س375: في مَثَل العبدين قال السيد المسيح: "فَتَحَنَّنَ سَيِّدُ ذلِكَ الْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ، وَتَرَكَ لَهُ الدَّيْنَ" (مت 18: 27)، فلم يقل له انتظر حتى أُصلب وأوفي دينك، فهل هذا يعني أنه لا ضرورة لكفارة المسيح على الصليب؟ وإن كان السيد قد عفى عن العبد وترك له دينه، فكيف يرجع عن وعده ويعود يقبض عليه بعنف ويلقيه في السجن؟ فكيف لملك عظيم أن يتراجع في هبته لعبده (مت 18: 34)؟
ج: 1ــ ما نطق به السيد المسيح (مت 18: 23 - 35) هو مَثَل لذلك قال: "يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَانًا مَلِكًا أَرَادَ أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ" (مت 18: 23) فواضح أنه تشبيه ومَثَل لتقريب معنى مُعيّن، فهدف المَثَل إن لم نغفر للآخرين فلن يُغفِر اللَّه لنا، ومن المستحيل أن مثلًا واحدًا يشمل جميع العقائد، فمثلًا في هذا المَثَل لم يذكر اسم اللَّه، فهل معنى هذا أن اللَّه غير موجود؟!! ولم يذكر هذا المَثَل أيضًا شيئًا عن الثالوث القدوس، فهل هذا يُنفي حقيقة الثالوث القدوس؟!! وكذلك لم يذكر شيئًا عن ضرورة الإيمان والمعمودية والأعمال الصالحة، فهل هذا يُنفي ضرورة الإيمان والمعمودية للخلاص؟!! وهل هذا يُنفي ضرورة الأعمال الصالحة كدليل على الإيمان العامل بالمحبة؟!!
ويقول "القس سمعان كلهون": "إن هذا المَثَل لا يقصد تعليمنا عن كيفية قبولنا عند اللَّه، بل عن الحالة التي يجب أن نكون فيها لنقبل الغفران منه. فالذي لا يغفر لا يقدر أن يقبل الغفران من غيره، ولم يقصد المسيح أن يعلمنا بكل مَثَل على حدة كل مضمون الخلاص، بل أن يوضح لنا أجزاء خصوصية منه فقط. أما تعليم الكفارة فمنصوص عليه كثيرًا في كل الكتاب المقدَّس وكفارة المسيح مفروضة في هذا المَثَل، لأنه بدونها لا ينال الإنسان الغفران، ولا يمكن أن يدخل الفكر عن الغفران عقل الإنسان" (1032).
2- هل اللَّه تراجع عن هبته لعبده؟ من جهة اللَّه فهو طيب القلب غفور بطبيعته: "أَمَّا هُوَ فَرَؤُوفٌ يَغْفِرُ الإِثْمَ وَلاَ يُهْلِكُ" (مز 78: 38).. " لأَنَّكَ أَنْتَ يَارَبُّ صَالِحٌ وَغَفُورٌ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ لِكُلِّ الدَّاعِينَ إِلَيْكَ... أَمَّا أَنْتَ يَارَبُّ فَإِلهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَالْحَقِّ" (مز 86: 5، 15).. " اَلرَّبُّ حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَة" (مز 145: 8 ). وأيضًا من جهة اللَّه لا يتراجع في هباته: "لَيْسَ اللَّه إِنْسَانًا فَيَكْذِبَ وَلاَ ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَلْ يَقُولُ وَلاَ يَفْعَلُ أَوْ يَتَكَلَّمُ وَلاَ يَفِـي" (عد 23: 19).. " لأَنَّ هِبَاتِ اللَّه وَدَعْوَتَهُ هِيَ بِلاَ نَدَامَة" (رو 11: 29)، فالإشكالية ليست من جهة اللَّه، إنما من جهة هذا العبد الذي لم يكن مستحقًا هذه المغفرة العظيمة التي عبَّر عنها بعشرة آلاف وزنة، فهو ذو قلب قاسي لم يستطع أن يسامح رفيقه المديون بمئة دينار بل أمسكه وألقاه في السجن حتى يوفي ما عليه. لقد أراد اللَّه أن يعلمنا من خلال هذا المَثَل أن مغفرته لنا متوقفة على مغفرتنا لأخوتنا، فقال: "اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ" (لو 6: 37).. " فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَّلاَتِكُمْ" (مت 6: 14، 15). فهبات اللَّه مشروطة بموجب هذا القانون الإلهي، وهذا العبد قاسي القلب لم يلتزم بهذا القانون الإلهي فأثار غضب سيده: "وَغَضِبَ سَيِّدُهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُعَذِّبِينَ حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْه" (مت 18: 34). وهب أن ملكًا عظيمًا أنعم على أحد أخصائه بنعم جزيلة ثم اكتشف عدم محبته له، وأنه يسعى في الأرض فسادًا... فهل يتركه بلا عقوبة؟!! وهل إذا نزع منه كل النعم التي وهبه إياها يُعدُّ هذا نقصًا يلحق بالملك؟!!
