س376: جاء في إنجيل متى: "وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذَا الْكَلاَمَ انْتَقَلَ مِنَ الْجَلِيلِ" (مت 19: 1) فما المقصود بهذا الكلام؟ وما هيَ علاقة تجربة الفريسيين للمسيح بسؤالهم الساذج: "هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ" (لو 19: 3)؟ وكيف يبيح اللَّه الطلاق في العهد القديم (تث 24: 1) ويعود ويحرّمه في العهد الجديد (مت 19: 19)؟ وهل منع السيد المسيح الطلاق على الإطلاق: "كُلُّ مَنْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَيَتَزَوَّجُ بِأُخْرَى يَزْنِي وَكُلُّ مَنْ يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ مِنْ رَجُل يَزْنِي" (لو 16: 18) أم أنه سمح به عندما يسقط أحد الطرفين في الزنا: "مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ بِسَبَب الزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي" (مت 19: 9)؟ وما هو مصير الطرف البريء، هل يحل له الزواج ثانية؟ (راجع علاء أبو بكر - البهريز جـ 4 س342 ص380).
ج: 1ــ أورد القديس متى خمس عظات رئيسية للسيد المسيح:
1) العظة على الجبل (مت 5 - 7)، وانتهت بقول القديس متى: "فَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذِهِ الأَقْوَالَ" (مت 7: 28).
2) العظة للتلاميذ (مت 10)، وانتهت بقوله: "وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ أَمْرَهُ لِتَلاَمِيذِهِ" (مت 11: 1).
3) عظة أمثال الملكوت (مت 13) وانتهت بقوله: "وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذِهِ الأَمْثَالَ" (مت 13: 53).
4) عظة الكنيسة عن ملكوت السموات (مت 18) وانتهت بقوله: "وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذَا الْكَلاَمَ" (مت 19: 1).
5) عظة المجيء الثاني (مت 24، 25) وانتهت بقوله: "وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذِهِ الأَقْوَالَ كُلَّهَا" (مت 26: 1). (راجع مدارس النقد - عهد جديد جـ 3 س151).
وقول القديس متى " وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذَا الْكَلاَمَ انْتَقَلَ مِنَ الْجَلِيلِ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ الْيَهُودِيَّةِ مِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ" (مت 19: 1) المقصود بهذا الكلام عظته في الأصحاح السابق، وذكر القديس متى خبر تركه للجليل موطنه ومحل خدمته لأنه لم يرجع إليه ثانية حتى صلبه وقيامته، ثم ظهر بعد قيامته في الجليل لتلاميذه على بحيرة طبرية.
2ــ قال القديس متى: "وَجَاءَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ قَائِلِينَ لَهُ هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ" (مت 19: 3)، وهذا لم يكن سؤالًا ساذجًا، لأنه يهدف وراءه هدفًا خبيثًا، وهو محاولة الفريسيين الوقيعة بين السيد المسيح من جانب، وبين الملك هيرودس والشعب اليهودي من جانب آخر، فقد طلق هيرودس زوجته ابنة الحارث الغساني بلا سبب، وتزوج بهيروديا زوجة أخيه فيلبس وهو على قيد الحياة، فعندما يجرّم السيد المسيح الطلاق فإن هيرودس سيشعر أنه يقصده، وقد سبق وأدانه يوحنا المعمدان، فدفع حياته ثمنًا لهذا، وأيضًا تحريم الطلاق أمر لا يطيقه اليهود، فلا بد أنهم سيرفضونه ولا يقبلون كرازته.
ويقول "متى هنري": "هذا السؤال وجهوه إليه " لِيُجَرِّبُوهُ " لا ليسترشدوا ويتعلموا، لقد سبق أن أعلن رأيه في هذا الموضوع في الجليل بصدَّد التحدث عن العُرف المألوف (مت 5: 31، 32) فإن تكلم بنفس الروح ضد الطلاق اتخذوا من ذلك فرصة ليهيجوا ضده شعب تلك البلاد الذين كانوا لا بد أن يحنقوا على شخص حرمهم من حرية يحبونها. لقد كانوا يمنون أنفسهم بكراهية الشعب له بسبب تعليمه عن هذا الأمر كما عن أي أمر آخر.
