س372: هل خطية العثرة تقابل بالإغراق في لجة البحر (مت 18: 6)؟ وكيف يوصي السيد المسيح بتقطيع الأيدي والأرجل وفقأ العيون (مت 18: 8، 9)؟ فهل سكان الملكوت من العور والعرج والقطع؟ ولماذا لم يستخدم السيد المسيح مفردات أخف وطأة من هذه الألفاظ؟ وهل للأولاد ملائكة في السماء ينظرون وجه اللَّه (مت 18: 10)؟ (راجع علاء أبو بكر - البهريز جـ 5 س96).
ج: 1ــ قال السيد المسيح: "وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ حَجَرُ الرَّحَى وَيُغْرَقَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ" (مت 18: 6). فكما أن السيد المسيح اعتبر قبول ولد بِاسمه يعدُّ قبولًا له شخصيًا، فبنفس المعيار كل من يُعثِر ولدًا فإن هذه العثرة موجّهة للسيد المسيح شخصيًا، فإن كان القصاص شنيع فهذا يرجع إلى شناعة الخطية. والإغراق في البحر في الفكر اليهودي يعادل الفناء، ولذلك لم يُستخدم كوسيلة للإعدام في التاريخ اليهودي، ويذكر يوسيفوس في كتاب "تاريخ اليهود" أنه عندما حدثت ثورة عظيمة في الجليل، أمسك الجليليون برجال هيرودس وأغرقوهم في بحر الجليل كنوع من الموت الشنيع. وكما أن خطية العثرة خطية شنيعة هكذا نتائجها سيئة للغاية، فلا ننسى أن عثرة آدم وحواء أغرقت البشرية في بحر الهلاك الأبدي، وعثرة بلعام تسببت في هلاك أربعة وعشرين ألفًا من بني إسرائيل، وظلت عثرة بلعام يتردَّد صداها حتى سفر الرؤيا (رو 2: 14)، وعثرة يربعام بن نباط جرت مملكة إسرائيل للهلاك: "خَطَايَا يَرُبْعَامَ بْنِ نَبَاطَ الَّذِي جَعَلَ إِسْرَائِيلَ يُخْطِئُ" (2 مل 10: 29)، فالعثرة تتسبَّب في هلاك النفوس البسيطة التي مات المسيح لأجلها، والعثرة هيَ مصيدة ينصبها الشيطان ليصطاد النفوس، وكان لا بد من وقفة صارمة أمام هذه الخطية التي تنسحب آثارها على الغير، ولذلك وقف أمامها السيد المسيح بكل قوة يطالبنا بالبُعد عنها حتى لو إضطرنا الأمر إلى قطع عضو من أعضاء جسدنا، وحتى لو كان في غلاوة العين (مت 18: 8، 9). ومن أشنع أنواع العثرات عندما يستخدم الشيطان شابة أو شاب في إسقاط الآخرين في النجاسة فيفقدون شرفهم ويسلبون منهم حياة الفضيلة ويسلمونهم لحياة الرذيلة، حتى تصبح الحياة بأكملها بلا معنى ولا هدف، وتصير ثقلًا لا يُحتمل... من يفعل هذا ويتبرأ أمام الملك المسيح؟!! وقد سبق الحديث في هذا الأمر، فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد ــ عهد جديد جـ 3 س265.
2ــ لم يقصد السيد المسيح بقطع اليد أو الرجل أو فقأ العين المعنى الحرفي، إنما قصد مقاومة الخطية إلى المنتهى: "لَمْ تُقَاوِمُوا بَعْدُ حَتَّى الدَّمِ مُجَاهِدِينَ ضِدَّ الْخَطِيَّة" (عب 12: 4)، وعندما نفذ أوريجانوس هذه الوصية حرفيًا لم تقرّه الكنيسة على هذا. ويقول الأديب الكبير "عباس محمود العقاد": "ولكن " أوريجين " نفسه قد عدَّل عن خطئه بعد زمن كما أسلفنا، وسبقه وجاء بعده أناس من طبقته وأيقنوا أن السيد المسيح قصد المعاني ولم يقصد الحروف حين أوصى بكف الأعضاء عن نزعات الجسد، فلم يعنِ بفقأ العين إلاَّ ما نعنيه بقطع اللسان حين نريد به السكوت أو الإسكات، ولم يعنِ بقمع الجسد إلاَّ ما نعنيه بقمع الرياضة والتربية. وكان كلمنت الإسكندري يقول بحق أن السيد المسيح لا يعني بنبذ المال أن نرفضه بتاتًا في جميع الأحوال، وإلاَّ لم يكن الإحسان فضيلة من أكبر الفضائل في الوصايا المسيحية، وجاء القديس أوغسطين بعد ذلك فنفى أن الدين يوجب الزهد على كل أحد، مع استحسانه الزهد لمن يقدر عليه... وفي اعتقادنا أنه لا محل للخلاف على الوصايا التي وجهها السيد المسيح لتلاميذه ورسله المتجردين لنشر الدعوة...
أقول حقًا أنني أفهم وصايا السيد المسيح جميعًا ولا أجد في فهمها صعوبة على الإطلاق إذا أنكرنا الجمود على الحروف والنصوص كما كان يذكرها عليه السلام، وإذا علمنا أن عليه السلام قد قال كل شيء حين قال ولخَّص حكمته كلها في هذا المقال: ليس الإنسان للسبت وإنما السبت للإنسان" (1021).