ويقول "ر. ت. فرانس": "كل ذلك الدين... إذا كان هذا مقدار الغفران الذي يُمنَح... فلا مجال إذًا لوضع حد لغفران المؤمن لغيره، وحقيقة أن دين العبد الثاني لا يُشكل سوى واحد على 000 600 من دين الأول، تؤكد سخافة موقف العبد الذي سامحه سيده بدين أكبر بما لا يُقاس ولذلك بالنسبة لتشدده في حقوقه لدى الغير... ومن الناحية العملية يُظهِر يسوع المشهد الأخير من المَثَل والذي يقوم على المَثَل في مجمله، فأولئك الذين لا يغفرون للناس لا يجب أن ينتظروا أن يُغفَر لهم، وهذه النقطة توضحت تمامًا وأكد عليها في الصلاة الربانية والتفسير الذي يليها (مت 6: 12، 14 - 15)" (1033).
3ــ قال السيد المسيح عن العبد الذي رفض الصفح عن دين أخيه أن سيده: "وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُعَذِّبِينَ حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ" (مت 18: 34) كما قال السيد المسيح عن الإنسان الذي يرفض أن يتصالح مع خصمه: "يُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الْحَاكِمِ فَيُلْقِيَكَ الْحَاكِمُ فِي السِّجْنِ. أَقُولُ لَكَ لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ" (لو 12: 58، 59)، وكلمة " حَتَّى " في الآيتين السابقتين تعني الاستحالة، ففي السجن لا يستطيع أن يعمل وليس له دخل يوفي مديونيته الرهيبة، فهذا الدين يساوي خمسين مرة الضريبة السنوية لمنطقة الجليل وبيريه، فقد ذكر يوسيفوس أن ضرائب الجليل وبيريه السنوية في ذلك الحين تبلع 200 وزنة (راجع العادات اليهودية 17: 318) بينما هذا الرجل مديون بعشرة آلاف وزنة.
ويقول "متى هنري": "إن ديوننا من نحو اللَّه لا يمكن الإتفاق على تسويتها، فأما أن تُغفَر كلها، أو يُقتص منها كلها، والقديسون الممجَّدون في السماء يتمتعون بمغفرة كل خطاياهم لأن المسيح قد وفَّاها كلها، أما الخطاة الهالكون في جهنم فأنهم يوفون الكل، أي يعاقبون من أجل الكل" (1034).
ويقول "دكتور وليم إدي": "حتى يوفي كل ما كان له عليه: لا فرق بين هذا القول وقولنا إلى الأبد لأنه قيل في (ع 25): "لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوفِي "، فقيد خروج ذلك العبد بشرط مستحيل وهو أوضح بيانًا لأبدية عقابه. وهذا يشبه ما كان من الفوكيين في بلاد اليونان، فأنهم تركوا مدينتهم وألقوا كرة حديد في مكان عميق في البحر وأقسموا أنهم لا يرجعوا إلى أن تعوم كرة الحديد على وجه الماء. ولا ريب في أنهم أرادوا أن لا يرجعوا أبدًا. فالواقع أن العدل دان ذلك العبد والرحمة لم تلتفت إليه، كذلك الخاطئ في سجن اللَّه لا يُرجى نجاته إلى الأبد.
فلا صحة لما أستنتجه البعض من هذا العدد في أنه يحتمل أن الخاطئ يوفي الدين للَّه بمُقاساته عذاب جهنم ألوفًا من السنين لأنه لا يُوفَى دين الخاطئ إلاَّ بفداء يسوع المسيح، فلا تُوفى الأعمال الصالح ولا إيلام المعذبين من الخطايا الماضية. فالذين خابوا من رحمة المسيح في الحياة يخيبون منها إلى الأبد" (1035).
_____
(1032) إتفاق البشيرين ص213.
(1033) تعريب أديبة شكري - التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد ــ إنجيل متى ص308.
(1034) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 2 ص135.
(1035) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل جـ 1 شرح بشارة متى ص311، 312.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/375.html
تقصير الرابط:
tak.la/p4cxya9