أو بمعنى آخر لعلهم دبروا التجربة على الوجه الآتي: إن قال أن الطلاق غير مُباح أتهموه بالعداء لناموس موسى الذي أباحه، وإن قال أنه مُباح اعتبروا تعاليمه غير متفقة مع الكمال الذي توقعوه في تعاليم المسيا، لأن الطلاق إن كان مُباحًا إلاَّ أنه لم يكن ينظر إليه من الأشخاص المدقَّقين كأمر ممدوح" (1036).
3ــ عن وضع الزواج والطلاق بين العهدين القديم والجديد يجب أن لا ننسى أن اللَّه قد تدرج بالبشرية من عصر الآباء حيث لم تكن هناك شريعة مكتوبة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فكان الرجل يتزوج كما يشأ ويُطلّق كما يشأ، إلى عصر الشريعة حيث ألزمت الشريعة الرجل الذي يريد أن يُطلّق زوجته أن يكتب لها كتاب طلاق على أيدي شيوخ المدينة، وهنا نجد عدة معاني، فشيوخ المدينة سيحاولون تبصير الزوج بعواقب الطلاق الوخيمة ولا سيما على الأطفال، وأنه متى طلق امرأته من المستحيل أن تعود إليه ثانية: "إِذَا أَخَذَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَتَزَوَّجَ بِهَا فَإِنْ لَمْ تَجِدْ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْهِ لأَنَّهُ وَجَدَ فِيهَا عَيْبَ شَيْءٍ وَكَتَبَ لَهَا كِتَابَ طَلاَق وَدَفَعَهُ إِلَى يَدِهَا وَأَطْلَقَهَا مِنْ بَيْتِهِ. وَمَتَى خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهِ ذَهَبَتْ وَصَارَتْ لِرَجُل آخَرَ. فَإِنْ أَبْغَضَهَا الرَّجُلُ الأَخِيرُ وَكَتَبَ لَهَا كِتَابَ طَلاَق وَدَفَعَهُ إِلَى يَدِهَا وَأَطْلَقَهَا مِنْ بَيْتِهِ أَوْ إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ الأَخِيرُ الَّذِي اتَّخَذَهَا لَهُ زَوْجَةً. لاَ يَقْدِرُ زَوْجُهَا الأَوَّلُ الَّذِي طَلَّقَهَا أَنْ يَعُودَ يَأْخُذُهَا لِتَصِيرَ لَهُ زَوْجَةً بَعْدَ أَنْ تَنَجَّسَتْ. لأَنَّ ذلِكَ رِجْسٌ لَدَى الرَّبِّ. فَلاَ تَجْلِبْ خَطِيَّةً عَلَـى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا" (تث 24: 1 - 4). واختلف اليهود في تفسير هذا العيب الذي يوجب الطلاق، فحصرت "مدرسة شمعي" المدقّقة هذا العيب في سبب واحد وهو الزنا (وربما قصدوا الزنا غير المُثبَت، لأن الزنا المُثبت عقوبته الرجم وليس الطلاق)، فقالوا مهما كانت الزوجة شريرة، حتى لو كانت في شر إيزابل، فما دامت لم تزني فلا يحل الطلاق. بينما توسعت "مدرسة هليل" في أسباب الطلاق، فلو أن الزوجة أفسدت الطعام، أو سارت بشعر غير مضفور، أو تحدثت مع الرجال في الطريق، أو ارتفع صوتها فسمعه الجيران، أو تكلمت بدون احترام إلى حماها، فكل هذه الأسباب تحلّل الطلاق، بل أن "الرابي عقبة" قال أن العبارة "لم تجد نعمة في عينيه" يمكن تفسيرها على أنه إذا وجد امرأة أجمل من زوجته وأحبها أكثر منها فيحل الطلاق، ومثل هذه الأفكار هيَ التي انتشرت بالأكثر في المجتمع اليهودي. أما شريعة الربيين فكانت توجب الطلاق في حالتين وهما الزنا أو العقم لمدة عشر سنوات. وقد حرمت الشريعة زواج الكاهن من أي مطلقة (راجع مدارس النقد - عهد قديم جـ 6 س749).
