلاح من أجل الحصول على مديح الآخرين.
(2) فريسي الانتظار: وهو الفريسي الذي يؤمن بالناموس وتقليدات الشيوخ، ولكنه يختلق الأعذار حتى لا يعمل بها في الوقت الحالي، فهو تعوَّد على تأجيل الأعمال الصالحة.
(3) الفريسي المرضوض أو الأعمى: ويُدعى أيضًا الفريسي الدامي، فهو يسير في الشوارع يكاد يغمض عينيه حتى لا يبصر امرأة، فكثيرًا ما كان يصطدم بالأشجار أو الجدران أو العوائق فيترضض ويدمي جسده، ويتفاخر بهذه الإصابات.
(4) الفريسي المسنَّم أو المنحني: فكان يسير منحنيًا كنوع من التواضع لا يرفع عينيه، فهو في الحقيقة إنسان متكبر يرتدي ثياب التواضع.
(5) الفريسي كثير الحساب: وهو الفريسي الذي يُحصي أعماله الصالحة، وكأنه يداين الله بأعماله الصالحة هذه.
(6) الفريسي المزعور: وهو الفريسي المرتعب من العقوبة الإلهية، يبذل كل جهده لينقي خارج الكأس والصحفة ليظهر للناس كإنسان تقي.
(7) الفريسي خائف الله: وهو الفريسي الذي احتفظ بعلاقة متزنة مع الله، فهو يحب الله ومن أجل محبته هذه يفعل الصلاح. (راجع وليم باركلي - تفسير العهد الجديد - المجلد الأول).
فالسيد المسيح عندما قال: "أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّ الأَعْمَى" لم يقصد أن يهين الفريسي إنما يصف الحالة التي آل إليها، فالفريسيون هم قادة الشعب، وما أصعب أن يكون القائد أعمى، وقد انطبق عليهم قول الرب: "مُرَاقِبُوهُ عُمْيٌ كُلُّهُمْ. لاَ يَعْرِفُونَ" (إش 56: 10) ووصفهم السيد المسيح في نفس الأصحاح مرتين بأنهم قادة عميان (مت 23: 16 - 24). ويقول "متى هنري": "إن الذين لا يقامون الشر الكامن في قلوبهم، الذين لا يرون ولا يبغضون الخطية السرية الكائنة في داخلهم، هم عميان في نظر المسيح مهما كانوا حادي النظر في الأمور الأخرى. إن جهل النفس هو أقبح وأخطر جهل (رؤ 3: 17)" (27). كما أن هؤلاء الفريسيون كانوا عميان لأن المسيح عاش وسطهم وهم لم يعرفونه، فقال "القديس أمبروسيوس": "لم يبصره اليهود مع أنهم رأوه" (28)، بينما رجال الله القديسون رغم أنهم لم يبصروا المسيح بالجسد ولكنه رأوه بالروح: "أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ" (يو 8: 56).
_____
(22) تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ2 ص292.
(23) تفسير الكتاب المقدَّس للمؤمن - العهد الجديد جـ1 ص147.
(24) ورده القس يوسف البراموسي - تساؤلات حول إنجيل متى ص89.
(25) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - 1 - ب - الإنجيل كما دونه متى 14 - 28 ص261، 262.
(26) أورده القس أغسطينوس البرموسي - شرح إنجيل متى ص229.
(27) تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 2 ص296.
(28) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص487.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/398.html
تقصير الرابط:
tak.la/vf4t6aa