س265: كيف يأمر السيد المسيح بقلع العين اليمنى وقطع اليد اليمنى (مت 5: 29، 30)، بينما يُنهي بولس الرسول عن تشويه الجسد قائلًا: "انْظُرُوا فَعَلَةَ الشَّرِّ. انْظُرُوا الْقَطْعَ" (في 3: 2)، و" فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَـدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ" (أف 5: 29)؟ ولماذا خص السيد المسيح بالذكر العين اليمنى واليد اليمنى دون اليسرى؟
ج: 1ــ لم يقصد السيد المسيح المعنى الحرفي لهذه الوصية، بل المعنى الروحي، لأنه لو قلع الإنسان عينه حقيقة دون إصلاح الداخل فإن الشهوة ستظل كامنة في القلب، ويقول "الدكتور صموئيل حبيب": "وضبط النفس لا يأتي بقطع عضو من الجسم فقلع العين (مت 5: 29) وقطع اليد (مت 5: 30) لا يعالج المشكلة، فلو قلع إنسان عينه، فهو لا يمتنع عن الشهوة، فمشاعر الشهوة موجودة في دافع داخل الإنسان أبعد من عينيه، وقطع يد السارق (مثلًا) لا تعالج السرقة، فرغبة السرقة تتواجد في دافع في أعماق الإنسان، أبعد من اليد، ودور اليد هو معاونة هذا الدافع الداخلي، وتنفيذ إرادته" (602).
لقد قصد السيد المسيح من هذه الوصية إثارة حماس الإنسان ضد حواسه الشريرة، حتى لو كانت عينه أو يده، فيسرع إلى ضبط هذه الحواس قبل أن تُحدِره إلى الهاوية، وليُدرّب الإنسان نفسه كأيوب الصديق الذي قال: "عَهْدًا قَطَعْتُ لِعَيْنَيَّ فَكَيْفَ أَتَطَلَّعُ فِي عَذْرَاءَ" (أي 31: 1)، وقلع العين كناية عن كف العين عن النظرات الشريرة وكأنها لا تعمل، بل وكأنها قد ماتت: "فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ الزِّنَا النَّجَاسَةَ الْهَوَى الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ الطَّمَعَ.." (كو 3: 5).. " بَلْ أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضًا" (1 كو 9: 27).. " لأَنَّهُ إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ" (رو 8: 13). ووراء النظرات الشريرة قلب ملوَّث بالخطية وعاطفة مستبيحة، فالعين واليد مجرد وسائل تُعبّر عما في داخل الإنسان، ولذلك قال السيد المسيح: "كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ" (مت 5: 28)، فكل من العين واليد عبارة عن قِطع شطرنج لا تتحرك من ذاتها. ويقول "الأب متى المسكين": "إن العين التي تنظر هيَ النافذة المفتوحة على الخطية وهيَ المسئولة عن حركة خطية الزنا، فجعلها المسيح القاعدة التي يبدأ عنها الحساب، فكل من نظر إلى امرأة ليشتهيها في قلبه فيحسب أنه أكمل الفعل، وهنا ينتقل المسيح في الحال من العين إلى القلب والضمير، حيث الشهوة لا تكمن في العين بل تكمن في القلب المحسوب أنه قاعدة الشهوات والنزوات والرغبات النفسية، فالشهوة تعبّر عن نفسها تعبيرًا فاضحًا في نظر العين، ولا يغيب كشفها في الحال ! والمرأة أول من يكتشف فسق الرجل من نظراته، فهنا ليست الطبيعة هيَ المسئولة بعد بل الإرادة المنحرفة غير الخاضعة ولا منضبطة، فهنا العقوبة تقع على الإنسان تمامًا كعقوبة الزنا الفعلي، لذلك قال المسيح تعقيبًا على من نظر إليها بقوله: "لكي يشتهيها " فقد زنا بها في قلبه "أي أن الشهوة أكملت مشوارها الإرادي سرًّا في القلب، فوجبت العقوبة... أما العقوبة فينبغي أن تقع على العين العاثرة لأن بدون العين لا ينظر الإنسان ليشتهي. وهنا امتنعت أن تكون العقوبة من قِبل القاضي بل من قِبل الإنسان نفسه لأنه يكون هو المسئول عن هذه العقوبة على نفسه" (603).