أما في العهد الجديد فقد أقرَّ السيد المسيح شريعة الكمال، شريعة الزوجة الواحدة، والذي يبيح الطلاق علة الزنا الفعلي أو الحكمي مثلما أن يغير طرف دينه واعتقاده، فهو في حكم الزاني: "وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ بِسَبَب الزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي" (مت 19: 9) ويقول "القديس أغسطينوس": "لم تأمر الشريعة الموسوية بالطلاق بل أمرت من يطلق امرأته أن يعطيها كتاب طلاق، لأن في إعطائها كتاب طلاق ما يهدئ من ثورة غضب الإنسان... لأنه مهما بلغت قسوة قلب الراغب في طلاق زوجته، إذ يعرف أنه بواسطة كتاب الطلاق تستطيع أن تتزوج من آخر، يهدأ غضبه ولا يطلّقها. ولكيما يؤكد رب المجد هذا المبدأ، وهو عدم طلاق الزوجة بإستهتار جعل الاستثناء الوحيد هو علة الزنا. فقد أمر بضرورة احتمال جميع المتاعب الأخرى (غير الزنا) بثبات من أجل المحبة الزوجية ولأجل العفة. وقد أكد رب المجد نفس المبدأ بدعوته من يتزوج بمطلقة يزني" (1037).
ويقول "متى هنري": "إن ما يبدو من المتناقضات في كلمة اللَّه لا يسبب عثرة إلاَّ لذوي الأذهان الفاسدة. صحيح أن موسى: "كَوْنِهِ أَمِينًا لِلَّذِي أَقَامَهُ" (عب 3: 2) ولم يوصي بشيء إلاَّ بما استلمه من الرب، أما عن الطلاق نفسه فإن ما يسمونه وصية أو أمرًا لم يكن إلاَّ تصريحًا أو سماحًا (تث 24: 1) وقصد به الحد من التطرف في الطلاق أكثر مما قصد به تحبيذ الأمر نفسه... فيجب أن يحدّد سبب معين، ويكتب كتاب طلاق، ويتخذ إجراء قانوني... وكان محرَّمًا قطعيًا اجتماعهما مرة أخرى، الأمر الذي كان ينبغي أن يلزم الرجال بالروية وطول التفكير إن كان عندهم ذرة من العقل... لقد قالوا أن موسى " أوصى " أما المسيح فيقول " إن موسى أذن " أو سمح" (1038).
وعندما وصف السيد المسيح الرجل الذي يطلق امرأته ويتزوج بأخرى بأنه رجل زاني احتج عليه الفريسيون: "قَالُوا لَهُ فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلاَق فَتُطَلَّقُ. قَالَ لَهُمْ إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلكِنْ مِنَ الْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هكَذَا" (مت 19: 7، 8) فقد كان الإنسان في العهد القديم قاسي القلب لم يقبل بعد نعمة سكنى الروح القدس داخله، فلو منع اللَّه الطلاق على الإطلاق في العهد القديم لتعرضت الزوجة للإهانة والعنف والتحطيم النفسي وربما إزهاق الروح، وربما انحرفت وخانت زوجها، لذلك أراد اللَّه حمايتها من كل هذه الأضرار فسمح بالطلاق معلنًا بغضه للطلاق: "مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الشَّاهِدُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ امْرَأَةِ شَبَابِكَ الَّتِي أَنْتَ غَدَرْتَ بِهَا وَهِيَ قَرِينَتُكَ وَامْرَأَةُ عَهْدِكَ... فَاحْذَرُوا لِرُوحِكُمْ وَلاَ يَغْدُرْ أَحَدٌ بِامْرَأَةِ شَبَابِهِ. لأَنَّهُ يَكْرَهُ الطَّلاَقَ قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ" (ملا 2: 14 - 16). وقد أكد السيد المسيح على أنه لا تناقض بين العهدين في شريعة الزواج والطلاق إنما هو تدرج للوصول لمرحلة الكمال دون أي نقض للناموس، ولذلك قبل أن يقول: "كُلُّ مَنْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَيَتَزَوَّجُ بِأُخْرَى يَزْنِي" (لو 16: 18)، قال في الآية التي تسبقها مباشرة: "وَلكِنَّ زَوَالَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ" (لو 16: 17)..