ومن المعلوم أن ذوي العاهات في القيامة العامة سينهضون من تراب الأرض بلا عاهات، فخير للإنسان أن يفقد أحد أعضائه في هذه الحياة ولا يفقد حياته الأبدية، ويقول "وليم ماكدونالد": "فإذا كان العضو الخاطئ هو اليد أو الرجل أو العين فإخضاعه لسكين الجراح أفضل من السماح له بتخريب عمل اللَّه في حياة إنسان آخر. فخير لنا أن ندخل الحياة الأبدية بغير أعضاء من أن نذهب إلى الجحيم وأجسادنا كاملة سليمة. ولا يعني ذلك أن بعض الناس ستنقصهم أعضاء في السماء، إنما يصوَّر لنا فقط حالة المؤمن الجسدية في الوقت الذي يمضي فيه من هذه الحياة إلى العتيدة. فما من شك أن الأجساد المقامة ستكون كاملة" (1022).
3ــ نعم استخدم السيد المسيح عبارات قاسية: "مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي النَّارِ الأَبَدِيَّة".. " أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمِ النَّارِ" فهيَ عبارات قاسية ولا سيما أنها صادرة من السيد المسيح مصدر الحنان، المحبة المتجسّدة، ولكن كان هناك ضرورة لهذه القسوة التي تُنقذ نفوسًا من الهلاك، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. لأنه مكتوب: "تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْـدَةٍ" (في 2: 12). ويقول "دكتور وليم إدي": "فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِه: أي أفضل له أن يموت قتلًا من أن يكون علة سقوط غيره في الخطية وهاوية الهلاك الأبدي وكذلك الطرح في بحيرة الماء خير من الطرح في بحيرة النار والكبريت (رؤ 19: 20)"(1023).
4ــ قال السيد المسيح: "اُنْظُرُوا لاَ تَحْتَقِرُوا أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مَلاَئِكَتَهُمْ فِي السَّمَاوَاتِ كُلَّ حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (مت 18: 10) وليس المقصود أن كل ولد يملك ملاكًا في السماء يخصَّه، إنما السيد المسيح قصد أن يشير إلى هؤلاء الأولاد الذين تحوّطهم وتحرسهم ملائكة اللَّه، فيعقوب عند عودته من عند خاله لابان كان في حراسة الملائكة: "وَأَمَّا يَعْقُوبُ فَمَضَى فِي طَرِيقِهِ وَلاَقَاهُ مَلاَئِكَةُ اللَّه" (تك 32: 1)، والثلاث فتية في آتون النار أبطل الملاك لهيب الآتون حتى قال نبوخذ نصر: "تَبَارَكَ إِلهُ شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ الَّذِي أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَأَنْقَذَ عَبِيدَهُ.." (دا 3: 28)، وملاك الرب سدَّ أفواه الأسود الجائعة فقال دانيال: "إِلهِي أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَسَدَّ أَفْوَاهَ الأُسُودِ" (دا 6: 22)، وقال المرنم: "مَلاَكُ الرَّبِّ حَالٌّ حَوْلَ خَائِفِيهِ، وَيُنَجِّيهِمْ" (مز 34: 7) وقال بولس الرسول عن الملائكة: "أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحًا خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ الْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا الْخَلاَصَ" (عب 1: 14)، وأنقذ ملاك الرب بطرس من السجن فقال: "الآنَ عَلِمْتُ يَقِينًا أَنَّ الرَّبَّ أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَأَنْقَذَنِي مِنْ يَدِ هِيرُودُسَ وَمِنْ كُلِّ انْتِظَارِ شَعْبِ الْيَهُودِ" (أع 12: 11).
وجاء في "التفسير التطبيقي": "فهناك ملائكة معنيون لرعاية الأطفال ولهم حق المثول أمام اللَّه، ويجب أن يرتفع رنين هذه الكلمات بكل قوة في المجتمعات التي تستهين بالأطفال أو تتجاهلهم، أو تبيح الإجهاض، فإن كان لملائكتهم حق المثول أمام اللَّه باستمرار، فأقل ما نعمله هو أن نسمح للأطفال بالاقتراب منا بسهولة بالرغم من حياتنا البالغة الإزدحام" (1024).
ويقول "الأب متى المسكين": "الجديد الذي يضعه المسيح هنا أمام أعين المتعظمين بذواتهم أن للصغار ملائكة تحرسهم، وكل إهانة للصغار تطال ملائكتهم. فلا يكون ذلك من مصلحة القائمين بالإزدراء، لأن ملائكة الصغار المُزدرى منهم يتراءون أمام وجه الآب الذي في السموات، لكي يعطون تقاريرهم عن عملهم... وللكنيسة عقيدة موروثة أن الأولاد تحت حراسة ملائكية، يحافظون عليهم وينقذونهم ويرشدونهم، وهم أكثر عناية وحبًا من الأب والأم. من هنا وجب تكريمهم وإعزازهم وعدم الإساءة إليهم بأي حال... وكثير من المؤمنين المفتوحي العينين رأوا الملاك الذي يحرسهم وإستدعوه في الضيقة فحضر في الحال" (1025).
_____
(1021) حياة المسيح في التاريخ وكشوف العصر الحديث ص169، 170.
(1022) تفسير العهد الجديد جـ 1 ص125، 126.
(1023) الكنز الجليل في تفسير الأنجيل جـ 1 شرح بشارة متى ص299.
(1024) التفسير التطبيقي ص1931.
(1025) الإنجيل بحسب القديس متى ص530.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/372.html
تقصير الرابط:
tak.la/b9fyt3x