2- المقصود بالعين اليمنى واليد اليمنى الصديق الصدوق للإنسان، فمتى كان هذا الصديق الوحيد فاسدًا وجب مقاطعته، حتى لو بلغت معزتنا له كالعين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فيقول "القديس أغسطينوس": "إننا نحتاج إلى شجاعة عظيمة لقطع أحد أعضائنا، لذلك فهو يقصد بالعين شيئًا محبوبًا للغاية، فلقد إعتاد الراغب في التعبير عن محبته لآخر أن يقول: "أنني أحبه كعيني أو حتى أكثر من عيني". لذلك ربما قصد الرب من العين شدة المحبة... وعلى هذا يكون معنى العبارة السابقة أنه إذا أعثرك شيء ما تحبه -كعينك اليمنى- في الطريق، أقلعه وألقه عنك، لأنه خير لك أن يهلك شيء من الأشياء التي تحبها وتتمسك بها كعضو من أعضائك، ولا يُلقى جسدك كله في جهنم" (604).
ويقول "نيافة المتنيح الأسقف إيسيذورس": "المراد بالعين اليمين الصديق والمشير السوء الذي يمهد لصديقه طرق الخطية ووسائلها ويحبّبها لديه ويجسّره على ارتكابها وكذلك اليد اليمين فإن المراد بها الخل الذي يثق به الإنسان ويعتمد عليه كما يعتمد على يمينه في العمل وقضاء الحوائج ودفع المضار وجلب المنافع فإن بدت من هذا الخل أمور تعيق عن الخلاص وتقف حجر عثرة أمام المؤمن وتلميذ الإنجيل وعضو المسيح فإن نبذه وطرحه والبعد عنه يصبح أولى وأحرى" (605).
ويقول "دكتور وليم إدي": "فخير للإنسان أن يخسر أعضائه من أن يخسر عفته الأدبية، فغاية هذه الآية قطع أسباب ارتكاب الخطية، وذلك يستلزم إبطال عوائد غريزية إن كانت هذه العوائد عثرة لنا...
وَأَلْقِهَا عَنْكَ: كأنها مكروهة لكونها علَّة الخطية، وكما أن الجرَّاح لا يمتنع عن بتر أحد أعضاء الجسد قصد حفظ الحياة، هكذا نحن يجب أن لا نعبأ بخسارة عالمية مهما كانت عظيمة لكي نخلّص حياتنا الأبدية لأن كل الخسائر العالمية لا تعادل خسارة رضى اللَّه وخسارة النفس... فخسارة عضو من أعضائنا برضانا إلى وقتٍ ما، خير من خسارة الجسد كله على الرغم منا إلى الأبد، في جهنم: محل العذاب" (606).