وللأسف فإن التلاميذ أيضًا كان لهم هذا الفكر اليهودي: "قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ إِنْ كَانَ هكَذَا أَمْرُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ فَلاَ يُوافِقُ أَنْ يَتَزَوَّجَ" (مت 19: 10)، وجاء رد الرب يسوع حازمًا وحاسمًا: "فَقَالَ لَهُمْ لَيْسَ الْجَمِيعُ يَقْبَلُونَ هذَا الْكَلاَمَ بَلِ الَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُم" (مت 19: 11). بل أن السيد المسيح عندما سمح بالطلاق لعلة الزنا، لم يجعل هذا وجوبًا ولزامًا وحتمًا على الطرف البريء أنه لا بد أن يُطلّق الطرف المخطئ، إنما إذا قدم المخطئ توبة صادقة قوية، واستطاع الطرف البريء أن يعفو ويسامح ويوافق على استمرار العشرة إنقاذًا للأطفال وللأسرة فليس هناك مانع في هذا، فالطلاق سيف يحمل معنى القطع، فمن يُطلّق زوجته كمن يستل سيفًا ويبتر أحد أعضائه، أما الطلاق بسبب علة الزنا فأنه يخرج من هذا الإطار، لأن الطرف الذي زنى صار في حكم العضو الميت، فمتى استأصله الطرف البريء لا يلام عليه.
ويقول "دكتور غالي" في موقع "هولي بايبل" ردًا على تساؤل: "هل شريعة المسيح بعدم الطلاق نسخت شريعة الطلاق (تث 24: 1)؟ "، فبعد أن إستفاض في مناقشة الأمر: "ملخص: السيد المسيح لم ينسخ ما جاء في العهد القديم، بل أوضح خطأ تطبيق اليهود لناموسه الذي قاله بفم موسى النبي. أن معنى الطلاق في العهد القديم هو قطع لحم، فالطلاق فقط لعلة الزنى، والذي يطلق زوجته بدون زنى فكأنه يقطع جزء من جسده، والمطلَّق الذي ارتكب الزنى لا يتزوج مرة أخرى لأنه أصبح جسدًا ميتًا، فلا يصلح أن يرتبط بجسد حي... ولكن من الممكن أن يعود لطرفه الأول بعد توبة حقيقية وندم كثير (إذا ما قبل الطرف البريء عودته)، ويكون في مثل هذه الحالة كالابن الضال الذي كان ميتًا فعاش... وأختم بقولي بأن كلام الرب لم يتغير في العهد الجديد عنه في العهد القديم ".
4ــ هل السيد المسيح منع الطلاق على الإطلاق (لو 16: 18) أم أحلَّه لعلة الزنا (مت 19: 9)؟ قلنا مرارًا وتكرارًا الأناجيل فيما بينها تتكامل ولا تتناقض، فاهتم القديس لوقا بالتأكيد على قول السيد المسيح بتحريم الطلاق: "كُلُّ مَنْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَيَتَزَوَّجُ بِأُخْرَى يَزْنِي وَكُلُّ مَنْ يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ مِنْ رَجُل يَزْنِي" (لو 16: 18)، وهذا ما أكد عليه أيضًا القديس مرقس: "قَالَ لَهُمْ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي عَلَيْهَا. وَإِنْ طَلَّقَتِ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ تَزْنِي" (مر 10: 11، 12)، ولم ينفي أي من القديس لوقا ولا القديس مرقس وقوع الطلاق في حالة زنى أحد الطرفين، فهما لم يناقضا ما جاء في إنجيل متى: "وَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ بِسَبَب الزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي" (مت 19: 9) فما جاء في إنجيل متى هو مُكمّل وليس مناقض لما جاء في إنجيلي لوقا ومرقس. وهذا أمر طبيعي ومعقول ومنطقي إذ ليس من المعقول أن يعيش طرف بريء مع طرف خائن زاني. وهذا ما استقر في وجدان الكنيسة منذ نشأتها وما قال به الآباء الأولين، فتجده في كتاب الراعي لهرماس (الوصايا 4: 1)، وفي الدفاع الثاني للشهيد يوستين، وكتاب ضد مركيون للعلامة ترتليان... إلخ.