3ــ قصد بولس الرسول من قوله: "انْظُرُوا فَعَلَةَ الشَّرِّ. انْظُرُوا الْقَطْعَ" المتهودين الذين سعوا إلى إفساد الإيمان المستقيم وتشويهه، ومعنى " الْقَطْعَ " الذين يقطعون أجزاء من أجسادهم، إشارة للختان الجسدي الذي اعتقد به المتهودون كطريق لا غنى عنه للخلاص بجوار الإيمان بالمسيح (راجع كتابنا: رسالة فيلبي ط 2 سنة 2016م ص117 - 120)، فواضح أن السيد المسيح يحدثنا عن كيفية التغلب على العثرات التي تقابلنا، بينما بولس الرسول يحدثنا عن بدعة التهود وأولئك المتهودين الذين صاروا مصدر عثرة في الكنيسة ويحذرنا منهم، وكما رأينا لم يقصد السيد المسيح على الإطلاق أن نشوّه أجسادنا، وعندما تحدث السيد المسيح عن "العثرة" حملت الكلمة في معناها وأصلها اليوناني تعبير المصيدة، فقال "وليم باركلي": "الكلمة المستخدمة هنا بمعنى "العثرة" جديرة بالالتفات، فالكلمة من أصل يوناني هو Skandalon، وهيَ مشتقة من كلمة معناها: "العصا الذي يُثبت فيها الطُعم في الفخ ". ففي هذه العصا يوضع الطعم لإغراء الحيوانات في دخول المصيدة أو الفخ، وبذلك تكون أداة في هلاكها، فكأن الكلمة تعني كل ما يتسبب في هلاك الإنسان، ووراء هذه الكلمة صورتان:
الصورة الأولى: صورة حجر مُخبَّأ في طريق إنسان ليصطدم به، أو حبل ممتد في طريق إنسان ليقع به.
والصورة الثاني: صورة حفرة في الأرض، ومغطاة بعناية ببعض القش والأغصان، فلا يراها الإنسان، ويضع أقدامه عليها فيسقط في الحفرة.
إن العثرة هيَ الشيء الذي يصيد الإنسان ويخدعه ويؤدي إلى هلاكه" (607).
4ــ تساءل البعض: لماذا تحدث السيد المسيح عن العين اليمنى دون اليسرى؟ يقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": "من يتعثر بعينه اليمنى يسقط بالتأكيد في ذات الشر بعينه اليسري أيضًا. إذًا لماذا أشار إلى العين اليمنى كما أضاف إليها اليد (اليمنى)؟ إنما لكي يظهر أنه يتحدث عن الأعضاء بل على من هم أقرباء لنا" (608).
ويقول "متى هنري": "فخير لنا قلع العين وقطع اليد، ولو كانت العين اليمنى واليد اليمنى، وهما أنفع الأعضاء وأكثرها كرامة، من أن تتلوثا بالخطية لهلاك النفس: "فاقلعها... فاقطعها ". وإن كان من الضروري الخضوع لهذه الوصية، وهذا ما تفزع منه الطبيعة جدًا، فحرى بنا " أن نقمع الجسد ونستعبده ". أن نحيا حياة إنكار الذات وإماتة الشهوات، أن نسهر دوامًا لحراسة قلوبنا لكي نبعد عنها كل ما يحرك فيها الشهوة ويجرها إلى النجاسة، أن نتجنب كل مسببات الخطية بمقاومة كل ما يحركها والإبتعاد عن عِشرة أولئك الذين يكونون غواية لنا مهما كانوا محبوبين إلينا... وهكذا " نسلك في الروح فلا نكمّل شهوة الجسد ". كل هذا يفعل فينا كقلع العين اليمنى أو قطع اليد اليمنى... هناك بعض الخطايا التي يجب أن نخلص منها "بالخوف" (يه 23) خصوصًا "الشهوات الشبابية" التي هيَ "كحيوانات غير ناطقة طبيعية" (2 بط 2: 12) لا يمكن كبح جماحها إلاَّ بالتخويف والتهديد، ولا يمكن إبعادها عن الشجرة المحرَّمة إلاَّ بكروبيم ولهيب سيف" (609).
_____
(602) الموعظة على الجبل شريعة أم طريق حياة ص149.
(603) الإنجيل بحسب القديس متى ص243، 244.
(605) مشكاة الطلاب في حل مشكلات الكتاب ص455.
(606) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل جـ 1 شرح بشارة متى ص70، 71.
(607) تفسير العهد الجديد المجلد الأول ص94.
(608) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص125.
(609) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص154، 155.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/265.html
تقصير الرابط:
tak.la/v6k9tmh