وجاء في القانون (21) للقديس باسيليوس: "إذا إرتكبت الزوجة الفحشاء يحكم بطلاقها وإذا أبقاها الرجل عنده لا يُعد من الأتقياء" (1039). وجاء في القانون التاسع لقديس باسيليوس أيضًا: "إن الرب إلهنا ساوى بين الرجل والمرأة في المنع من الطلاق إلاَّ لعلة الزنا" (1040).
وسر الزواج في المسيحية مبني على قول السيد المسيح: "مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا" (مت 19: 5). إذًا الزواج ترك والتصاق، ترك للوالدين والتصاق للزوجين، فيعيشان تحت سقف واحد وقد وحَّدهما الروح القدس في جسد واحد، فإذا زنى أحد الطرفين فمعنى هذا دخول طرف آخر إليهما ليس من نفس الجسد، وهذا يفصم العلاقة الزوجية، فالزاني يترك شريك حياته ليلتصق بجسد آخر: "أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَنِ الْتَصَقَ بِزَانِيَةٍ هُوَ جَسَدٌ وَاحِدٌ لأَنَّهُ (يَقُولُ) يَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا" (1 كو 6: 16). وفكرة الجسد الواحد نجدها في بدء الخليقة، فعندما خلق اللَّه حواء لم يخلقها منفصلة عن آدم، بل أخرجها من جسد آدم، حتى أن آدم عندما أبصرها قال: "هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي... لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا" (تك 2: 23، 24)، وبسر الزيجة يرجع الإتحاد بين الزوجين، فيمثل الزوج رأس الجسد وتُمثل المرأة الجسد: "لأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ الْمَرْأَةِ... كَذلِكَ يَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءَهُمْ كَأَجْسَادِهِمْ. مَنْ يُحِبُّ امْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ... مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا" (أف 5: 23 - 31). إذًا وقوع أحد الزوجين في الزنا يعني دخول طرف ثالث بينهما يفصم العلاقة الزوجية القائمة.
وإن كان السيد المسيح لم يفصح عن مصير الطرف البرئ، لكن هذا واضح ضمنًا، فما دام الطلاق الناتج عن علة الزنا صحيح، فبالتالي زواج الطرف البريء إن لم يحتمل أن يلبث هكذا فهو صحيح، وهذا ما أخذت به كنيستنا. أما الكنيسة الكاثوليكية لا تعترف بالطلاق على الإطلاق حتى بسبب علة الزنا، إنما تسمح بالانفصال، فينفصل الزوجان ويلبث كل منهما منفردًا، يفترقان افتراقًا مؤبدًا بسبب الزنى، افتراق في المائدة والمضجع والمسكن مع بقاء الوثاق الزوجي بينهما. وقد سبق مناقشة هذا الموضوع بالتفصيل... ولا أدري لماذا تُحرم الكنيسة الكاثوليكية الطرف البريء الأمين من الزواج ثانية؟ ألا تحتاج الزوجة الأمينة إلى زوج آخر يهتم بها ويعولها عوضًا أن تتعرَّض للمخاطر وتصير مطمعًا للأشرار؟!! (راجع كتابنا: يا إخوتنا الكاثوليك... متى يكون اللقاء؟ جـ 2 أضواء على آراء ص297 - 303).
ويقول "الأب متى المسكين": "إن الزواج ينحل من تلقاء ذاته بسبب الزنا، لأن اللَّه هو الذي جمع، ودخول الزنا على وحدة الزيجة التي صنعها اللَّه يعتبر دخول النجاسة وأصبع الشيطان، فلا مكان لوحدة زيجة بعد. ولكن يعود المسيح ليقول أن الرجل الذي يتزوج بأخرى بعد أن طلق امرأته، إذا لم يكن بسبب الزنا، فهو يعتبر زانيًا، لأن الطلاق بدون العلة غير قانوني، وهو مرفوض من قِبَل اللَّه" (1041).
_____
(1036) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 2 ص139.
(1037) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص408.
(1038) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 2 ص142.
(1039) أورده الأرشمندريت حنانيا كساب - مجموعة الشرع الكنسي ص899.
(1040) المرجع السابق ص887.
(1041) الإنجيل بحسب القديس متى ص544.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/376.html
تقصير الرابط:
tak.la/43by5z3